جوهر رؤية الخبير الاقتصادى المصرى العالمى الدكتور محمد العريان التى يطرحها مؤخرا بشأن مواجهة الركود الحالى فى الاقتصاد الدولى ان الحكومات تركت البنوك المركزية بمفردها فى التعامل مع التداعيات الناجمة عن الأزمة المالية العالمية التى وقعت فى سبتمبر 2008، مشيرا الى ان غياب السياسات المالية الملائمة ادى الى بطء تعافى الاقتصادات من هذه الأزمة، ومؤكدا ضرورة تضافر وتناغم السياسات النقدية والمالية حتى يمكن ايجاد حلول للأزمات الاقتصادية الراهنة.. وهذا ما يهمنا. ورغم اختلاف مكونات الأزمة هنا وفى الخارج فإن طرح العريان يظل صحيحا فيما يتعلق بطرق معالجة الوضع الاقتصادى الراهن فى مصر، وهو ما أشار اليه فى محاضرة له امام غرفة التجارة الامريكية بالقاهرة قبل ايام، حيث شدد مجددا على ضرورة مساندة الحكومة لجهود البنك المركزى بحزمة من التشريعات المالية الاصلاحية حتى يمكن اعادة التوازن لمؤشرات الاقتصاد الكلى بما يسمح بالقضاء على التشوهات الراهنة واستئناف النمو بمعدلات مرتفعة وثابتة تحقق امانى الناس وامانى ثورتى يناير ويونيو. القضية إذن ان ما نشهده حاليا من ارتباك فى اسواق الصرف وعمليات تمويل الواردات لا يمثل أزمة بذاتها وانما هو عرض لمرض اخطر يتعلق بعجز السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة عن مواجهة اثار تدهور موارد الدولة من النقد الاجنبى للاسباب المعروفة. فى الملف الذى ستطالعه على صفحات هذا العدد سوف تجد انتقادات عنيفة للخبراء بشأن التناقض الواضح بين السياسات المالية والنقدية مع ما يعنيه ذلك من ارتباك، وربما تخبطا يحير ليس فقط المحللين لأداء الاقتصاد المصرى ولكن ايضا والاهم المستثمرين المحللين والاجانب الذين يتعاملون او يرغبون فى العمل بالاسواق المحلية. وعلى حد قول احد الخبراء فإن الافراط فى الانفاق العام وتضخم عجز الموازنة ينبئ بانتهاج الحكومة لسياسات توسعية فى الجانب المالي، فيما يشير اصرار البنك المركزى على الدفاع عن العملة الوطنية عبر الرفع المتتالى لاسعار الفائدة وتحجيم المعروض النقدى الى تبنيه لسياسة انكماشية تستهدف خفض السيولة بالاسواق. للوهلة الاولى فإن هذا التضارب يتناقض بالطبع مع مفاهيم علوم الاقتصاد، غير ان وضع الامر كله فى سياقه السياسى والاجتماعى يوضح ان التضارب بين السياستين المالية والنقدية نتج عن اجراءات ضرورية لاعتبارات اجتماعية، فلم يكن ممكنا خلال السنوات السابقة التضحية بقيمة الجنيه لانعاش الاقتصاد كما يحدث فى دول اخرى، كما كان متعذرا الى حد بعيد تخفيض بنود الموازنة المرتبطة بالدعم والاجور والتعليم والرعاية الصحية لأنها تؤثر سلبا على معيشة الشرائح الاقل دخلا فى المجتمع، بمعنى اخر فان الحالة الثورية التى عشناها خلال السنوات الخمس السابقة فرضت على الجميع اتخاذ اجراءات «استرضائية» اسفرت عن هذا التناقض فى السياسات خلافا للمعايير الاقتصادية المتعارف عليها. اليوم، وبعد مرور اكثر من 5 سنوات على الثورة وبعد اكتمال خارطة الطريق السياسية بانتخاب مجلس النواب اصبحت الاجواء مهيأة اكثر للالتفات الى الاصلاحات المطلوبة على مستوى الاقتصاد الكلى التى يأتى فى مقدمتها اعادة التناغم المفقود بين السياسات المالية والنقدية والاقتصادية وان تحدد الدولة توجهاتها بدقة واعلام الناس ان كل قرار يتخذ فى هذا الشأن له تكاليفه الاجتماعية التى يجب ان توزع اعباء الاصلاح بنزاهة وان يتحملها الجميع بصبر . وفى ظل وجود مجلس للنواب وحياة حزبية مهما كان الرأى فيها فإن التوافق على رؤية اقتصادية للمستقبل القريب والمتوسط بما تتطلبه هذه الرؤية من تفاصيل واجراءات يصبح ايسر واكثر سهولة، مع اعلام الجميع بمسئولية ان زيادة معدلات النمو فى ظل الظروف الراهنة ستتطلب انتهاج سياسات توسعية وجريئة توظف من اجلها السياسات النقدية والمالية فى تناغم وانسجام ولاشك ان اجراءات تنفيذ هذه السياسات سيكون لها اثارها على التضخم وعلى الاسعار وربما تحتاج الى التوسع فى الانفاق الاستثمارى على حساب الانفاق الاجتماعى وهذه كلها امور يجب ان تتوافق عليها الاحزاب، وتتقرر داخل البرلمان، ويكون مسئولا عنها الجميع . وللانصاف فإن العامين الماضيين شهدا ابتكارات مهمة فيما يتعلق بتمويل المشروعات القومية من موارد خارج الموازنة العامة وابرز مثال على ذلك تنفيذ مشروع قناة السويس الجديدة وكذلك مشروعات الاسكان الشعبى الذى يتم تدبير غالبية تكاليفه من الموارد الخاصة للمجتمعات العمرانية الجديدة بالتعاون مع الشركاء العرب، غير ان كل هذه الاجتهادات لن تغنى عن ضرورة ضبط الانفاق العام على الاجور والدعم الذى يمثل نحو نصف مصاريف الموازنة السنوية، وسوف يصبح ضروريا هنا تعويض الشرائح المتضررة من خفض الانفاق الاجتماعى من خلال موارد اضافية يتحملها الاكثر قدرة وفى مقدمتها بالطبع الضرائب. بالنسبة للشركات فإن أى زيادة فى الاعباء الضريبية من خلال القيمة المضافة او على مجمل الارباح التجارية فإنها لن تمثل مشكلة كبيرة لأن حسابات التشغيل قادرة فى النهاية على امتصاص اثر الزيادات الضريبية والتجارب السابقة تؤكد استيعاب الاسواق لكل عبء ضريبى اضافى رغم المهاترات الكثيرة التى تصاحب عادة الاعلان عن هذه الضرائب، وبالنسبة للمستثمرين ورجال الاعمال فإن توافر الدولار عندما يحتاجه هو الهم الاول له، اما سعر الجنيه فلا يمثل مشكلة سواء كان الدولار يعادل 9 جنيهات او اكثر او اقل لأنه يجرى حساباته فى ضوء القيمة السائدة اما استمرار الغموض فى اسعار الصرف او السياسة الضريبية فهو اسوأ سيناريو بالنسبة للشركات ومجتمع الاعمال كله. قطاع الأعمال.. مرة أخرى تلقيت بقدر من الاندهاش دعوة الكاتب الصحفى الدكتور أحمد السيد النجار لعودة وزارة قطاع الاعمال مرة اخرى فى مسعى جديد لانقاذ الشركات المملوكة للدولة وتحويلها الى اصول قادرة على الانتاج بكفاءة وتوليد الارباح، وقد كان ظنى للوهلة الاولى ان هذه الدعوة لن تجد صدى بين الخبراء والمهتمين باصلاح الاقتصاد، وبصورة عملية قررنا طرح الدعوى للنقاش بين المختصين، وقد هالنى ان الاقتراح لاقى قبولا اكثر مما توقعت، كذلك كانت هناك اصوات معارضة، كما ستقرأ على صفحات هذا العدد. ومع اتفاقى مع الدكتور النجار على الانجاز الذى صنعه القطاع العام واستمر لنحو عقدين من الزمان، الا انه منذ الثمانينيات من القرن الماضى تحولت الشركات العامة الى مصدر قلق وعبء على الاقتصاد الوطني، ولا ننسى ان البحث عن حلول لاقالة القطاع العام من عثرته كان على رأس اجندة «المؤتمر الاقتصادى» الذى عقده الرئيس مبارك فى فبراير 1982 وسط أزمة اقتصادية تزامنت مع توليه السلطة، ومنذ هذا التاريخ وحتى الان جربت كل ادوات الاصلاح على هذا القطاع البائس بما فى ذلك السعى نحو خصخصة بعض هذه الشركات، الا ان النتائج جاءت متواضعة بما فى ذلك غالبية الشركات التى جرت خصخصتها بطريقة مشوهة على نحو ما يعلم الجميع. ووفقا لما هو معلوم فقد جرى انفاق عشرات المليارات من الجنيهات على وحدات القطاع العام خلال العقود الثلاثة الاخيرة، وجاءت النتائج متواضعة للغاية « 2.1 مليار جنيه حجم الارباح المحولة للخزانة العامة حصيلة عمل 135 شركة مازالت فى رقبة الدولة» كما ان عشرات الشركات تحتاج الى اعانة مستمرة «شيك شهرى» من وزارة المالية لدفع رواتب العاملين بها «1.1 مليون موظف وعامل» . ان شئنا الصراحة فإن عصب مشكلة الشركات العامة تكمن فى الادارة، اما المشكلة التى توازيها فتلك التى تتعلق بالتمويل، ثم بعد ذلك مشكلة لا تقل اهمية تتعلق بحجم العمالة الضخم فى هذه الشركات التى لا تتناسب، وفقا لأى معايير اقتصادية، مع ظروف التشغيل وحجم الاعمال، وكان طبيعيا ان تفرز هذه الامراض تخلفا تقنيا على الصعيدين الادارى والفنى، فماذا يمكن ان تفعل وزارة حكومية فى التعامل مع هذه المشكلات. منذ انتهاج سياسات الانفتاح الاقتصادى عام 1974 ولعقدين تاليين من الزمان كان «كوادر» القطاع العام هم نجوم العمل فى الشركات الخاصة يديرون اعمالها بكفاءة واقتدار وفقا لما تعلموه فى مدرسة القطاع العام فى الستينيات.. اليوم الوضع اختلف 180 درجة حيث تستدعى الدولة المديرين من القطاع الخاص لادارة الشركات العامة ضمن محاولات الانقاذ المتوالية، ومع ذلك جاءت النتائج متواضعة لأن الخلل فى النظام او فى التركيبة التى اصبحت عليها الاحوال فى الشركات العامة. الادارة والتمويل والعمالة الزائدة اضافة الى التخلف التقنى اربع معضلات تواجه وحدات قطاع الاعمال وهذه لا تحتاج الى وزارة ووزير وهيئة فنية كما كان الحال عليه عندما كان للقطاع وزارة تحميه، وانما تحتاج الى قرار سياسى يعتمد على دراسة فنية معمقة ونزيهة تعرض نتائجها على المجلس النيابى ليتخذ فى ضوئها التوصيات اللازمة.. وتقوم الحكومة بعد ذلك بتنفيذها.