منذ أن قرر الجنوب انفصاله عن السودان، وتزايدت العقبات التى يفرضها الجوار الحدودى على العلاقات بين السودان وجنوب السودان، وبخاصة فى الوقت الذى يشهد فيه كلا البلدين حالة من التراجع والتردى فى النواحى الاقتصادية نتيجة للصراعات والحروب القبلية التى انتهكت قوى الاقتصاد داخل كل منهما، التى تحول دون الاستقرار السياسي، والاجتماعي، والأمني. -------------- وإن كانت تلك العقبات بشكل أو بآخر تحمل فى طياتها العديد من الفرص التى بإمكانها أن تخلق مسارًا من السلام والاستقرار للسودان وجنوبه، ولكنها تبقى مرهونة بإدراك أهمية وجدوى تلك الفرص من كلا الطرفين، وأنه هناك ضرورة ملحة للتعاون والتكامل الاقتصادى بينهم، ولكن الصراع الممتد يبدل تلك الفرص بعقبات متشابكة تتزامن مع غياب رؤية استراتيجية واضحة لحل تلك المشكلات المستمرة فى كلا البلدين التى تلقى بأثرها السلبى على الاقتصاد بل إنها اتخذت منه وسيلة حرب فى زمن السلام. فى الوقت الذى تتوافر فيه الفرص التعاونية بين السودان وجنوب السودان التى من المفترض أن تكون عاملا للتعاون يتخلص بها كلا الطرفين من سلسلة طويلة من الصراعات والتوترات التى لا تنقضي، فما يشهده الشمال من فساد وعدم استقرار سياسى ناتج من تردى الأوضاع الاقتصادية، وما يشهده الجنوب من قتال مستمر ما يقرب من العام حتى الآن نتيجة للفساد السياسي، وعدم وجود خطط تنموية حقيقية، والاعتماد على الخارج تخرج جميعها من بوتقة التردى والتراجع الاقتصادى الذى يعمل على خلق مزيد من التوتر على الصعيد الداخلى وفى العلاقة بين البلدين، وبالتالى ما هى إمكانية التعاون الاقتصادى بين البلدين من خلال الركائز الرئيسية المتمثلة فى النفط والتجارة البينية. النفط.. لا بديل عن التعاون يعتمد الجنوب على النفط بنسبة تتجاوز 98٪ من الناتج المحلى الإجمالي، بعوائد 4 مليارات دولار بمعدل إنتاج يصل إلى 500 ألف برميل يومياً واستثمارات تقدر بأكثر من 9 مليارات دولار مقابل ما يقرب من الصفر فى المجالات الاقتصادية الأخرى عدا بعض المداخل الضعيفة من الرسوم الجمركية بنسبة 2٪ من إجمالى موازنة الحكومة، وبالتالى فلا يوجد لدولة الجنوب أى موارد اقتصادية أخرى، وهو ما يشير إلى اقتصاد ذى قطاع وحيد يجعله غير مستقر وأكثر عرضة لتباينات الأسعار فى سوق النفط العالمى حيث من المتوقع أن تتدهور تلك العائدات فى ظل التراجع الحاد فى أسعار النفط حاليًا. على الجانب الآخر، فإن السودان يمتاز بامتلاكه للمصفاة الوحيدة لتكرير النفط بجانب خطوط تصدير النفط عبر ميناء بشاير على ساحل البحر الأحمر، ولكن مع انفصال الجنوب منع ما يقرب من 80٪ من الإيرادات النفطية عن السودان، وهو ما أثر على الاقتصاد الذى تحول من الاقتصاد الإنتاجى إلى الاقتصاد الريعي، حيث انخفض معدل النمو السنوى إلى 1.2٪، وقفز معدل التضخم من 7٪ إلى 23٪ ، وهو ما دفع الحكومة إلى تبنى برنامج تقشفى لمدة ثلاث سنوات لتلافى صدمة خروج النفط. بالتالى لا فائدة من اتجاه الأمور بين الطرفين ناحية التصعيد والتوتر على خلفية النفط، حيث خلال السنوات القادمة لن يتوافر لدى الطرفين أى موارد مالية أسهل من العائدات النفطية، وهو ما يشير إلى حتمية التعاون بين البلدين بعيدا عن أى تصعيد آخر فى ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والأزمة السياسية التى أثرت سلبًا على الاقتصاد، حيث توقفت معظم المشروعات التنموية خصوصًا فى مجال البنية التحتية، التى تعتمد فى غالبيتها على الشركات الأجنبية، إضافة إلى ذلك فإن الطبيعة التكاملية فى توزيع البنية الأساسية للصناعة النفطية لدولتى السودان، حيث إن الحقول الرئيسية للإنتاج النفطى موجودة فى الجنوب بينما تقع مرافق التكرير والتصدير فى دول الشمال. لذلك حتى يستفيد الجنوب من تلك الموارد النفطية الوفيرة عليه أن يعتمد على تلك المنشآت والبنى التحتية والمصافي، والنقل، وموانى التصدير الموجودة فى الشمال حيث توجد خطوط التصدير على طول السودان من أقصى جنوبه إلى أقصى غربه، هو ما يؤكد حتمية التعاون بين الطرفين فى ظل عدم توافر بدائل أخرى ممكنة فى المستقبل. ولا يمكن أن يكون خيار العودة إلى الحرب هو البديل المتاح لدى الطرفين على الأقل لاعتبارات اقتصادية، تكفى التوترات الداخلية والحدودية التى تهدد بخسارة السودان لحصته من رسوم تصدير نفط دولة جنوب السودان وقدرها 5 مليارات دولار، أى حوالى 20٪ من ميزانية الدولة، وبالتالى فإن تهديد حقول النفط اختناق لاقتصاد الدولتين نحو الهاوية. اقتصاد المنطقة الحدودية.. بين النزاع والتوتر يعد الجوار الجغرافى أحد الفرص لما يوفره من سهولة الاتصال، وتسهيل حركة التجارة البينية وتبادل السلع والخدمات، ولكن تدهور الأوضاع الأمنية على الحدود أدى إلى إعاقة النشاط التجارى فى ثمانى نقاط رئيسية للتبادل التجارى بين الطرفين، إضافة إلى أن المنطقة الحدودية بين دولتى السودان تقع على مسافة تزيد على 2000 كم وهى أطول حدود فى القارة الإفريقية تعمل بها القبائل والجماعات فى الرعى لما تملكه تلك المنطقة من ثروة حيوانية هائلة، التى كانت من المفترض أن تستغل تلك الحدود للتوسع فى الرعى بين القبائل السودانية والجنوبية على الشريط الحدودى، وتنمية تلك الثروة لتساهم فى عوائد على كلا الطرفين، ولكن أدت الحرب فى الجنوب إلى تعطيل حركة الرعاة، وتعميق الصراعات بين القبائل الحدودية التى تعتمد فى معيشتها على الثروة الحيوانية، بالإضافة إلى النزوح الكبير للمواطنين وهو ما يدفع ثمنه كلتا الدولتين. ونتيجة لتدهور التجارة الحدودية، حيث إن السودان هى المنتج والمصدر لغالبية السلع التى يستوردها الجنوب الذى يدخله ما يقرب من 150 سلعة من الشمال، فضلا عن أن المواطن الجنوبى معتاد على السلع الاستهلاكية الموجودة فى السودان كجزء من ثقافته الاستهلاكية، حيث يعتبر جنوب السودان سوقا كبيرا للمنتجات السودانية نظرًا لأن المناخ فى الجنوب لا يسمح بفرصة فعلية للزراعة، وهو ما يفرض على الجانبين استثمار ذلك فى مزيد من التعاون والتكامل، ولكن السودان لا يدرك أهمية ذلك التعاون حيث يترك القطاعات الإنتاجية للقطاع الخاص بنسبة تتجاوز 80٪ من القطاع الإنتاجى يحركه القطاع الخاص، إضافة إلى الحرب التى يشهدها الجنوب فقد تعرض أكثر من 4 ملايين شخص إلى المجاعة بعد عام من القتال منعت استمرار التجارة بين الطرفين وتبادل السلع الزراعية. تحديات خارجية فى طريق التعاون المشترك لم تكمن التحديات فى الوضع الداخلى وحسب، بل إن للعامل الخارجى دورا كبيرا فى تراجع التعاون المشترك، بل والأثر على مسار العلاقات بين البلدين، فلا يمكن بشكل أو بآخر تجاهل المساعى الإسرائيلية فى تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية فى الجنوب، ومنه إلى شرق إفريقيا لما تمثله من أهمية بالغة للسياسة الإسرائيلية، فضلا عن وجود الشركات الاستثمارية الغربية الكبرى التى تتهافت على الاستثمارات فى دولة الجنوب. أما المشروعات التنموية على نهر النيل التى قد تواجه أحد مصيرين: أولها، لن تجد طريقها إلى التنفيذ فى المدى القريب بسبب عدم الاستقرار الأمني، والاختلاف المستقبلى بين الشمال والجنوب على إدارتها وكيفية توزيع عوائدها، وثانيها أن تبقى عرضة للدول التى تضع نصب أعينها العمق الاستراتيجى من مشروعات المياه وما يرتبط بها من دول وبخاصة مصر. وفيما يتعلق بالنفط كمورد مالى أساسى فقد تعهدت الولاياتالمتحدة التى تعهدت بدفع كل مصروفات الفجوة المتعلقة بإيقاف النفط عبر الأراضى السودانية لمدة خمس سنوات قادمة وساهمت بنسبة 40٪ لبناء الخط الجديد الناقل للبترول عبر ميناء لامو فى كينيا، والصين باعتبارها المستثمر الرئيسى فى السودان، بما يشكله النفط السودانى كجزء من منظومة المصالح الوطنية لبكين، وما تمثله الصين من عامل ضغط على الخرطوم أكثر من جوبا، وهو ما سيمنع السودان من أن يغامر بمصالح الصين النفطية فى علاقته مع الجنوب. لذلك، فإن التكامل الاقتصادى هو الطريق إلى الاستقرار لذلك لا بد من إدراك الضرورة القصوى للتكامل الاقتصادى بين الدولتين بعيداً عن الفساد المالى وبدرجة من الثقة المتبادلة بتجنب الخلافات واستغلال نقاط القوة لخلق مسار تعاونى يعمل على تحقيق الاستقرار للنشاط الاقتصادى، وتحقيق أهداف التنمية لكلا الطرفين بديلا للتوتر والصراع، لما يضمنه من تحقيق معدلات نمو تساهم بشكل أو بآخر فى تحسين مستوى المعيشة المتردى للبلدين، ولكن التعاون الاقتصادى يحتاج إلى ركيزة رئيسية من الإرادة السياسية، وسهولة التواصل بين حكومتى البلدين.