ظهرت آسيا كقوة صناعية في الستينيات عندما بدأت اليابان في تصدير الإلكترونيات والسلع الاستهلاكية , ولحقت بها تايوان وكوريا الجنوبية. وبحلول الثمانينيات كان اليابانيون يبنون المصانع في أنحاء جنوب شرق آسيا, لكن ظهورالصين كان نقطة التحول التي غيرت قواعد اللعبة العالمية.ففي التسعينيات كانت آسيا تمثل ٪26.5 من الناتج الصناعي العالمي , ولكن بحلول عام 3102 تلك النسبة وصلت إلى٪46.5 مع استحواذ الصين على نصفها وذلك بفضل ميزة انخفاض تكلفة التصنيع فيها.لكن تلك الميزة تقع حاليا» تحت وطأة ارتفاع الأجور. وكان متوسط الزيادة فيها 12٪ سنويا» منذ 2001كما ارتفعت عملة اليوان إلى مستوى قياسي مقابل سلة من العملات , بما يزيد من هموم الاقتصاد العالمي المثقل بالديون وبالركود العقاري. ومع ذلك, فإن مستقبل الصناعة الصينية أكثر إشراقا» من اى وقت مضي, وذلك بشهادة مجلة الايكونومست التي تناولت في موضوع غلافها ما طرأ على أسطورة الصناعة الصينية من تغييرات , وتأثيرها على الآخرين, مؤكدة أن مسألة ارتفاع أجور العمال لن تسفر سوى عن تعزيز هيمنة الصناعة الآسيوية. بحسب دراسة أجريت عام 2010 فان تكلفة العامل الصيني تمثل 3.6 ٪ فقط من سعر جهاز تليفون آى فون. ولكن دراسات أخرى كشفت عن تطورات مهمة أبرزها تزايد تنافسية الصناعة الصينية واستقطابها للمزيد من الاستثمارات والاتجاه إلى تصنيع السلع المتطورة وليس السلع الرخيصة فحسب كما كان الحال من قبل. فعن طريق صنع السلع الرخيصة وبيعها للأجانب، تمكنت الصين من تغيير نفسها والاقتصاد العالمي .ففي عام 1990 كانت تنتج أقل من 3 ٪ من الناتج الصناعي العالمي . ولكن حصتها الآن تصل إلى الربع. فالصين تنتج حوالي 80 ٪ من أجهزة تكييف الهواء في العالم، و 70 ٪من الهواتف المحمولة و60 ٪من الأحذية. ولا يزال التصنيع في الصين أرخص من الدول الأسيوية الأخري حتى بعد ارتفاع مستوى الأجور .وبالإضافة إلى سلاسل التوريد المنتشرة في أنحاء جنوب شرق آسيا،ينتج «مصنع آسيا» ما يقرب من نصف البضائع في العالم. ويذكر أن الصين ظلت تسير على خطى النمور الآسيوية مثل كوريا الجنوبيةوتايوان. وقد افترض كثيرون أنه بمرور الوقت ستلحق بها دول أخرى ، وتشق طريقها إلى الازدهار. ولكن بانتقال صناعة السلع المنخفضة التكلفة من الصين إلى جنوب شرق آسيا، تجد الأسواق الناشئة خارج المدار الصيني - من الهند إلى إفريقيا وأمريكاالجنوبية- صعوبة في منافسة العملاق الآسيوي. والواقع إن اقتصاد الصين ليس قويا» كما كان. فسوق العقارات يعانى من وفرة المعروض وارتفاع الدين يمثل عبء». وكانت الحكومة قد أعلنت في وقت سابق من هذا الشهر أنها تستهدف تحقيق معدل نمو 7 ٪ هذا العام، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عشرين عاما»- بل إن البيانات الأخيرة تشير إلى صعوبة الوصول إلى هذا المعدل .ومع ذلك سوف تحتفظ الصين بثلاث مزايا هائلة في مجال التصنيع والتي من شأنها أن تعود بالنفع على الاقتصاد ككل. وهذه المزايا تتمثل في ميزة التصنيع منخفض التكلفة، فحتى في الوقت الذي تحولت فيه إلى تصنيع السلع ذات القيمة العالية ,زادت حصتها من صادرات الملابس العالمية من 42.6 ٪ في عام 2011 إلى 43.1 ٪عام 2013. كما انها تنتج المزيد من المكونات الصناعية. وبحسب تقديرات البنك الدولي انخفضت حصة المكونات المستوردة من إجمالي صادرات الصين من 60 ٪ في منتصف التسعينيات ،وهو مستوى الذروة إلى حوالي 35 ٪اليوم. والصين لديها بنية تحتية ممتازة وتخطط لبناء عشرة مطارات سنويا حتى عام 2020. وتستخدم شركاتها «الأتمتة» لرفع الإنتاجية، لتقليص بعض من تأثير ارتفاع الأجور، وهى أساس الإستراتيجية الجديدة للحكومة والمسماة «صنع في الصين عام 2025». وقد توصلت دراسة لشركة ماكينزى إلى زيادة إنتاجية العمالة الصينية بنسبة 11٪ سنويا»خلال الفترة من عام 2007 إلى 2012. وأصبحت في عام 2013 أكبر سوق للروبوت ، بشراء 20٪ من الإنتاج العالمي له. أما الميزة الثانية فهي «مصنع آسيا» . فمع ارتفاع الأجور، تنتقل بعض صناعات السلع منخفضة التكلفة إلى خارج البلاد, إلى دول ذات الدخل المنخفض في جنوب شرق آسيا. وان كانت تلك العملية لها جانب مظلم. فقد توصلت إحدى المنظمات غير الحكومية في العام الماضي أن ما يقرب من 30 ٪ من العاملين في صناعة الالكترونيات في ماليزيا يعملون بشكل قسري . ولكن مع خفض سامسونج ومايكروسوفت وتويوتا وشركات متعددة الجنسيات أخرى نشاطها في الصين والتركيز على أماكن مثل ميانمار والفلبين، تكتسب سلسلة التوريد الإقليمية ،ومركزها الصين ،قوة إضافية. أما الميزة الثالثة فتتعلق بالنمو القوى للطلب الصيني مع زيادة إنفاق المستهلكين الصينيين . وهكذا يعمل الطلب الصيني على تعزيز سلاسل التوريد الآسيوية . هذا بالإضافة إلى أن الصفقات الإقليمية أو العالمية سوف تؤدى إلى انتشار شبكات التصنيع من الصين إلى الدول المجاورة. والنموذج الذي قدمته تايلاند في إنتاج السيارات يؤكد إن السياسات الصحيحة يمكن أن تعزز مكانة دول جنوب شرق آسيا في المصنع الصيني العالمي. ويقول التقرير إن السياسة الاقتصادية الرشيدة يمكن أن تعزز هذه المزايا .وبإمكان رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) الاستحواذ علي عمليات التصنيع المنخفض التكلفة. وعلي سبيل المثال ،انخفضت حصة الصين -من حيث الحجم- من سوق واردات الأحذية الأمريكية من 87 ٪في عام 2009 إلى 79٪في العام الماضي ، لصالح فيتنام واندونيسيا وكمبوديا . ويري خبراء أن آسيان يمكن أن تكون أكثر من مجرد سوق إقليمي موحد لمزيد من السلع والخدمات . علي الجانب الآخر، قد تعاني أجزاء أخرى من الدول الناشئة من احتدام المنافسة مع مصنع آسيا، بسبب افتقارها إلى الاقتصاد الكبير الذي يمكن أن يكون بمثابة نواة لتكتل إقليمي مقابل للاسيوى. وعلي سبيل المثال، كان اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية قد سمح للشركات المكسيكية بالانضمام إلى سلاسل التوريد العاملة عبر أنحاء أمريكا الشمالية، لكنه لم يفد شركات أمريكاالجنوبية. (وهذا يعني في النهاية انه مع ارتفاع الحواجز التجارية لن تساعد أوروبا الغربية دول شمال أفريقيا بالكيفية التي ساعدت بها وسط وشرق أوروبا. ) وحتى عندما تحصل أماكن مثل الهند أو أفريقيا جنوب الصحراء علي امتياز الإنتاج لصالح مصنع آسيا، تبقى مشكلة أخرى، وهى عدم تحقيق التصنيع مكاسب توفير فرص العمل أو الدخل كما كان الحال من قبل،وذلك بسبب الاعتماد على الآلات أكثر وليس العمال . حاليا» يعمل التقدم التكنولوجي علي الاستعانة بعدد أقل من العمال في المصانع.وربما كانت الصين وجيرانها آخر البلدان التي تنمو عن طريق تشغيل عمالها لتصنيع سلع رخيصة. ويظل التصدير هو الورقة الرابحة للأسواق الناشئة، والمنافسة في الأسواق العالمية هي أفضل وسيلة لتعزيز الإنتاجية. لكن الحكومات خارج فلك مصنع آسيا سوف تضطر إلى الاعتماد على عدة محركات للتنمية،مثل الزراعة والخدمات ،وليس التصنيع فحسب،وعلي سبيل المثال، يكشف قطاع خدمات تكنولوجيا المعلومات في الهند ما يمكن تحقيقه في هذا الشأن ، وان كان هذا قطاع يحتاج إلى أصحاب المهارات العالية علاوة على انه لن يستوعب العدد الهائل من الايدى العاملة المتوافرة في البلاد. اختتم التقرير بالتأكيد علي حاجة كل من أمريكاالجنوبية وإفريقيا لتوافر نظام عالمي أكثر ليبرالية للتجارة في الخدمات. ونصح الدول الناشئة بعدم الانتظار حتى تنتقل الوظائف إليها علي اثر ارتفاع الأجور في الصين لأن ذلك برأيه سيكون وصفة للفشل ، وإنما يجب تركيز الإنفاق على البنية التحتية لقطاع التكنولوجيا، فضلا عن الموانئ والطرق. وكذلك الاهتمام بالتعليم أمر ضروري، لأن البلدان التي تحاول اقتحام الأسواق العالمية سوف تحتاج إلى القوى العاملة الماهرة.