يعيش المجتمع المصرى لحظة فارقة فى تاريخه المعاصر قد تدفعه إلى مرتبة الدول المتقدمة أو تشده إلى الخلف لعقود طويلة ، ويتوقف ذلك على مواجهة مجموعة من التحديات بشجاعة وصبر . ويدرك الجميع أن الثورة المصرية كانت سياسية حتى الآن ، وليست اقتصادية . ومصر اليوم فى حاجة إلى حكومة فائقة الفاعلية، لا تنتمى إلى تراث الحكومات السابقة، ولا ينطبق هذا على مصر فقط بل على جميع دول العالم . فدور الحكومة يتم تحديثه بما يتوافق مع التغيرات التى أصابت العالم وخاصة فى أعقاب الأزمة المالية العالمية وثورات الربيع العربي ». وقد يزعم البعض أن المشاكل الاقتصادية التى تواجهها الحكومة الجديدة بالغة الصعوبة. كما أن نجاح أى حكومة قادمة سيتوقف على مدى الاعتماد على ذاتها وعلى مدى وضوح الرؤية ومدى قدرتها على إقناع رجل الشارع بأهمية ترتيب الأولويات للنهوض بالبلاد . إذا ما صار الإصلاح موضوعا للنقاش المطول دون إخضاعه للتنفيذ, فإن الضرر الذي قد يعود من هذا يفوق أي فائدة مرجوة. وفي العديد من أكثر الإصلاحات الاقتصادية نجاحا في التاريخ, تعلمت الدول الذكية من النجاحات التي حققتها سياسات دول أخري, وعملت علي تكييفها مع الظروف المحلية. ففي التاريخ الطويل من التنمية الاقتصادية, تعلمت بريطانيا في القرن الثامن عشر من هولندا, وفي أوائل القرن التاسع عشر تعلمت بروسيا من بريطانيا وفرنسا, وفي منتصف القرن التاسع عشر تعلمت اليابان تحت حكم ميجي من ألمانيا, وتعلمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من الولاياتالمتحدة, وتعلمت الصين من اليابان. وكان بإمكان مصر أن تكون من بين تلك الدول الناجحة لو استطاعت أن تسير بنفس الخطي التي خطتها عقب ثورة1952, لكنها توقفت بفعل عوامل كثيرة خارجية وداخلية. اليوم مصر في أشد الحاجة إلي أهل الخبرة, حيث إن الأهداف يجب أن تكون مرتبطة بالواقع وبمستقبل له طموحه وآماله ونسعي إليه جميعا. ولا يمكن أن تتحقق الأهداف إلا بسياسات غير تقليدية مستمدة من فكر غير تقليدي. وكم من المشكلات التي يواجهها مجتمعنا اليوم تحتاج إلي الإبداع والابتكار. فقرار حرب1967 هو قرار أهل الثقة وقرار حرب أكتوبر1973 هو قرار أهل الخبرة. وتملك مصر الكثير من القدرات التي تمكنها من استيعاب الجديد في الأساليب العلمية والجرأة في تطبيقه قبل غيرنا من الشعوب والإصرار علي الوصول إلي النتائج رغم محدودية الإمكانيات. ولم تسنح لمصر طوال تاريخها الحديث فرصة كبيرة مثل هذه الفرصة في اللحظة التاريخية الفارقة نحو الانطلاق علي درب النمور الآسيوية, الذين استغلوا اللحظات الفارقة في التاريخ أحسن استغلال, فهل يمكن أن تتكرر نماذج القوي الاقتصادية مع دولة مثل مصر. كثير من المفكرين والاقتصاديين في الخارج يعلقون آمالا كبيرة علي مصر في أن تكون النموذج القادم في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية, خاصة أن هناك إحساسا واضحا لدي طائفة واسعة من المفكرين والاقتصاديين المصريين بضرورة إعادة النظر في مشروع التنمية الذي ساد طوال العقود الأربعة الماضية, وإخضاعه لنوع من التقييم الجاد, حتي يمكن استخلاص أهم الدروس التي تفسر لنا لماذا كانت مواقع الفشل أكثر من مواقع النجاح في ظل وجود نماذج عدة لمست طريقها إلي النجاح بقوة من خلال الاعتماد علي الذات. فالاعتماد علي الذات الذي ننادي به لا يعني الانغلاق أو قطع التعامل مع الاقتصاد العالمي أو تحقيق الاكتفاء الذاتي, فهذه أمور غير ممكنة فضلا علي أنها غير صحيحة من الناحية الاقتصادية. فالاعتماد علي الذات يعني تعبئة الموارد المحلية المتاحة والممكنة بأعلي درجة من الكفاءة واستخدامها علي نحو رشيد وفعال باعتبارها الأساس لبناء التنمية. ومن خلال تبني وتحقيق مقولة الاعتماد علي الذات نستطيع أن نغير من موقفنا الضعيف واللامتكافئ في الاقتصاد العالمي. وقد استطاعت مصر في فترة زمنية قصيرة أن يضرب بها المثل في التخطيط. لقد سبقت العالم النامي في إعداد أول خطة اقتصادية واجتماعية, وكانت من أوائل الدول في اتخاذ التخطيط أسلوبا للتنمية. واعترف خبراء الأممالمتحدة في ذلك الوقت بأن مصر شهدت حتي منتصف الخمسينيات صرحا إحصائيا جمع بين الدقة والتفصيل والشمول والاستمرارية ووحدة المفهوم مما جعل هذا الصرح لبنة أولي في إمكانية التخطيط. حيث إنها اتبعت أحدث الأساليب العلمية آنذاك وهو استخدام نماذج البناء الاقتصادي الرياضي والقياسي في إعداد الخطة. هذا الأسلوب كان وقتها جديدا علي العالم كله المتقدم منه والمتخلف. بل إن جامعات أوروبا والولاياتالمتحدة كانت تدرس هذا العلم علي استحياء ولم يكن أحد يتوقع أن يكون له هذا الشأن الذي نشهده الآن. والميزة الثانية هي أن أفق التخطيط لم يقتصر علي خمس سنوات بل نظر المخطط إلي صورة مصر بعد عشرين سنة. والشيء الذي يجب أن نعرفه جميعا ويعرفه جيل الشباب أن اللجنة المكلفة بوضع الخطة اختارت أستاذين عالميين لكي يشاركا مع الخبراء المصريين في إعداد الخطة هما أيان تنبيرجن وراجنر فرش اللذان حصلا فيما بعد علي جائزة نوبل في الاقتصاد, وكانا وقتها علمين من أعلام التخطيط, بل علي يديهما نشأ علم التخطيط الاقتصادي. لماذا لم نستفد من تجارب الآخرين في إقامة المشروعات الكبري خاصة أن الكثيرين يتناولون القشور دون الغوص الحقيقي وراء نجاح هذا المشروع أو ذاك؟ فهناك مشاريع يفخر بها الأمريكان لنجاحها الباهر ليس للعامل الإيديولوجي أو الانتماء الحزبي بل لإبعاد السياسة عن المشروع. فالقصة الحقيقية للنجاح تكمن في الأساس في إبعاد السياسة عن الاقتصاد, وإبعاد التوجه الحزبي في اختيار العاملين في المشروع ومن يعمل في السياسة في أي مشروع مصيره الفصل. وهناك تشريع صريح أقره الكونجرس الأمريكي بوجوب إبعاد السياسة عن المشروعات الاقتصادية, كما لا يجب البت فيها سياسيا أو عن طريق الهيئات السياسية, وهذا ما حدث بالفعل مع مشروع' وادي تنيسي' حيث تم إبعاد إدارة المشروع عن الحزبية, فجاء التشريع كالآتي' لا يجوز التعيين تبعا لأي اختبار أو مؤهلات سياسية أو إعطائها أي اعتبار بل يجب عمل ومنح جميع هذه التعيينات والترقيات علي أساس الكفاءة والجدارة. وأي اختراق لهذا النص سوف يعرض عضو مجلس الإدارة للعزل بواسطة رئيس الجمهورية أو أي موظف للفصل بواسطة مجلس إدارة المشروع. فالموظف الذي يدين بتعيينه إلي حزبيته لا يمكن أن يقصر وفاءه علي مصالح المهمة وأغراضها العامة فقط, وبذلك يتلقح المشروع بأكمله بالآراء نصف الفنية ونصف السياسية وينهار الأساس الذي تقف عليه إدارة المشروع وتتضاءل ثقة الجمهور في نزاهتها. فما دخلت الحزبية يوما علي مشروع مبني علي الكفاءات الخبيرة إلا وتخلخل بناؤه وأصبح غير مأمون. فالإداريون والفنيون مهما اعتقدوا في سمو وحكمة أغراضهم لا يمكن أن يصل ورعهم وتعنتهم درجة الجمود بسياسات أحزابهم. نحن أمام مرحلة جديدة تتطلب منا تكاتف جميع الجهود علي هدف واحد. وكانت هناك تجارب ناجحة علينا استعادتها من جديد مثل بنوك التنمية الوطنية لتكون أكثر قدرة علي النهوض بمتطلبات التنمية بتعبئة المدخرات ومعاونة المدخر والمستثمر الصغير علي التعرف علي مجالات الاستثمار وتوجيه موارد هذه البنوك نحو المشروعات الاستثمارية والمساهمة في رءوس أموال الشركات التي تقام بالمحافظات. فبنوك التنمية الوطنية تكونت جنينا في رحم التنمية الشعبية وأنها أيضا هي التي تولت حضانتها وتنشئتها حتي بلغت رشدها, ثم انحرفت عن مسارها. كذلك يجب أن ندقق في اختياراتنا للمشروعات الكبري من وجهة النظر القومية فإن معيار جدوي المشروع الذي تتحدد علي أساسه درجة أولوية يأخذ أبعادا أكثر ارتباطا بالأهداف القومية والاجتماعية للخطة. إذ لا يقتصر الأمر علي عائد المشروع نفسه وتكلفته كوحدة قائمة بذاتها وإنما تتمثل آثار المشروع ومساهمته في تحقيق أهداف الخطة المضمون السياسي والاقتصادي الذي يتم من خلاله تقييم المشروع. ولعل تجربة كل من الصين والهند توضح كيف اختارت كل دولة طريقها الصحيح, ففي حين تعتمد الصين بشكل هائل علي تصدير السلع التامة الصنع اكتسبت الهند سمعتها كدولة مصدرة للخدمات الحديثة, والواقع أن الهند تجاوزت مرحلة التصنيع, فانتقلت من الزراعة إلي الخدمات مباشرة. فالاختلاف بين نماذج النمو في البلدين مذهلة. فنمط النمو في الهند يتناقض مع قانون راسخ يحكم التنمية, ولقد أثبت ذلك القانون صدقه طيلة قرنين من الزمان تقريبا أو منذ بداية الثورة الصناعية. فطبقا لهذا القانون, فإن التصنيع يشكل السبيل الوحيد إلي التنمية الاقتصادية السريعة في البلدان النامية. ففي الهند لم ينجح قطاع الخدمات في دفع النمو الاقتصادي الإجمالي فحسب بل إن قطاع الخدمات يتميز بارتفاع إنتاجية العمالة مقارنة بالقطاع الصناعي. ومن ثم فإن فرصة كل بلدان العالم في التنمية استنادا إلي الميزة النسبية التي تتمتع بها تتوسع أيضا وقد تكون هذه الميزة النسبية في التصنيع أو في الخدمات أو في الزراعة. صحيح أننا نعيش في عصر ما بعد الصناعة, حيث أصبحت تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والخدمات ذات القيمة العالية بمثابة المحركات للنمو الاقتصادي. ولكننا تجاهلنا عمدا صحة الصناعات التحويلية وانسقنا إلي الدعوات التي روجها الغرب لنا في الخدمات وتكنولوجيا المعلومات. فمن المؤسف أن العديد من التكنولوجيات الجديدة ونماذج العمل التجاري تعمل علي صنع المال للمستثمرين من دون أن تخلق فرص عمل جديدة للعمال. والصناعات التحويلية قادرة علي استيعاب أعداد كبيرة من العاملين من ذوي المهارات المعتدلة, وتزويدهم بوظائف ثابتة وفوائد جيدة. لذا فإن الصناعات التحويلية تظل بالنسبة لنا تشكل مصدرا قويا لتشغيل العمالة بأجور مرتفعة. كما أن قطاع الصناعات التحويلية يساعد أيضا في تشكيل ونمو الطبقات المتوسطة في مختلف أنحاء العالم. وهي في النهاية تشكل أهمية مركزية في دعم حيوية الديمقراطية في أي دولة. كل ذلك لابد أن يتم من داخل إستراتيجية للتنمية. ولكي نصل إلي هذه الإستراتيجية لابد من وضع مجموعة من السيناريوهات أو البدائل لصورة مصر بعد عقد من الزمان ويشترك في وضع هذه السيناريوهات مجموعة من المفكرين بمختلف تخصصاتهم ومذاهبهم. وليس المطلوب هو الاتفاق علي سيناريو واحد وإنما المطلوب مجموعة من السيناريوهات قد تتباين فيما بينها. وعند الانتهاء من إعداد هذه السيناريوهات, يبدأ الحوار بين مجموعة المفكرين والقيادة السياسية لاستبعاد أكثر هذه السيناريوهات تطرفا وبعدا عن إمكانية التحقيق. هل نستغل الفرصة في بذل جهد علمي وعملي لإعداد خطة اقتصادية للخمس سنوات القادمة بعيدا عن السياسة وصناديق الانتخابات؟