100 منطقة صناعات عشوائية تضم800 ألف عامل باستثمارات70 مليار جنيه --------------- .. نتباهي بالتكنولوجيا ولكن لا نعمل من أجلها, نجدها في أسماء المصانع والمعاهد والجامعات والمدارس والهيئات والمصالح بل والورش الصغيرة. فقد تكون التكنولوجيا أحيانا مجرد اسم لا يعكس واقعا. واستيراد التكنولوجيا تجارة أما استيعابها واستنباطها فهي صناعة. والتجارة بحكم طبيعتها يستطيع أن يعمل بها كل من أراد, أما استيعابها او استنباطها لا يستطيع أن يعمل في مجالها إلا من تعلم العلم وطبقه.. في نفس الوقت تتحدي الصناعات العشوائية أي برامج للتطوير والتحديث وتسيء الي منظومة الجودة لتمثل في النهاية قنبلة موقوتة تنفجر في الاسواق والمستهلكين.. يري د. محمود عيسي وزير الصناعة الاسبق وخبير نظم الجودة والمواصفات القياسية ان الصناعة المصرية التي وقفت في معظم الأحوال عند الاستيراد والتقليد والمحاكاة سواء في المعدات أو في المنتجات لا يمكن أن يوصلها ذلك إلي ما يجب أن تكون عليه قياسا بحجم العلماء المصريين ونوعيتهم وكفاءاتهم التي لا تتوافر في كثير من الدول التي تمرست علي استنباط وتطوير التكنولوجيا يوما بعد يوم. وكثير من المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش والبرامج التي- أدمناها- تتحدث كثيرا عن التكنولوجيا ولم توصلنا إلي استنباطها وتحقيقها. يضيف د. محمود عيسي: التقدم التكنولوجي من فرط أهميته إذا حدث في مجال فإنه يؤدي إلي تقدم آخر في مجالات أخري بطريقة تلقائية فإذا تقدمت تكنولوجيا الصناعة في معدات الزراعة مثلا تقدمت الزراعة وكذلك في صناعة الأجهزة العلمية والطبية والتعليمية فتتقدم هذه المجالات وبطريقة تلقائية. ولكي نحقق كل ما نتمناه جميعا من التحول من استيراد التكنولوجيا إلي استيعابها وتوطينها وتطويرها يجب العمل علي عدة محاور بجدية وبتخطيط قومي تجند له كل إمكانات المصريين الهائلة في الداخل والخارج واستغلال كل الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد والأكاديميات ومراكز بحوث الصناعة وتعمل جميعها من خلال خطة واحدة كبري أو علي الاقل متكاملة محددة الأنشطة والتوقيتات والمراحل وأن تكون أهدافها واضحة تصب في تحقيق النمو الصناعي والاقتصادي والحضاري. ويجب أن يتم اعتماد خطط البحوث الاستراتيجية في مصر من مجلس ينشأ أو يعاد هيكلته باسم المجلس الأعلي للبحوث والتكنولوجيا برئاسة رئيس الوزراء يضم أساتذة من الجامعات ومراكز البحوث والصناعة والزراعة والبترول والكهرباء وكل من له علاقة بطبيعة الخطة. كما تفتقد الصناعة لحافز انتاج وابتكار أجيال جديدة من المنتجات المصرية الحديثة ويتطلب ذلك تشجيع إنشاء شركات تقوم بتطوير المنتجات المصرية لأن التكنولوجيات المستوردة غير قابلة للتطوير إلا بإذن صاحب الرخصة وبتكلفة باهظة بما يؤدي في معظم الاحوال وحتما إلي تقادم المنتج وخروجه من حلبة أي منافسة. ولتنمية براءات الاختراع لابد أن تكون الجوائز التشجيعية والتقديرية في مصر ليس علي مجمل الأعمال بل علي براءات الاختراع كما هو في جوائز(نوبل) طبقا لأهمية هذه البراءات وبشرط أن يكون تم تطبيقها علي أرض الواقع كما يجب أن تكون البراءات مخططة أيضا للجامعات والمراكز البحثية عددا ومجالا لخدمة الخطة العامة وكذلك سوف تؤدي في نفس الوقت الي تحسين ترتيب الجامعات المصرية عالميا. كذلك فإن من أهم مسببات محدودية توطين التكنولوجيا هو غياب شبه كامل للمهنيين والفنيين وأصحاب المهارات المعتمدة بما يتطلب اعادة انشاء المعاهد الفنية العليا والاهتمام بها فنيا وماديا والتي كانت موجودة وتم تحويلها الي كليات لاسباب اجتماعية ليست اقتصادية اضافت قطاعا آخر للبطالة. يضيف د. محمود: لابد أن تضم المنشآت الصناعية قطاعات بحثية ليس بالمفهوم الحالي الذي لا يخرج عن كونها في معظم الأماكن للمغضوب عليهم أو غير المنتجين بل يجب أن تكون من أكثر القطاعات اهتماما وأعلي الناس أجرا وتحفيزا وتشجيعا ويكون دورها الربط بين الصناعة والبحث العلمي من خلال الخريطة البحثية القومية وكذلك تنفيذ العينات الاولية قبل انتاجها. من المهم أيضا ألا تكون شهادات الجودة مقصورة علي جودة المنتج فقط بل يجب أن تكون علي حداثته ومنافسته فماذا تفيد شهادة الجودة في حلبة التنافس لمنتج جيد الصنع قديم الأطوار. وتحفيزا علي استنباط التكنولوجيا ذلك يمكن ان يقام معرض سنوي للأطوار الجديدة خالصة الصنع من تكنولوجيا مصرية مستحدثة يسمي معرض الاختراعات والابتكارات تسلم فيها جوائز مجزية طبقا لقيمة البراءة. من هذا المنطلق نقول ان تقدم الدول اقتصاديا وحضاريا مرهون بالتقدم التكنولوجي وأن هذا التقدم التكنولوجي لا يأتي من خلال الاستيراد والاستجلاب بل بالاستيعاب والاستنباط والابتكار هذه حقيقة مؤكدة والجدية والإخلاص والمسئولية تحتم علينا جميعا من أجلنا ومن أجل أولادنا ألا نأخذ غير هذا الطريق فالفرصة تأخرت ولكنها مازالت قائمة.. 70 مليار جنيه صناعات عشوائية يتطرق د. عيسي الي قضية الجودة والصناعات العشوائية مشيرا الي ان الصناعات العشوائية أو ما يطلق عليه صناعات بير السلم إحدي القضايا التي ترتبط بمستقبل المجتمع لذلك وطبقا لهذه القواعد فهي تستحق المواجهة. ولا تعني المواجهة المطاردة أو الحرب عليها ولكن تعني مواجهة المشكلة بالدراسات والحلول والتطبيق من أجل مستقبل أفضل. ولأن الجودة هي الآلية الرئيسية لمواجهة هذا المستحيل الممكن, لذا فإن مناقشة هذا الأمر إحدي بدايات المواجهة مع التسليم بأن هذه الصناعات العشوائية موجودة في كل الدول دون استثناء, ولكن تختلف في درجاتها وأسلوب علاجها. يضيف: الجودة تعني في مفهومها الانضباط والالتزام في جوهرها وفي أساليب الوصول إليها, كما تحكمها المؤشرات والمقاييس والتقييم ولها نظم في المطابقة وفي الإدارة, ايضا فإن لها اساليب متعددة لضبطها في المنتج وفي الخدمة وكلها مبنية علي قواعد تتطور وتتقدم وملاحقتها تتطلب قدرا كبيرا من العلم والخبرة والامكانيات المناسبة. كما أن الصناعة التي تقوم علي اسس ومفاهيم الجودة لابد أن تكون صناعة منضبطة تملك امكانيات التطبيق والقدرة علي التكيف مع متطلباتها في الفكر والتأهيل والتخطيط والمتابعة والمرجعية والتقييم والاستنتاج طبقا لمؤشرات صحيحة. وكذلك الاستفادة من كل ذلك بمزيد من التطوير والتحديث والتطبيق لنظم أحدث ودائمة التجدد. فأين الصناعات العشوائية من كل ذلك؟ يمكننا القول إنها صناعات خالية تماما من كل ما يرتبط بالعلم أو التكنولوجيا أو نظم الإدارة أو أي مدخلات أو مخرجات ترتبط بالتطوير أو التحديث حتي في صورها البدائية أو التقليدية. ورغم ما يبدو من تنافر واضح بين الجودة والصناعات العشوائية فإنهما في واقع الامر مرتبطان برباط الأثر وهو من أخطر أنواع الارتباط فالصناعات العشوائية تؤثر بشكل حاد علي الصناعات الجادة من نواح عديدة, حيث لا مجال للمنافسة في السعر خصوصا في اسواق الدول النامية التي توصف بأنها اسواق سعر وليست اسواق جودة. فالمستهلك في الدول النامية في النسبة الغالبة منه يبحث عن الأرخص ولا يبحث عن الأجود فيجد ضالته فيما تقذفه الصناعات العشوائية في الاسواق. وانعدام التنافسية في السعر هو الضرر الأقل علي الصناعات الجادة لأن الخطر الأعظم عليها يتمثل في إساءة سمعة الصناعة الوطنية في الداخل وقد يكون في الخارج اذا استطاعت بعض هذه الصناعات العشوائية النفاذ للخارج حتي ولو بصفقة واحدة وحتي لو تم قبولها من المستورد الخارجي لانخفاض سعرها. وإساءة السمعة تكون لصناعة بلد وليست لصناعة منشأة صناعية أو تجارية بعينها حتي لو كانت المنشأة معروفة وهي السبب. كما أن محو هذه السمعة السيئة أمر صعب قد يحتاج في علاجه للعديد من السنوات فاكتساب سوق جديدة أسهل بكثير من اعادة سوق مفقودة, كما أن هناك دولا تستغل ذلك لصالحها في المنافسة علي الاسواق. ومن العوائد السلبية أيضا للصناعات العشوائية قدرتها الحالية علي التقليد المتقن الذي يحمل في طياته رغم الاتقان في المظهر فسادا في الجوهر. وبسبب هذا الاتقان في المظهر تتسرب بعض هذه المنتجات خصوصا اذا كانت في صورة قطع غيار فقد يتم استخدامها في منتج منشأة صناعية رسمية جادة تتسبب هذه المدخلات السيئة في إفقاد هذا المنتج الكامل لأحد أو كل مقومات جودته. * سألت د. محمود عيسي: لماذا لا يتم رصد دقيق لبؤر الصناعات العشوائية لتكون أولي خطوات المواجهة؟ أجاب: يقدر عدد المناطق الصناعية العشوائية الكبيرة علي مستوي الجمهورية بما يقارب1000 منطقة, ولا تقل العمالة في هذه المناطق عن مليون عامل ومن المدهش أن رأس مال هذه المنشآت الصناعية علي مستويات مختلفة يتراوح بين عدة آلاف الي عدة ملايين بإجمالي استثمارات تقدر بحوالي70 مليار جنيه. والغالبية منها لا تتوافر لديها معامل أو وسائل قياس, كما قد لا يتم استخدام المواصفة القياسية للمنتج بالمنشأة كما أن العاملين في غالبية هذه المنشآت, لا يتلقون أي برامج تدريب من أي نوع سواء أساسي أو متخصص يرتبط بالسلعة المنتجة أو الخامات الموردة لكونها خارج الاطار الرسمي المسجل. ولعلاج هذه المشكلة- كما يضيف- لا يجب التركيز علي المطاردة والاغلاق لأن المنتجات العشوائية رغم آثارها السلبية علي المستهلك وعلي مفاهيم الجودة وثقافتها وعلي التنافسية والاقتصاد فهي في النهاية قوة يجب استغلالها بتوجيهها في الاتجاه الصحيح وحل مشاكلها مع الأجهزة الإدارية للدولة وتقنين أوضاعها لأسباب عديدة أولها حجم العمالة الكثيفة العاملة فيها وما تشكله من قوة عاملة غير عاطلة قد يؤدي تعطلها بالمطاردة الي سلبيات أشد خطورة علي المجتمع. ولمواجهة متطلبات تحولها دعما للبرامج الحالية لأجهزة وزارة التجارة والصناعة في هذا الاتجاه هو تمويل تقنين أوضاعها وإنشاء مركز تدريب واحد في كل منطقة عشوائية تقدم فيها دورات تدريبية اساسية في مفاهيم المواصفات ومعايير والجودة وغيرها من الدورات التدريبية الأساسية لكل نوع من الصناعة باشتراكات بسيطة من هذه الجهات علي أن تدعم جزئيا من برامج التدريب للدولة أو صندوق مماثل لصندوق تنمية العشوائيات يموله رجال الاعمال. والتغلب علي مشاكل عدم وجود معامل اختبارات في كل هذه المنشآت وذلك بإنشاء معمل مركزي صغير في كل منطقة تموله الدولة أو رجال الاعمال ايضا لأنهم مستفيدون من عملية التحول بدرء الخطر عن منتجاتهم يحتوي علي اختبارات الأمن والسلامة في المنتجات. ولنجاح عملية التنظيم والتخطيط والمتابعة لكل هذه المناطق وتحديد احتياجاتها فإنه قد يلزم تفرغ احدي الجهات الحالية لهذا المشروع أو إنشاء جهاز يخصص كل نشاطه لهذا الغرض والإشراف إداريا وفنيا علي هذا التحول بالتعاون مع أجهزة وزارة التجارة والصناعة التي تعمل في مواجهة منتجات هذه المصانع لحماية المستهلك وذلك بتوسيع الدائرة باعتمادات اكبر من الدولة تخصص لصالح تطوير الصناعات العشوائية.