إن مواجهة المستحيل ليكون ممكنا يرتبط دائما بالتحديات والمواجهات التي تتعلق بمستقبل أمم أو شعوب أو مجتمعات أو قطاعات كبيرة منها ويهدف دائما الي تحقيق مستقبل أفضل أو درءا لمخاطر استفحالها في المستقبل. لأن تجاهل المستحيل الممكن قد يتحول الي مستحيل فات الأوان لمواجهته. والصناعات العشوائية أو مايطلق عليه صناعات بير السلم أحد القضايا التي ترتبط بمستقبل مجتمع لذلك وطبقا لهذه القواعد فهي تستحق المواجهة. ولاتعني المواجهة المطاردة أو الحرب عليها ولكن تعني مواجهة المشكلة بالدراسات والحلول والتطبيق من أجل مستقبل أفضل. ولأن الجودة هي الآلية الرئيسية لمواجهة هذا المستحيل الممكن, لذا فإن مناقشة هذا الأمر أحد بدايات المواجهة مع التسليم بأن هذه الصناعات العشوائية موجودة في كل الدول دون استثناء, ولكن تختلف في درجاتها وأسلوب علاجها. والجودة تعني في مفهومها الانضباط والالتزام في جوهرها وفي أساليب الوصول إليها, كما تحكمها المؤشرات والمقاييس والتقييم ولها نظم في المطابقة وفي الإدارة وكذا وسائل لتوكيدها. ايضا فإن لها اساليب متعددة لضبطها في المنتج وفي الخدمة وكلها مبنية علي قواعد تتطور وتتقدم وملاحقتها تتطلب قدرا كبيرا من العلم والخبرة والامكانيات المناسبة. كما أن الصناعة التي تقوم علي اسس ومفاهيم الجودة لابد أن تكون صناعة منضبطة تملك امكانيات التطبيق والقدرة علي التكيف مع متطلباتها في الفكر والتأهيل والتخطيط والمتابعة والمرجعية والتقييم والاستنتاج طبقا لمؤشرات صحيحة. وكذلك الاستفادة من كل ذلك بمزيد من التطوير والتحديث والتطبيق لنظم أحدث ودائمة التجدد. فأين الصناعات العشوائية من كل ذلك؟. يمكننا القول إنها صناعات خاليه تماما من كل مايرتبط بالعلم أو التكنولوجيا أو نظم الإدارة أو أي مدخلات أو مخرجات ترتبط بالتطوير أو التحديث حتي في صورها البدائية أو التقليدية. ورغم مايبدو من تنافر واضح بين الجودة والصناعات العشوائية إلا انهما في واقع الامر مرتبطان برباط الأثر وهو من أخطر أنواع الارتباط فالصناعات العشوائية تؤثر بشكل حاد علي الصناعات الجادة من نواح عديدة, حيث لا مجال للمنافسة في السعر خصوصا في اسواق الدول النامية التي توصف بأنها اسواق سعر وليست اسواق جودة. فالمستهلك في الدول النامية في النسبة الغالبة منه يبحث عن الأرخص ولا يبحث عن الأجود فيجد ضالته فيما تقذفه الصناعات العشوائية في الاسواق. وانعدام التنافسية في السعر هو الضرر الأقل علي الصناعات الجادة لأن الخطر الأعظم عليها يتمثل في إساءة سمعة الصناعة الوطنية في الداخل وقد يكون في الخارج اذا استطاعت بعض هذه الصناعات العشوائية النفاذ للخارج حتي ولو بصفقة واحدة وحتي لو تم قبولها من المستورد الخارجي لانخفاض سعرها. وإساءة السمعة تكون لصناعة بلد وليست لصناعة منشأة صناعية أو تجارية بعينها حتي لو كانت المنشأة معروفة وهي السبب. كما أن محو هذه السمعة السيئة أمر صعب قد يحتاج في علاجه لعديد من السنوات فاكتساب سوق جديدة أسهل بكثير من اعادة سوق مفقودة, كما أن هناك دولا تستغل ذلك لصالحها في المنافسة علي الاسواق. ومن العوائد السلبية أيضا للصناعات العشوائية قدرتها الحالية علي التقليد المتقن والذي يحمل في طياته رغم الاتقان في المظهر فسادا في الجوهر. وبسبب هذا الاتقان في المظهر تتسرب بعض هذه المنتجات خصوصا اذا كانت في صورة قطع غيار فقد يتم استخدامها في منتج منشأة صناعية رسمية جادة تتسبب هذه المدخلات السيئة في إفقاد هذا المنتج الكامل لأحد أو كل مقومات جودته. ومن دراسة سابقة لهذه المناطق وجد أن المناطق الصناعية العشوائية الكبيرة علي مستوي الجمهورية يقدر عددها بما يقارب100 منطقة, كما تبلغ العمالة في هذه المناطق مالا يقل عن800 الف عامل يمثلون نحو250 الف أسرة علي أقل تقدير. ومن المدهش أن رأس مال هذه المنشآت الصناعية علي مستويات مختلفة يتراوح بين عدة آلاف الي عدة ملايين بإجمالي استثمارات تقدر بحوالي70 مليار جنيه. والغالبية منها لا تتوافر لديها معامل أو وسائل قياس, كما قد لايتم استخدام المواصفة القياسية للمنتج بالمنشأة ناهيك عن فهمها أو تطبيقها في معظم هذه المنشآت كما أن العاملين في غالبية هذه المنشآت, لايتلقون أي برامج تدريب من أي نوع سواء أساسي أو متخصص يرتبط بالسلعة المنتجة أو الخامات الموردة لكونها خارج الاطار الرسمي المسجل. وبعد استعراض طبيعة وحجم المشكلة نأتي لمحور أساسي في العلاج. فالمطاردة والاغلاق ليست هي الحل الذي يأخذ بكل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية. لأن المنتجات العشوائية رغم آثارها السلبية علي المستهلك وعلي مفاهيم الجودة وثقافتها وعلي التنافسية والاقتصاد فهي في النهاية قوة يجب استغلالها بتوجيهها في الاتجاه الصحيح وحل مشاكلها مع الأجهزة الإدارية للدولة وتقنين أوضاعها لأسباب عديدة أولها حجم العمالة الكثيفة العاملة فيها وما تشكله من قوة عاملة غير عاطلة قد يؤدي تعطلها بالمطاردة الي سلبيات أشد خطورة علي المجتمع. ولمواجهة متطلبات تحولها دعما للبرامج الحالية لأجهزة وزارة التجارة والصناعة في هذا الاتجاه هو تمويل تقنين أوضاعها وإنشاء مركز تدريب واحد في كل منطقة عشوائية تقدم فيها دورات تدريبية اساسية في مفاهيم المواصفات ومعايير والجودة وغيرها من الدورات التدريبية الأساسية لكل نوع من الصناعة باشتراكات بسيطة من هذه الجهات علي أن تدعم جزئيا من برامج التدريب للدولة أو صندوق مماثل لصندوق تنمية العشوائيات يموله رجال الاعمال. والتغلب علي مشاكل عدم وجود معامل اختبارات في كل هذه المنشآت وذلك بإنشاء معمل مركزي صغير في كل منطقة تموله الدولة أو رجال الاعمال ايضا لأنهم مستفيدون من عملية التحول بدرء الخطر عن منتجاتهم يحتوي علي اختبارات الأمن والسلامة في المنتجات. ولنجاح عملية التنظيم والتخطيط والمتابعة لكل هذه المناطق وتحديد احتياجاتها فإنه قد يلزم تفرغ احدي الجهات الحالية لهذا المشروع أو إنشاء جهاز يخصص كل نشاطه لهذا الغرض والإشراف إداريا وفنيا علي هذا التحول بالتعاون مع أجهزة وزارة التجارة والصناعة والتي تعمل في مواجهة منتجات هذه المصانع لحماية المستهلك وذلك بتوسيع الدائرة باعتمادات اكبر من الدولة تخصص لصالح تطوير الصناعات العشوائية. الخلاصة أن المناطق العشوائية الصناعية أو ما يطلق عليه صناعات بير السلم كيانات تؤثر سلبا علي جهود كثير من المشروعات ومنها البرنامج القومي للجودة الذي يتم تنفيذه بوزارة التجارة والصناعة للارتقاء بجودة وسمعة المنتج المصري ببدء برنامج وطني تشارك فيه كل الاجهزة المعنية بالدولة فنيا وإداريا لتحويل الصناعات العشوائية غير الرسمية الي القطاع الرسمي بمنظور الشرعية ومعايير الجودة, لأن العائد من ذلك يتساوي في حجمه مع العائد من الارتقاء بالجودة في القطاع الرسمي وبما يحقق تكامل الجهود في الاتجاهين بطريقة متوازنة ومتوزاية وبأهداف وبرامج متزامنة وميزانيات كافية تخصص من الدولة لهذا الغرض لأن العائد علي الاقتصاد القومي والبنية الاساسية والاجتماعية سوف يكون ضخما لأن المستحيل قد أصبح ممكنا.