التكنولوجيا لفظ نستخدمه كثيرا ولا نستفيد منه, فاللفظ واسع المجال وعميق الأثر وبلا حدود, والتكنولوجيا مطلوبة في كل المجالات وتؤثر في كل مناحي الحياة. نجدها في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والنقل وغيرها وهي ركن من أركان جودة الحياة. نستخدمها حينما نريد أن نضفي علي نشاط أو سلعة أو عملية أو خدمة الحداثة والدقة بحق أحيانا وبدون وجه حق أحيانا أخري. نتباهي بها ولكن لا نعمل من أجلها. تجدها في أسماء المصانع والمعاهد والجامعات والمدارس والهيئات والمصالح بل والورش الصغيرة وغيرها الكثير. قد تكون أحيانا التكنولوجيا مجرد اسم لا يعكس واقعا, وفي أحيان قليلة قد يعكس جزءا علي أرض الواقع. واستيراد التكنولوجيا تجارة أما استيعابها واستنباطها فهي صناعة. والتجارة بحكم طبيعتها يستطيع أن يعمل بها كل من أراد, أما استيعابها اواستنباطها لا يستطيع أن يعمل في مجالها إلا من تعلم العلم وطبقه. والصناعة المصرية والتي وقفت في معظم الأحوال عند الاستيراد والتقليد والمحاكاة سواء في المعدات أو في المنتجات لا يمكن أن يوصلها ذلك إلي ما يجب أن تكون عليه قياسا بحجم العلماء المصريين ونوعيتهم وكفاءاتهم والتي لا تتوافر في كثير من الدول التي تمرست علي استنباط وتطوير التكنولوجيا يوما بعد يوم. وبينما هناك أشياء بالغة الإيجابية في هذه الدول فإنه في دولنا أشياء بالغة السلبية تحول دون ذلك وبلا مبرر رغم أنه من نعم الله أن العلم والعلوم خلقها الله للغني والفقير للقوي والضعيف ولم يقصرها علي أحد بل أعطاها لكل البشر كالماء والهواءولذلك لا عذر لهم. إن المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش والبرامج والتي أدمناها تتحدث كثيرا عن التكنولوجيا ولم توصلنا إلي استنباطها وتحقيقها لذلك ليس أمامنا إلا أن نأخذ بأسباب أخذها غيرنا ونجح فيها. و التقدم يؤدي إلي مزيد من التقدم والعجلة متسارعة أيضا في هذا التقدم. فما كنا نراه يحدث في سنوات نراه الآن يحدث في شهور بل إن بعضها ما تلبث أن تراه فإنك تري الأحدث منه. والصناعة المصرية لكي تأخذ مكانا في السباق التكنولوجي الذي يجري بلا نهاية أو علي الأقل تقليل الفجوة بما يسمح لنا بأن نظل نراهم في هذا السباق بديلا عن تسارعهم واختفائهم بحيث لا نعد نراهم لأن الفجوة زادت وتزداد وأصبحنا نجري في سباق ومسار لا يجري فيه أحد غيرنا. إن التقدم التكنولوجي من فرط أهميته إذا حدث في مجال فإنه يؤدي إلي تقدم آخر في مجالات أخري بطريقة تلقائية فإذا تقدمت تكنولوجيا الصناعة في معدات الزراعة مثلا تقدمت الزراعة وكذلك في صناعة الأجهزة العلمية والطبية والتعليمية فتتقدم هذه المجالات وبطريقة تلقائية. ولكي نحقق كل ما نتمناه جميعا من التحول من استيراد التكنولوجيا إلي استيعابها وتوطينها وتطويرها بل واستنباطهاوتصديرها.ان طفرات التصدير لا تأتي إلا من خلالها. لذلك فإنه أولا يجب العمل علي عدة محاور بجدية وبتخطيط قومي تجند له كل إمكانات المصريين الهائلة في الداخل والخارج واستغلال كل الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد والأكاديميات ومراكز بحوث الصناعة وتعمل جميعها من خلال خطة واحدة كبري أو علي الاقل متكاملة محددة الأنشطة والتوقيتات والمراحل وأن تكون أهدافها واضحة تصب في تحقيق النمو الصناعي والاقتصادي والحضاري. وثانيا يجب أن يتم اعتماد خطط البحوث الاستراتيجية في مصر من مجلس ينشأ أو يعاد هيكلته باسم المجلس الأعلي للبحوث والتكنولوجيا برئاسة رئيس الوزراء يضم أساتذة من الجامعات ومراكز البحوث والصناعة والزراعة والبترول والكهرباء وكل من له علاقة بطبيعة الخطة والمربوطة بخططها وتكون بديلا لما نعلمه جميعا من أن بحوث الجامعات ومراكز البحوث تتم حاليا في موضوعات يختارها الأستاذ المشرف أو الطالب وبهدف يكاد يكون واحدا هو الترقية للدرجات العلمية أو الحصول علي الرسائل في الماجستير والدكتوراة قد تكون مفيدة لكن بالقطع لا تخدم خطة عامة وعندما تكون الخطة عامة يعني ذلك أن الصناعة في قلب البحث العلمي والبحث العلمي في قلب الصناعة. والعنصر الثالث هو افتقاد الصناعة المصرية لبراندات تمثل أجيالا جديدة من المنتجات المصرية الحديثة ويتطلب ذلك تشجيع إنشاء شركات تقوم بتطوير المنتجات المصرية الأصل لأن التكنولوجيات المستوردة غير قابلة للتطوير إلا بإذن صاحب الرخصة وبتكلفة باهظة بما يؤدي في معظم الاحوال وحتما إلي تقادم المنتج وخروجه من حلبة أي منافسة. والعنصر الرابع أنه لتنمية براءات الاختراع أري أن تكون الجوائز التشجيعية والتقديرية في مصر ليس علي مجمل الأعمال بل علي براءات الاختراع كما هو في جوائز( نوبل) طبقا لأهمية هذه البراءات وبشرط أن يكون تم تطبيقها علي أرض الواقع كما يجب أن تكون البراءات مخططة أيضا للجامعات والمراكز البحثية عددا ومجالا لخدمة الخطة العامة وكذلك سوف تؤدي في نفس الوقت الي تحسين ترتيب الجامعات المصرية عالميا. والعنصر الخامس أنه من أهم مسببات محدودية توطين التكنولوجيا هو غياب شبه كامل للمهنيين والفنيين وأصحاب المهارات المعتمدة بما يتطلب اعادة انشاء المعاهد الفنية العليا والاهتمام بهم فنيا وماديا والتي كانت موجودة وتم تحويلها الي كليات لاسباب اجتماعية ليست اقتصادية اضافت قطاعا آخر للبطالة. والعنصر السادس أنه داخل المنشآت الصناعية ذاتها لا بد أن تضم قطاعات بحثية ليس بالمفهوم الحالي الذي لا يخرج عن كونها في معظم الأماكن للمغضوب عليهم أو غير المنتجين بل يجب أن تكون من أكثر القطاعات اهتماما وأعلي الناس أجرا وتحفيزا وتشجيعا ويكون دورها الربط بين الصناعة والبحث العلمي من خلال الخريطة البحثية القومية وكذلك تنفيذ العينات الاولية قبل انتاجها. من المهم أيضا ألا تكون شهادات الجودة مقصورة علي جودة المنتج فقط بل يجب أن تكون علي حداثته ومنافسته فماذا تفيد شهادة الجودة في حلبة التنافس لمنتج جيد الصنع قديم الأطوار. وتحفيزا علي استنباط التكنولوجيا ذلك يمكن ان يقام معرض سنوي برعاية رئيس الجمهورية للأطوار الجديدة خالصة الصنع من تكنولوجيا مصرية مستحدثة يسمي معرض الاختراعات والابتكارات تسلم فيها جوائز مجزية طبقا لقيمة البراءة. والخلاصة أن تقدم الدول اقتصاديا وحضاريا مرهون بالتقدم التكنولوجي وأن هذا التقدم التكنولوجي لا يأتي من خلال الاستيراد والاستجلاب بل بالاستيعاب والاستنباط والابتكار هذه حقيقة مؤكدة والجدية والإخلاص والمسئولية تحتم علينا جميعا من أجلنا ومن أجل أولادنا ألا نأخذ غير هذا الطريق فالفرصة تأخرت ولكنها مازالت قائمة. لمزيد من مقالات محمود عيسى