يعد تردى الوضع المالى للدولة المصرية أحد أهم التحديات التى تواجه حكومة الببلاوى. فالعام المالى المنصرم (2012/2013) شهد زيادة فى عجز الموازنة العامة للدولة ليصل إلى 11.5% من الناتج المحلى الإجمالى، فى حين تعدى إجمالى الدين العام المحلى والأجنبى 85% من الناتج المحلى الإجمالى. فى الوقت نفسه فإن هيكل الموازنة العامة للدولة لا يتيح هامشا مناسبا لإجراء تعديلات جوهرية فى السياسة المالية، وهو ما يعود بالأساس إلى زيادة معدل الالتزامات المالية التى لا تستطيع الحكومة التخلص منها فى الأجل القصير، وهى بالأساس رواتب العاملين فى أجهزة الدولة وفوائد الدين العام وفاتورة الدعم الحكومى، وتمثل هذه الالتزامات مجتمعة ما يقارب 81% من إجمالى الإنفاق الحكومى وفقا لموازنة العام المالى 2013/2014. كذلك فإن الوضع الاقتصادى العام لن يساعد الحكومة الجديدة فى التعامل مع قضية العجز فى الموازنة العامة للدولة من خلال الآليات التقليدية، فعلى الرغم من التوقعات بأن يحقق الناتج المحلى الإجمالى زيادة بمعدل 2.5% خلال العام المالى الحالى، فإن المؤشرات الخاصة بتوقع أداء قطاع الأعمال وإحصاءات التوظيف والدخول لا تشير إلى إمكانية كبيرة فى زيادة عائدات الحكومة من ضرائب الدخل والشركات. كذلك فإن إعداد الموازنة على جانب الإيرادات شهد تضخيما فى العائدات المتوقعة من الضرائب العقارية وضرائب المناجم والمحاجر وضرائب المبيعات على افتراض أن مجلس الشورى الذى تم حله سيكون قادرا على إصدار التشريعات التى تمكن من تحقيق ذلك. ولكون حكومة الببلاوى قد جاءت لتلبى العديد من المتطلبات الخاصة بالعدالة الاجتماعية إلى جانب العمل على تحفيز الاقتصاد، فإن التعامل مع الملف الضريبى سيكون تعاملا حذرا للغاية، كما أن إمكانية تقليص النفقات تبدو بعيدة المنال، حيث إن حكومة ما بعد الموجة الثانية من الثورة قد تجد نفسها أمام طوفان من الزيادة المتوقعة فى الإنفاق العام.
إصلاحات ممكنة ورغم تعقد المشهد المالى والاقتصادى الحالى فى مصر، فإن هناك العديد من الإصلاحات التى يمكن للحكومة الجديدة تبنيها فيما يتعلق بالإدارة المالية الحكومية والتى قد تقود إلى تحسين أداء الموازنة وتقليص عجز الموازنة خلال السنوات المالية القليلة المقبلة وذلك على النحو التالى: أولا: إن هناك حاجة ملحة لزيادة كفاءة الإنفاق العام وإحكام السيطرة على عمليات تنفيذ الموازنة العامة للدولة. فمن خلال المراقبين الماليين والوحدات الحسابية المنتشرة فى جهات الإنفاق المختلفة، تستطيع وزارة المالية إحكام الرقابة على تنفيذ الموازنة بحيث يتم تقليص تجاوز الربط فى الإنفاق على بنود الموازنة المختلفة ووضع نظام صارم ينظم إمكانية وحدود التجاوز إذا كان ذلك ضروريا. كذلك فإن وزارة المالية عليها المضى قدما فى مشروع ميكنة الموازنة العامة للدولة بشكل يقود إلى إحكام السيطرة بشكل أوتوماتيكى على تنفيذ الموازنة ويمنع التجاوزات. ثانيا: إن هناك حاجة للتعامل مع قضية الصناديق والحسابات الخاصة سواء تلك المدرجة فى الموازنة العامة للدولة أو الحسابات خارج الموازنة. فمنذ ثورة يناير 2011 كانت هناك دعوات متكررة بضم الحسابات والصناديق الخاصة إلى الموازنة. إلا أن قضية الحسابات والصناديق تتطلب دراسة متأنية لكل نوع من أنواع الحسابات لمعرفة ما يجب الإبقاء عليه لأسباب موضوعية، وما يجب ضمه للموازنة، وما يجب إلغاؤه. فى الوقت نفسه لا بد من وضع خطة تنفيذية تأخذ فى اعتبارها الالتزامات الخاصة بأنواع الصناديق المختلفة مع صياغة قواعد حاكمة للوائح المالية لهذه الصناديق. إن إصلاح منظومة الصناديق والحسابات الخاصة، وليس اتخاذ قرار عشوائى بضمها أو إلغائها، سيؤدى إلى زيادة الموارد الحكومية والحد من الإنفاق العشوائى على نفس النشاط الحكومى من عدة مصادر. ثالثا: إن أحد إهم مداخل زيادة كفاءة الإنفاق الحكومى وتحقيق الوفورات المالية مع زيادة العائد من الإنفاق هو عملية إعداد الموازنة نفسها. فالموازنة فى مصر هى عملية شكلية بامتياز. فبداية كيف يمكن الحديث عن إعداد موازنة دون تحديد مبلغ معين لكل جهة من الجهات لإعداد موازنتها فى حدوده؟ وكيف يمكن الحديث عن موازنة وإنفاق لا يرتبط بنتائج ومؤشرات أداء محددة؟ وكيف يمكن مساءلة القيادات عن أدائها دون وضع قواعد شفافة تمكنها من النقل بين البنود والمجموعات المختلفة فى الموازنة؟ وأخيرا وليس أخرا، كيف يمكن الحديث عن مساءلة مع تدنى مستويات الشفافية والمشاركة المجتمعية فى إعداد الموازنات؟ إن التعاطى مع ملف إعداد الموازنة العامة للدولة والأدوار المختلفة للفاعلين لا بد أن يأخذ حيزا من اهتمام الحكومة الجديدة، وخصوصا مع كون الموازنة أداة سياسية ومجتمعية للمساءلة قبل أن تكون أداة مالية. رابعا: تعتزم الحكومة إنفاق 30.7 مليار جنيه على السلع والخدمات، وإنفاق 63.7 مليار جنيه على الاستثمارات والصيانات الجسيمة وفقا لموازنة العام المالى 2013/2014. وتقوم الحكومة بالشراء وفقا للقواعد المنصوص عليها فى قانون المناقصات والمزايدات ولائحته التنفيذية، إلا أن العديد من الدراسات والبحوث وتقارير الجهاز المركزى للمحاسبات تشير إلى العديد من أوجه القصور التى تعترى نظم الشراء الحكومى المعمول بها والقواعد التى ينص عليها القانون. وبناء على ذلك تبدو مراجعة منظومة الشراء الحكومى قضية ملحة فى إصلاح المالية الحكومية. خامسا: إن وزارة المالية عليها البدء فى تعزيز علاقاتها التكاملية والتنسيقية مع الوزارات والأجهزة ذات العلاقة المباشرة بإدارة المالية الحكومية. فعل سبيل المثال وليس الحصر، لابد لوزارة المالية التنسيق مع البنك المركزى لضمان التناغم بين السياسات المالية النقدية وتقليص تكلفة تمويل أنشطة الموازنة وعمليات الاقتراض الداخلى والخارجى. ويبدو هذا التنسيق أكثر أهمية فى ظل تحديد كيفية الاستفادة من الدعم المالى الخارجى الذى تتوقع مصر الحصول عليه من دول الخليج العربى والمؤسسات الدولية والجهات المانحة خلال الفترة الحالية. كذلك لا بد لوزارة المالية من توثيق التعاون مع الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة لإعادة هيكلة الباب الأول فى الموازنة والمتعلق بالأجور والتعويضات والذى يعانى من فوضى عارمة رغم أن هذا الباب يمثل 25% من إجمالى الإنفاق العام. فى الوقت نفسه فإن التعاون مع وزارتى التخطيط والتعاون الدولى بشأن تمويل الاستثمارات الحكومية، وتنسيق أعمال وأنشطة الجهات المانحة التى تعمل مع الوزارة، والتعامل الجاد والبناء مع الأجهزة الرقابية وعلى رأسها الجهاز المركزى للمحاسبات هى قضايا تكتسب نفس القدر من الأهمية. وبشكل عام فإن الإصلاحات المقترحة تمثل مجموعة من الخيارات السريعة التى يمكن للحكومة الجديدة البدء فيها بشكل فورى لتحقيق نوع من الانضباط المالى وكفاءة الإنفاق والوفورات المالية التى قد تقلص من العجز فى الموازنة العامة للدولة، إلا أن إصلاح المنظومة الكلية للمالية العامة فى مصر يتطلب مجموعة أخرى من الإصلاحات الهيكلية تتعلق بقواعد المحاسبة الحكومية المعمول بها، ونظم التدقيق المالى الداخلى التى لا تمتلكها وزارة المالية، والأخذ بسياسات اللامركزية المالية التى تفتح آفاقا أوسع للكفاءة الاقتصادية وتدفق التمويل إلى المستويات المحلية، والتحول من الدعم العينى إلى الدعم النقدى، والتحول لموازنات البرامج وما يرتبط بها من أطر للإنفاق متوسط الأجل والموزانات متعددة السنوات.