سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه.. استقرار العملة الأمريكية    إيقاف تأشيرة عمرة ال«B2C» للمصريين بعد أزمة حج 2024 (خاص)    قانون لحل مشاكل الممولين    جوتيريش: وقف إطلاق نار الحل الوحيد لإنهاء الأزمة في غزة    بوتين: سنواصل تطوير ثالوثنا النووي ضمانا للردع الاستراتيجي    قطر: الفجوات قائمة بشأن وقف إطلاق النار في غزة رغم التقدم في المحادثات    من «الضفة الأخرى».. داليا عبدالرحيم تكشف مخاطر صعود اليمين المتطرف بأوروبا وعبدالمنعم سعيد يصفهم بالنازيين الجدد    حقيقة لجوء الزمالك للمحكمة الرياضية لشكوى اتحاد الكرة ورابطة الأندية (خاص)    طلائع الجيش ينهي استعداداته لمواجهة سموحة في الدوري    موهوب ريال مدريد على رادار ليفربول بفرمان سلوت    الأولمبية تمهل مجلس النصر أسبوعاً للرد على الشكاوى    مفاجأة جديدة حول مشاجرة «إمام عاشور».. زوجته لم تبلغ عن تعرضها للمعاكسة    مطروح تغلق الطرق إلى الشواطئ المفتوحة أمام المصطافين    رسميًا.. ولاد رزق القاضية الأعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية    24 شهيدا و47 مصابا فى استهداف الاحتلال خيام النازحين فى المواصى برفح الفلسطينية    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    البنتاجون: يحق لأوكرانيا استخدام الصواريخ الأمريكية طويلة المدى لضرب أهداف داخل روسيا    النفط يتجه لتحقيق ثاني زيادة أسبوعية وسط تفاؤل بشأن الطلب    بيان عاجل للحكومة بشأن وفاة مئات المصريين في الحج    التصريح بدفن جثة شخص لقي مصرعه أسفل عجلات القطار بقليوب    افتح الكاميرا وانتظر السجن.. عقوبة التقاط صور لأشخاص دون إذنهم    شروط التقدم للمدارس الثانوية الفنية لمياه الشرب والصرف الصحي لعام 2024 / 2025    سعاد حسني.. حياة حافلة بالحضور الطاغي ورحيل غامض أثار التكهنات    البطريرك مار أغناطيوس في منزل القديس جان ماري فيانّي بفرنسا    المفتي يستعرض عددًا من أدلة عدم نجاسة الكلب.. شاهد التفاصيل    الأرز الأبيض.. هل يرفع احتمالات الإصابة بداء السكر؟    غدا، مكتبة مصر العامة تناقش كتاب «مسيرة تحرر.. مذكرات محمد فايق»    يورو 2024.. ليفاندوفسكى على مقاعد البدلاء فى مباراة بولندا ضد النمسا    شركة إنتاج فيلم Megalopolis ترفض تسويقه بسبب اتهامات التحرش    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    في حال التصالح، هل يعرض إمام عاشور على النيابة في واقعة المول بالشيخ زايد؟    الزمالك يشارك في دوري الكرة النسائية الموسم المقبل    التضامن تطلق النسخة الثانية لمبادرة "الأب القدوة"    السمسمية تختتم احتفالات قصور الثقافة ببورسعيد بعيد الأضحى    محافظ الغربية يتابع الحملات المستمرة لإزالة التعديات على الأراضي الزراعية    الأمم المتحدة: عددا من الأسر فى غزة يتناولون وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة    مطاي تنفذ مبادرة خفض الأسعار للسلع الغذائية في منافذ متحركة وثابتة    الداخلية تحرر 169 مخالفة للمحلات غير الملتزمة بقرار الغلق خلال 24 ساعة    استشهاد فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية    أول تعليق من الأب دوماديوس الراهب بعد قرار الكنيسة بإيقافه عن العمل    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    ما مصير جثامين الحجاج المصريين «مجهولي الهوية»؟.. اتحاد المصريين بالسعودية يكشف (فيديو)    «قوة الأوطان» موضوع خطبة الجمعة المقبلة    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى الصدر بالزقازيق    تركي آل الشيخ يرصد 60 مليون دولار لكأس العالم للرياضات الإلكترونية    بعد الإطاحة به من المنافسة.. خيبة أمل تصيب صناع الفن بعد تذيل أهل الكهف الإيرادات    مدير آثار الكرنك: عقيدة المصري القديم تشير إلى وجود 3 أشكال رئيسية للشمس    أحمد مات دفاعا عن ماله.. لص يقتل شابا رميًا بالرصاص في قنا    أزهري يوضح أضلاع السعادة في الإسلام    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    طريقة عمل ميني بيتزا، سهلة ومناسبة لإفطار خفيف    وزير الإسكان: جار إنشاء الطريق الإقليمى الشرقى حول مدينة أسوان وتوسعة وتطوير كورنيش النيل الجديد    الحرارة تصل ل47 درجة.. بيان مهم من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم الجمعة (تفاصيل)    تعليق مثير من ليونيل سكالوني بعد الفوز على كندا في كوبا أميركا    نماذج استرشادية لامتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة 2024    عاجل - "قطار بسرعة الصاروخ".. مواعيد وأسعار قطارات تالجو اليوم    حلمي طولان يناشد الخطيب بطلب شخصي بخصوص مصطفى يونس.. تعرف على السبب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بين الأمن القومى ونهضة الاقتصاد: وداعا لاستنساخ التجارب التنموية

شهد العالم أجمع بعظمة الثورة المصرية وتأثيرها علي شعوب العالم. حيث عكست الثورة مطالب الناس في كل مكان حيث يتطلعون إلي شيء واحد: عمل لائق, ومنزل آمن, وبيئة آمنة, ومستقبل أفضل لأبنائهم, وحكومة تصغي لشواغلهم وتستجيب لها. فالثورة لم يكن لها قيادة, ولا حزب سياسي رائد, ولكن هذا لا يعني أن ليس لها أفكار وثوابت. إنها حراك عام, تخطي في لحظته الأولي كل أحزاب المعارضة, وما يزال حتما يتخطاها في زمن المجتمع. وقد طالبنا في أكثر من مقالة بضرورة أن يكون لمصر نموذجها الخاص في التنمية. وقلنا إن الأمم الرشيدة هي التي تقلل تكلفة الانتقال وتستخلص لنفسها هذا النموذج, لذا من الضروري أن تتكاتف القوي الوطنية والعقول الاقتصادية وقيادات الأعمال لوضع برنامج عمل اقتصادي لمصر. فليس من المنطق وغير المقبول أن نطالب الحكومة بكل شيء وأن ينصرف الشعب عن العمل ويطالب البعض منه بأن يصله دخله دون عمل أو إنتاج. وليس من المقبول أن يتم تخوين كل رواد الأعمال وقيادات الأعمال بسبب قلة أفسدت الوطن.
أننا نعيش لحظة فارقة لا يقدر أهميتها سوي عدد قليل من الخبراء والمختصين بالشأن الدولي, لأن التنمية ليست مجرد نمو اقتصادي بحت, بل هي حدث تاريخي حضاري يصيب مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع ونحن نعيش تلك اللحظة. ولا يوجد نموذج واحد يمكن أن نقتدي به, حيث إن لكل بلد قدرته الخاصة علي التجربة واستكشاف أفضل توليفة من المؤسسات ونظم الإدارة المناسبة لظروفه الخاصة والمتوافقة مع تطلعات سكانه. والنهج الذي سرنا عليه في التنمية خلال العقود الماضية ليس وليد قناعات فكرية واستجابة لضرورات اقتصادية واجتماعية تلبي احتياجاتنا, بل نهج فرض علينا من الخارج والاستمرار عليه سيؤدي إلي إعادة إنتاج وصياغة علاقات التبعية لمرحلة جديدة أسوء مما كنا عليه. ويثار اليوم جدل واسع إزاء المشروعات القومية, البعض يفضل إرجاءها لحين عودة الاستقرار السياسي والاقتصادي ولا يجب البت فيها في وضع حالة الخزانة المصرية الآن, ويري آخرون أن عصر الاستثمارات الأجنبية قد ذهب بلا رجعة وأن هناك نظريات خطط اقتصادية جديدة تختلف عما ألفناه في الماضي وسوف يكون المحك الأساسي لنجاح أو فشل مشروعات بعينها, كما أن هناك تجارب كثيرة يمكن أن نستخلص منها ما يفيدنا مع التأكيد علي أن عصر استنساخ تجارب التنمية قد ولي, حيث إن لكل بلد نموذجه الخاص به. لكن لماذا هذا الجدل الكبير علي سيناء ومشروعات إقليم قناة السويس ؟
لقد تغيرت كثير من المفاهيم والمعطيات الاقتصادية التي كنا نسير علي هداها ليس هذا علي المستوي المحلي بل علي المستوي العالمي أبضا, فداني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد يقول: ذات يوم, كنا نحن أهل الاقتصاد حريصون علي تجنب السياسة. وكنا ننظر إلي وظيفتنا باعتبارها الوسيلة لوصف الكيفية التي تعمل بها اقتصادات السوق, عندما تفشل, وكيف تتمكن السياسات الجيدة التصميم من تعزيز الكفاءة. وكنا نحلل المفاضلات بين أهداف متضاربة( ولنقل علي سبيل المثال, العدالة في مقابل الكفاءة), ونصف السياسات اللازمة لتلبية النتائج الاقتصادية المرجوة, بما في ذلك إعادة التوزيع. وكان الأمر متروكا للساسة في أن يأخذوا بنصيحتنا( أو لا يأخذوا بها), وللبيروقراطيين في أن ينفذوها. وفي ظل إحباطنا إزاء حقيقة مفادها أن الكثير من نصائحنا ذهب أدراج الرياح, حولنا جهودنا التحليلية نحو سلوك الساسة والبيروقراطيين أنفسهم. وبدأنا دراسة السلوك السياسي بالاستعانة بنفس الإطار النظري الذي نستخدمه في تحليل قرارات المستهلك والمنتج في اقتصاد السوق. لقد تحول الساسة إلي موردين للخدمات السياسية حريصين علي تعظيم الدخل; وتحول المواطنون إلي جماعات ضغط نفعية وأصحاب مصالح خاصة; وتحولت الأنظمة السياسية إلي أسواق حيث يتم تداول الأصوات والنفوذ السياسي في مقابل منافع اقتصادية.ولماذا تعمل النخب السياسية علي منع الإصلاحات التي من شأنها أن تحفز النمو الاقتصادي والتنمية؟ لأن النمو والتنمية من شأنهما أن يضعفا قبضة النخب السياسية علي السلطة السياسية. ولماذا هناك أزمات مالية؟ لأن البنوك تفرض سطوتها علي عملية صناعة القرار السياسي حتي يتسني لها أن تخوض مجازفات مفرطة علي حساب عامة الناس. وكلما زاد ما نزعم أننا قادرون علي تفسيره, ضاقت المساحة المتاحة لتحسين الأمور. فإذا كان سلوك الساسة يتحدد وفقا للمصالح الخاصة التي تتحكم فيهم, مما لا شك فيه أن التحديات التي ستواجه واضعي السياسات الاقتصادية في العالم خلال السنوات العديدة القادمة ستكون مختلفة عن تلك التحديات التي واجهوها في الماضي.
يري أحد المختصين بملف الأمن القومي والاستثمار في سيناء أن الفراغ العمراني في سيناء لم يترك أرضا جاهزة لمعركة العدوان وملائمة لأغراضه فقط, ولكنه تركها نهبا للأطماع الاستعمارية الآن وفيما مضي. ولم يكن رينان يرجم بالغيب تماما حين خاطب دي لسبس أيام شق القناة قائلا- وإن كان ذلك هو الاستعمار يخاطب الاستعمار- إنك قد حددت معركة كبري للمستقبل. قد لا نبالغ إذا قلنا أن تاريخ مصر الحديث إنما هو في التحليل الأخير تاريخ قناة السويس, أو علي الأقل يتمحور حولها ولا ينفصل البته عنها. كل من حاول أن يضرب مصر الأم إنما حاول أن يخنقها من قناتها العنق. يصدق ذلك ابتداء من التل الكبير إلي العلمين, ومن الحرب العالمية الأولي( الحملة التركية) إلي الثانية( غارات المحور الجوية), ومن العدوان الثلاثي حتي غارات العدو الإسرائيلي. نعم القناة رقبة مصر الجغرافية وعنق الزجاجة في استراتيجيتها كما هي شريان للتاريخ فيها.
وبصفة عامة يمكن القول إنه إذا كان هناك دائما عدو ما يشكك بطريقة ما في مصرية سيناء, ويطمع فيها بصورة ما بالضم, بالسلخ, بالعزل أو بغير ذلك من الأساليب سواء بالبيع أو الإيجار, حدث هذا تحت العثمانية مرتين, مرة في صراعها ضد قوة مصر الصاعدة ومحاولتها الدائبة لتقليص حجمها وقص أجنحتها وحصر دورها الذي هدد كيان الدولة العلية. ومرة أخري في صراعها ضد الاستعمار البريطاني الذي طردها من مصر ووضع قدمه في حذائها. وهو الآن يتكرر مع إسرائيل والولايات المتحدة أيضا. فأما تركيا حاولت أكثر من مرة خلال القرن التاسع عشر في مناسبات انتقال وراثة الولاية أن تسلخ من ولاية مصر جزءا أو آخر من سيناء, فمرة أو أكثر أرادت أن تحدد حدود مصر الشرقية بخط العريش- السويس الذي يسلب مصر معظم سيناء. ثم عادت تساوم بخط العريش- رأس محمد الذي يكاد ينصف سيناء. وقد فشلت هذه المحاولات بالطبع, ولكنها عادت فتجددت في حادثة طابا الشهيرة1906 حين اصطدمت تركيا ببريطانيا صداما مباشرا ومسلحا علي الحدود في رفح والعقبة. وفيما بين المناوشات العسكرية والمفاوضات السياسية كررت تركيا اقتراح الخطين السابقين, كما عرضت خطوطا أخري بدائل تكاد تصل بين كل نقطتين من أطراف سيناء الجغرافية, رأسي خليجي العقبة والسويس, ورأس خليج العقبة ورأس القناة, ورأس محمد ورأس القناة.. الخ, غير أن الزوبعة المفتعلة تلاشت نهائيا حين هددت بريطانيا باستخدام القوة وبعثت بأسطولها الحربي إلي مياه المنطقة.
أما عن إسرائيل, فإن أطماع إسرائيل في سيناء قديمة قدم هرتزل حين وصلت إليها بالفعل بعثة إسرائيلية لدراسة إمكانيات التوطين اليهودي بها. وقد اقترحت البعثة نقل مياه النيل عبر قناة السويس إلي شمال شبه الجزيرة خاصة منطقة العريش للاستزراع والتوطين. وكانت السياسة البريطانية في مصر من قبل تعمل علي عزل سيناء عن مصر وأقامت بينهما سدود ا إدارية وعسكرية ومادية مصطنعة, ولم تتورع عن أن تعلن بإلحاح أن سيناء آسيوية وسكانها آسيويون. ولهذا راحت تلعب بالنسبة للمشروع الصهيوني لعبة مزدوجة. غير أنها كانت متأرجحة بين مخاوفها من خطر اللعبة علي نفوذها ووجودها في مصر وبين تطلعها إلي إيجاد قوة مناوئة لمصر علي تخومها الشرقية تهددها وتضاربها وتفصلها عن العرب. وفيما بين هذين النقيضين, تم تأجيل المشروع لحين قدوم فرصة مواتية.
غير أن كل خطط تركيا القديمة وإسرائيل, بعثت إلي الحياة بحذافيرها تقريبا, إسرائيل منذ1956 علي الأقل. فحين أرغمت إسرائيل علي التراجع بعد أن كانت قد أعلنت رسميا' ضم' سيناء بدأت تراوغ بالمساومة, فاقترحت خطوط تقسيم شبيهة بالخطوط العثمانية. ولكن مصيرها أيضا كان مشابها. وبعد يونيو عادت إسرائيل تثير موضوع' مصرية' سيناء وزعمت أنها حديثة عهد بالتبعية لمصر- بالتحديد منذ1906. وفي تلك الفترة أغرقت العالم بطوفان من الإدعاءات والأبحاث الملفقة التاريخية تسند بها أطماعها الإقليمية. وفي هذه الأثناء كانت إسرائيل ماضية بسياسة الأمر الواقع تعد لتهويد شبه الجزيرة أو أجزاء منها, تطرد الأهالي, تقيم المستعمرات هنا وهناك خاصة حول العريش وشرم الشيخ وترسم المشروعات الضخمة لمدن جديدة علي الحدود. وقد وصلت حملات التشكيك الإسرائيلي في مصرية سيناء إلي حد جعل أحد وزراء خارجية الولايات المتحدة الكبار يسأل علي سبيل الاستفسار فيما يبدو' منذ متي كانت سيناء مصرية ؟' ولقد سمعنا أصواتا في الغرب ترتفع مقترحة' تدويل سيناء مرة أو تأجيرها أو حتي شراءها كحل لجذور المشكلة. مجموعة من البرلمانيين الإنجليز, يدعون بالصداقة والحياد, فعلوا هذا ووضعوا جادين شروطها وتفاصيلها وحسابات الأرباح والخسائر بالنسبة للمساهمين وأصحاب السندات بما فيهم مصر أيضا. إذا كان الاستعمار قد استمات من أجل الاحتفاظ بالقناة وبأهميتها فإن مصر صاحبة ومالكة أمرها وأمر نفسها أولي وأجدر, وأحد في النهاية لن يهتم بها أو بمصيرها ما لم تهتم هي إنها معركة مصير وصراع وبقاء وككل صراع فإن أكبر الأسلحة ليس السلاح نفسه فحسب وهو هنا كأمضي ما يكون سلاح, وإنما هو أولا وقبل كل شيء يدك التي تمسك بهذا السلاح وإرادتك التي تحركها وتحركه. نحن نخشي أن نستغلها استغلالا سيئا يجب علي مصر نفسها أن تمتلك أسطولا كفئا قويا لتستعمله هي بنفسها وعلي قناتها. أن الخطر الحقيقي علي القناة ليس الناقلات العملاقة وطريق رأس الرجاء الصالح, ليس التكنولوجيا الحديثة وفنون الهندسة البحرية ولكن وحدة الخطر الاستراتيجي العسكري الإسرائيلي فالعدو الحقيقي للقناة هو العدو الإسرائيلي مرتين, مرة علي المستوي السياسي والعسكري المباشر ومرة علي المستوي الاقتصادي والتجاري وكلا المستويين لا انفصال بينهما. إن أعظم استثمار اقتصادي مربح يمكن لمصر أن تضعه في القناة من الناحية المادية البحتة إنما هو الاستثمار العسكري المتمثل في كبح الخطر الإسرائيلي القائم والكامن مهما كان الثمن وأيا كان الإنفاق, إنه أربح علي المدي الطويل ولازم علي مستوي الاقتصاد والرخاء مثلما هو لازم علي مستوي السياسة
د. مصطفي أحمد مصطفي مستشار العلاقات الاقتصادية الدولية وأستاذ بجامعة الأمم المتحدة سابقا: الذين ينصحون صانع القرار بتقديم الحوافز والإعفاءات لجلب الاستثمار الأجنبي يعرفون أنه لم يكتب النجاح إلا لعدد ضئيل من الدول, مثل الصين والهند, التي تمكنت من التفاوض علي قدم المساواة مع دول العالم الصناعي. ومن هنا فإن الدول النامية تجد مصلحتها في الدعوة إلي إقامة حوار متعدد الأطراف بشأن تحديد شروط الاستثمار من أجل الحصول علي ضمانات جماعية معينة. فإن هذه الدول في الحقيقة لابد أن تكون قادرة علي وضع الشروط التي تحكم عمل المستثمرين الأجانب الذين يسعون إلي تعظيم الأثر المحلي علي تشغيل العمالة, وانتشار التكنولوجيا, والشراكة الإستراتيجية, وما إلي ذلك. وفي ذات الوقت, فقد تحتاج الدول النامية إلي تعزيز القطاع الخاص المحلي لديها ودعم' الصناعات الوليدة' من خلال فرض إجراءات الحماية بصورة مؤقتة, وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعدها علي الارتقاء بناتجها المحلي علي مسار التحرر الكامل.
وليس هناك ابتداع أو خروج علي المألوف في مثل هذه الاقتراحات. فقد فعلت الدول المتقدمة نفس الشيء بشكل أو بآخر. ففي القرن التاسع عشر, فرضت الولايات المتحدة قيودا علي الاستثمارات الأجنبية في العديد من القطاعات, بما في ذلك قطاع التمويل. واليوم, تراقب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن كثب كل صفقات البيع التجارية الكبري. وعلي نحو مماثل تنحرف الدول الناشئة في آسيا الآن عن النموذج الليبرالي المحض. وحتي أيرلندا التي كانت تعد بطل التحرر الاقتصادي نكصت الآن علي عقبيها نحو توجه أكثر انتقائية. هناك كتابات كثيرة لاقتصاديين مرموقين يؤكدون علي اعتبار وجود حصة كبيرة للاستثمار الأجنبي المباشر في إجمالي تدفقات رأس المال, علامة علي ضعف وليس علي قوة الدولة المضيفة وإن كان هناك بعض الاستثناءات في هذا الموضوع لا تخص الدول النامية. ومن الخصائص اللافتة للنظر في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أن حصته في إجمالي التدفقات تكون أعلي في الدول المحفوفة بدرجة أكبر من المخاطر, حيث تقاس المخاطر بتقدير الجدارة الائتمانية للدولة بالنسبة للديون السيادية( الحكومية) أو بواسطة مؤشرات أخري تدل علي أن الدولة معرضة للمخاطر. كذلك توجد شواهد علي أن حصة هذه التدفقات تكون أعلي في الدول التي تكون فيها المؤسسات غير جيدة. كذلك وجد أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد لا يفيد بالضرورة الدولة المضيفة. لكن الغريب في موضوع الاستثمار الأجنبي ظهور نظريات اقتصادية جديدة تتصادم وتتعارض مع ما ألفناه من تحبيذ الاستثمار الأجنبي في العقدين السابقين, فهناك كتابات وتقارير دولية صادرة عن هيئات محترمة يعتد بها في المجال الاقتصادي تنصح الدول الفقيرة ذات الموارد الغنية بأن أفضل سبيل عملي للدول الفقيرة هو أن تفادي كلية والغريب في موضوع الاستثمار الأجنبي في الموارد الطبيعية أن نتيجته جاءت مخيبة للآمال, وكان أداء كثير من الاقتصادات الغنية بالموارد أسوأ من أداء الدول الفقيرة بالموارد, الأمر الذي دفع الاقتصاديين إلي مناقشة مسألة' لعنة الموارد'. وعادت المشكلة تطفو علي السطح مرة أخري بشأن الآثار السلبية لمشاريع النفط والغاز والمعادن, مشيرة إلي أن أفضل سبيل عملي للدول الفقيرة هو أن تفادي كلية الصناعات الاستخراجية الموجهة صوب التصدير'
د. دينا جلال أستاذ الاقتصاد بجامعة قناة السويس: لا يوجد نموذج واحد يمكن أن نقتدي به, حيث أن لكل بلد قدرته الخاصة علي التجربة واستكشاف أفضل توليفة من المؤسسات ونظم الإدارة المناسبة لظروفه الخاصة والمتوافقة مع تطلعات سكانه. والنهج الذي سرنا عليه في التنمية خلال العقود الماضية ليس وليد قناعات فكرية واستجابة لضرورات اقتصادية واجتماعية تلبي احتياجاتنا, بل نهج فرض علينا من الخارج والاستمرار عليه سيؤدي إلي إعادة إنتاج وصياغة علاقات التبعية لمرحلة جديدة أسوأ مما كنا عليه. وكثير من المفكرين الاقتصاديين حذروا الدول النامية علي السير علي النهج الذي يتم صنعه في الغرب حيث لاحظ أن معظم الكتابات التي عالجت مشاكل التنمية- وهي تصدر في الدول الصناعية المتقدمة- لم تكن تهتم بمعالجة مصالح الدول المتخلفة, بل تعرض هذه المشكلات بقصد أو بدون قصد, من وجهة نظر المصالح الأساسية لإحدي الدول المتقدمة أو مجموعة منها. لقد اخترنا نماذج فاشلة للتصنيع, فتحت تأثير اللحاق بمستويات المعيشة للدول الغربية والانبهار بهذه المستويات باعتبارها هدفا للتنمية, اخترنا نماذج معينة لا تتناسب مع مواردنا ولا مع مستوي معيشتنا, هذه النماذج قامت علي اعتبارات الطلب الفعال وقوي السوق, ولهذا أدت إلي تشويه نمط الإنتاج والاستهلاك لصالح أصحاب الدخول العالية فالتصنيع بدأ من النهاية بمعني أن منتجاته المصنعة وأغلبها من السلع الاستهلاكية المعمرة كانت تتناسب مع مراحل أكثر تقدما من واقع الحال داخل الاقتصاد القومي. ومن هنا كانت حتمية ارتباط الإنتاج بما يتدفق إليه من الخارج من تكنولوجيا وقطع غيار مستوردة بل وصل في نهاية الأمر إلي عمالة فنية مستوردة, وبالتالي لم يسهم في زيادة فرص التوظف إسهاما كبيرا, حيث كانت فنونه الإنتاجية المستخدمة كانت مكثفة لعنصر رأس المال. وفي الحالات التي تخصص فيها قطاعنا الصناعي كان من أجل التصدير, ومن ثم أصبح الإنتاج يتحدد نوعه وحجمه ومعدلات نموه طبقا لاتجاهات الطلب الخارجي, فهو لا ينتج للوفاء بحاجة السوق المحلي وإنما يهدف إمداد الصناعات بالدول المتقدمة بالمواد الخام اللازمة لدورانها, كما أن الفائض الاقتصادي الذي يتحقق فيه لا يبقي داخل الدولة وإنما يعاد إنسيابه إلي الدولة الأم. أفرز هذا النظام نخبة من السياسيين ورجال الأعمال أمسكوا بمقاليد الأمور. وتركيز النمو علي قطاع معين أدي إلي أن تستأثر قلة من الأفراد بثمار التنمية.أما السلع التي يستهلكها معظم السكان, فلم تجد العناية ولا رؤوس الأموال المطلوبة التي تلزم لدفع عجلات النمو فيها, وهذ ما يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية في مجتمعنا والقضية الثانية تظهر في أن العالم كله بدأ يعيد ترتيب أوراقه الاقتصادية بعد الأزمة المالية ومعظم الإجراءات تكاد تكون متشابهة لكنها تأتي تحت مسميات مختلفة. فمن المرجح أن يؤدي تصاعد دور الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب إلي تغيير الطريقة التي يقوم بها العالم بممارسة التجارة العالمية, وكل العلامات تشير إلي أننا بلغنا نقطة التحول نحو تطبيق نظام جديد حيث لن تكون قواعد اللعبة مرحبة بالاستراتيجيات المعتمدة علي التصدير. حيث يتمثل التهديد المباشر الأعظم هنا في تباطؤ اقتصاد البلدان المتقدمة, بالإضافة إلي أن ما يقرب من60% من الأمريكيين يعتقدون أن العولمة نظام رديء لأنه تسبب في تعريض شركات الولايات المتحدة والعاملين الأمريكيين إلي منافسة غير عادلة. لذلك لا نستغرب اتخاذ إجراءات جديدة تعكس رغبة الأمريكيين, منها عدم نقل المصانع إلي الخارج.
وتري د. دينا جلال أن هناك تغيرات كثيرة في كثير من النظريات الاقتصادية والبرامج التي كانت تتبع في الماضي وفي نماذج التنمية ولعل أفضل عنصر بناء يساعد مصر علي إنجاز نموذجها الخاص في التنمية هو الاستعانة بتقرير سبنس الذي عرف فيما بعد ب'توافق واشنطن الجديد' فتقرير سبنس تحول فكري أعرض اتساعا في صناعة التنمية فإجماع واشنطن القديم الذي يتلخص في القائمة المشينة التي اشتملت علي أوامر ونواه يتعين علي صناع القرار في الدول النامية الالتزام بها, قد انحل إلي حد كبير. وجاء تقرير سبنس ليمثل نقطة تحول في سياسات التنمية. ويعكس تحولا فكريا أعرض اتساعا في صناعة التنمية. فهو يفترض قدرا عظيما من القدرات غير المستغلة في الدول الفقيرة, وهذا يعني أن أبسط التغييرات قادرة علي إحداث اختلافات ضخمة. وبدلا من اعتماد أسلوب الإصلاح الشامل فهو يؤكد علي التجريب والمبادرات التي تستهدف مجالات محدودة نسبيا سعيا إلي التوصل إلي الحلول المحلية. وتجاهل التقرير التأكيدات الواثقة القديمة علي مزايا وفضائل التحرير, وإلغاء التنظيمات, والخصخصة, والأسواق الحرة. كما تجاهل التوصيات الثابتة القديمة التي لم تنتبه إلي الفوارق القائمة بين البيئات الاقتصادية المختلفة. والحقيقة أن الفضل يرجع إلي سبنس في نجاح التقرير في تجنب أصولية السوق والأصولية المؤسسية. فبدلا من تقديم حلول سطحية من قبيل' اتركوا السوق تقوم بعملها' أو' أصلحوا الإدارة', يؤكد التقرير أن كل دولة يتعين عليها أن تبتكر المجموعة التي تناسبها من العلاجات.
م. علي نجيب- كان رئيسا للمكتب العلمي للتطبيقات الصناعية وله مؤلفات كثيرة- ورغم كبر سنه فهو يواظب علي حضور المؤتمرات والندوات ويبادل الرأي والحجية يقول: إن ما يجب التفكير فيه الآن هو خطة استراتيجية للتنمية القومية الشاملة ثم تأتي' المشروعات' لكي تحققها في مراحل متتالية وليس العكس. كما أن كثيرا من الدول استبعدت فكرة المشروعات القومية الكبري وبدأت تنهج نهج المشاريع الصغيرة لتكون نواة لمشروعات كبرة إما بفرد أو بطبيعة مرحلة ما, ويستمد المشروع بقاءه من بقاء الفرد أو من بقاء المرحلة وينتهي عادة بانتهائه. فكثير من المشروعات المطروحة كانت معدة في الستينيات والسبعينيات ولا تواكب المرحلة التي نعيشها الآن وكثيرا ما شاهدنا انفراد مسئول ما باتخاذ قرار مصيري هام في التنمية العمرانية دون ان يستند في اتخاذ هذا القرار الي دراسات علمية يقوم بها المتخصصون في مجال العمران, بل يستند الي رؤي شخصية ذاتية تتسم عادة بقصر النظر وتهدف أساسا لتحقيق مصالح شريحة اجتماعية واحدة ومحددة علي حساب شرائح المجتمع الأخري. فالصناعات التحويلية قادرة علي استيعاب أعداد كبيرة من العاملين من ذوي المهارات المعتدلة, وتزويدهم بوظائف ثابتة وفوائد جيدة. لذا فإن الصناعات التحويلية تظل بالنسبة لنا تشكل مصدرا قويا لتشغيل العمالة بأجور مرتفعة. ويرجع هذا إلي حقيقة مفادها أن أغلب الصناعات التحويلية تمثل في الواقع ما نستطيع أن نطلق عليه' أنشطة السلم الميكانيكي' فبمجرد تمكن الاقتصاد من الحصول علي موطئ قدم في صناعة ما, تميل الإنتاجية إلي الارتفاع السريع نحو الحدود التكنولوجية لتلك الصناعة. ولقد وقعنا في خطأ كبير عند تقييمنا لأداء الصناعات التحويلية في النظر إلي الناتج أو الإنتاجية فقط من دون دراسة خلق فرص العمل. في منتصف ستينيات القرن العشرين في بريطانيا العظمي, كان نيكولاس كالدور, الخبير الاقتصادي العالمي من كمبريدج والمستشار ذو النفوذ لدي حزب العمال, قد حذر من' التراجع عن التصنيع'. وكانت حجته تتلخص في أن التحول الجاري في القيمة المضافة من الصناعة إلي الخدمات أمر بالغ الضرر, لأن الصناعة كانت تقوم علي التقدم التكنولوجي في حين لم تكن هذه حال الخدمات. وبسبب الأزمة المالية, تقبل العديد من الساسة هذه الحجة, في ارتداد ظاهري إلي وجهة نظر آدم سميث في التأكيد علي أن الخدمات المالية غير منتجة- بل هدامة- ولابد من تقليمها من خلال التدخل الحكومي. ثم استنتجوا من هذا ضرورة التوسع في الصناعات. إن القضية الأكثر أهمية التي ينبغي أن نركز عليها تتلخص في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. ويقع العبء الأكبر في حل هذه القضية علي القطاع الخاص وعلي البنوك. والقائمون علي العمل المصرفي مطالبون باستغلال الدروس المستفادة من الأزمات السابقة.
عبد الرحمن عوض مدير المعهد الملكي البريطاني للوجستيات والنقل: إن رأسمالية الثمانينيات قد انتصرت علي الشيوعية ولكن رأسمالية التسعينيات قد انتصرت علي الديمقراطية واقتصاد السوق. وأن محاولة فرض النموذج الأنجلو أمريكي للسوق الحرة علي الاقتصاد العالمي سوف يؤدي إلي كارثة بنفس حجم الكارثة التي حاقت بالدول الشيوعية. ويري أن إصلاح السوق يتطلب وضع فلسفة جديدة متوازنة بحيث يقوم الاقتصاد بخدمة مصالح الجماهير وليس العكس. لكن هناك دروس هامة يجب أن نستخلصها ونحن بصدد تنفيذ مشروعات كبري فالكونجرس الأمريكي يصر بوجوب علي إبعاد السياسة عن المشروعات الاقتصادية ولا يجب البت فيها سياسيا أو عن طريق الهيئات السياسية مثلا وادي تنيسي فنجاح المشروعات في أمريكا نتيجة إبعاد إدارة المشروع عن الحزبية, ولا يجب خلط الصناعة بالحزبية كما أن سلطة تعيين جميع موظفي إدارة مشروع ما تأتي بعيدا عن الاعتبارات السياسية لذلك هناك تشريع ينص علي' لا يجوز التعيين تبعا لأي اختبار أو مؤهلات سياسية أو إعطائها أي اعتبار بل يجب عمل ومنح جميع هذه التعيينات والترقيات علي أساس الكفاءة والجدارة. وأي اختراق لهذا النص سوف يعرض عضو مجلس الإدارة للعزل بواسطة رئيس الجمهورية أو أي موظف للفصل بواسطة مجلس إدارة المشروع. فالموظف الذي يدين بتعيينه إلي حزبيته لا يمكن أن يقصر وفاءه علي مصالح المهمة وأغراضها العامة فقط, وبذلك يتلقح المشروع بأكمله بالآراء النصف فنية والنصف سياسية وينهار الأساس الذي تقف عليه إدارة المشروع وتتضاءل ثقة الجمهور في نزاهتها. فما دخلت الحزبية يوما علي مشروع مبني علي الكفاءات الخبيرة إلا وتخلخل بناؤه وأصبح غير مأمون. وسوف يتيح ذلك بالتأكيد جميع أخطار الحزبية, فالإداريون والفنيون مهما اعتقدوا في سمو وحكمة أغراضهم لا يمكن أن يصل ورعهم وتعنتهم درجة الجمود بسياسات أحزابهم. ومن ثم سوف يصطفون ويتساهلون مع لونهم الخاص والاهتمام بالأنصار علي حساب الجمهور سواء أكان بدافع من الصداقة الشخصية أو الروابط العملية أو الاجتماعية, أو نتيجة لتزكية بعض هواة السياسة لكفاءات غير مكتملة اغتروا بها. وإذا كان الكونجرس نفسه هو الذي قرر الامتناع عن تدخله السياسي في الإدارة الفنية لإدارة وادي تنيسي مثلا, فقد كان الإدارة بعيدة عن الأمور السياسية. لذلك استن إدارة وادي تنيسي سياسة تحرم علي أي شخص له علاقة بها أن يكون له نشاط سياسي حتي في الشئون البلدية. فلا يحق لأي موظف في إدارة وادي تنيسي أن يرشح نفسه لعضوية أي مجلس بلدي أو أن يكون له نشاط انتخاب من أي نوع إلا إعطاء صوته بالطبع. فما الذي كان يؤدي إليه إذا تدخل السياسة في اختيار موظفي إدارة وادي تنيسي أو في الإدارة التفصيلية للأموال التي تنفذ بها المهمة؟. إن هذا يعني أن آلاف الأميال من خطوط الشبكة الكهربائية وخطوط السكك الحديدية التي شيدتها إدارة وادي تنيسي كانت ستبني في أماكن لا تحددها عوامل اقتصادية أو هندسية, ولكن علي أسس سياسية. فالمدينة التي تعطي أصواتها بالشكل الصحيح لأي حزب معين أو مرشح معين والصناعة التي ستنحاز إلي سياسة معينة كانت ستكافأ عن طريق توطيد خطوط الشبكة الكهربائية بجانبها, رغم أن هذا التوطن لا تبرره الحقائق الاقتصادية أما المدن أو الصناعات التي لا تصوت بالشكل الصحيح فقد نجد محطاتها الكهربائية الفرعية وقد أهملت, وخدمتها قد ساءت وتوقف نموها الصناعي. نحن في حاجة إلي التوصل إلي استراتيجية واضحة ومحددة للتنمية في مصر ولكي نصل إلي هذه الاستراتيجية لابد من وضع مجموعة من السيناريوهات أو البدائل لصورة مصر بعد عقد من الزمان ويشترك في وضع هذه السيناريوهات مجموعة من المفكرين بمختلف تخصصاتهم ومذاهبهم. وليس المطلوب هو الاتفاق علي سيناريو واحد وإنما المطلوب مجموعة من السيناريوهات قد تتباين فيما بينها. وعند الانتهاء من إعداد هذه السيناريوهات, ولا نتوقع أن يستغرق هذا الإعداد أكثر من شهر, يبدأ الحوار بين مجموعة المفكرين والقيادة السياسية لاستبعاد أكثر هذه السيناريوهات تطرفا وبعدا عن إمكانية التحقيق.هل نستغل الفرصة في بذل جهد علمي وعملي لإعداد خطة اقتصادية للخمس سنوات القادمة. ويؤكد عبد الرحمن عوض علي أن حملات الشوارع الأمريكية المتعددة, ومنها حملة' احتلوا وول ستريت' كشفت المستور في الولايات المتحدة الأمريكية. وفضحت التناقضات الكامنة وحقائق الواقع الذي يتحكم في طبيعة النظام الأمريكي وسياساته الداخلية والخارجية علي السواء, وعرت الوجه الآخر لأمريكا. وتتلخص مطالب المتظاهرين التي نشرت بتقليص أدوار الشركات المتعددة الجنسيات والمصارف الاستثمارية الكبري التي اتهموها بالسطو علي ممتلكات الأمريكيين بمساعدة الإدارة الأمريكية التي فضلت مساعدة الشركات المأزومة منها علي حساب الاهتمام بمعدلات العمالة والدخل والخدمات الأساسية. كما هاجمت الحركة سياسات الولايات المتحدة الخارجية, وتحديدا في العراق وأفغانستان. لكن أهم درسين هو في إدراكنا أن الديمقراطية إذا أفرغت من محتواها المتصل بالقيم وتضاءلت إلي مجرد منافسة بين الأحزاب السياسية التي تملك حلولا' مضمونة' لكل المشاكل, فإنها بهذا تتحول إلي كيان لا علاقة له بالديمقراطية علي الإطلاق. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نؤكد بشدة علي البعد الأخلاقي للسياسة ودور المجتمع المدني النشط, كثقلين يوازيان ثقل الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة.
ويري د. خضر أبو قورة- أستاذ علم الاجتماع بمعهد التخطيط القومي: أنه في عالم ما بعد العولمة أن البقاء للأقوي, إن الأطراف التي استفادت من دفعة العولمة الكبري التي شهدها العالم في فترة التسعينيات هي الدويلات الصغيرة مثل نيوزيلندا, وتشيلي, ودبي,, وأيرلندا, وجمهوريات البلطيق. وكانت النمور الآسيوية التي فرضت نفسها علي مركز مسرح الاقتصاد العالمي عبارة عن وحدات صغيرة, وفي بعض الأحوال مثلما كان الأمر مع سنغافورة, أو تايوان, أو هونغ كونج لم تكن هذه الكيانات الصغيرة تعامل وكأنها دول. إن مثل هذه الدول عرضة للخطر الآن, والماضي حافل بالكيانات الصغيرة الناجحة في عالم العولمة, والتي خسرت في النهاية بسبب سياسات القوة: مثل المدن الإيطالية العظمي في عصر النهضة, والجمهورية الهولندية, أو لبنان والكويت في القرن العشرين. كانت الدول الصغري كثيرا ما تتحول إلي ضحية للدول المجاورة الأضخم حجما والأكثر فقرا, والتي كانت متلهفة بدافع الحسد إلي سلب هذه الدول أصولها التي اكتسبتها.
في عالم العولمة المحض, تنجح الدول الصغري في تقديم أفضل أداء, وذلك بفضل مرونتها وقدرتها علي التكيف بسهولة أكبر مع الأسواق سريعة التغير. والدول الصغري أفضل قدرة علي تعديل السياسات العامة, وتحرير أسواق العمالة, وتأسيس إطار راسخ للمنافسة, وتيسير عمليات الاستيلاء والاندماج عبر الحدود. في عالم اليوم, يبدو أن الفوز أصبح من نصيب الدول الكبري التي تتميز بالتعداد السكاني الضخم والنمو السريع: مثل البرازيل, وروسيا, والهند, والصين,. وهذه الدول العملاقة النشطة تبث الرعب في نفوس سكان دول العالم الصناعي بسبب قدرتها الهائلة علي المنافسة المنخفضة التكاليف, وتقديم المنتجات الرخيصة, وترحيل الخدمات إلي الخارج.
ويرجع د. شريف قاسم- أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات- قوة البرازيل في الوقت الحالي إلي تقليص نفقاتها. إن الأوقات الحالية تعتبر من أفضل الأوقات في البرازيل فهذا البلد قد أصبح قائد أمريكا اللاتينية بلا منازع ولاعبا مهما علي الساحة الدولية. لقد كان الاقتصاد البرازيلي من أوائل الاقتصادات التي استعادت عافيتها بشكل قوي بعد الأزمة المالية الأخيرة وقد حافظ منذ ذلك الحين علي نموه المثير للإعجاب. لقد تم تخفيض الفقر بشكل كبير كما ان عدم المساواة في الدخل في انخفاض, بينما يزداد عدد أفراد الطبقة المتوسطة وبفضل اكتشاف كميات ضخمة من الاحتياطات النفطية في البحر لم تصبح البرازيل مكتفيه ذاتيا في مجال الطاقة فحسب بل إنها مهيأة أيضا لأن تصبح من الدول الرئيسة المصدرة للنفط. ففي تصريح أخير لوزير المالية البرازيلي جويدو مانتيجا يقول:' إن البرازيل سوف تصبح أشد تحصينا ضد الاضطرابات والتقلبات العالمية بفضل جهودها الرامية إلي تقليص إنفاقها علي النحو الذي يقلل من اعتمادها علي تدفقات رأس المال من الخارج. وقد تتفاقم الأمور سوءا هناك إذا ما انهارت أسعار السلع الخام وهو ما يشكل واحدا من أخطر التهديدات التي قد تواجه البرازيل نتيجة لتباطؤ الاقتصاد العالمي. كما قد يؤدي تباطؤ سرعة النمو في الهند والصين إلي المزيد من الانخفاض في أسعار المواد الخام, وبالتالي إضعاف الأسواق التي كانت قوتها بمثابة الأساس الذي اعتمدت عليه البرازيل في أدائها التجاري القوي أثناء الأعوام الأخيرة. لكن من المؤكد أن حجم الاحتياطيات النفطية الجديدة يضيف المزيد من الثقل إلي نفوذ البرازيل المتزايد علي الصعيد العالمي. ولقد نفذت حكومة البرازيل التدابير التي بدأت تعود عليها الآن بفوائد واضحة. وكان التغيير الرئيسي عبارة عن خفض كبير لأسعار الفائدة, ضمن إطار استهداف التضخم, وهو ما أدي إلي سياسة أكثر قدرة علي المنافسة في التعامل مع أسعار الصرف. ولقد اقترن هذا بسياسة مالية حريصة علي مكافحة التقلبات الدورية المالية, والتي نجحت في الإبقاء علي العجز والدين العام تحت السيطرة.والأمر الأكثر أهمية هو أن سياسات الحكومة سوف تخلف تأثيرا دائما وثوريا في واقع الأمر علي اقتصاد البرازيل. وسوف يصبح هذا أكثر وضوحا علي مدي عام2013, ويشير د. شريف قاسم أنه للمرة الأولي منذ عقود, تتمكن البرازيل من استغلال الظروف الاقتصادية المواتية في تقليص ديونها الخارجية, وبالتالي تخفيض عامل المجازفة بالنسبة للجهات المقرضة. ذهبت الحكومة البرازيلية إلي ما هو أبعد من هذا. فقد مضينا قدما في جهودنا الرامية إلي الحد من الأعباء الضريبية من خلال خفض العديد من المعدلات, وخاصة الضرائب المفروضة علي الرواتب, فنجحنا بالتالي في خفض تكاليف توظيف العمالة من دون إلحاق الضرر بالقدرة الشرائية للعاملين وهذا من بين الأسباب التي جعلت البرازيل الآن أحد الاقتصادات الكبري القليلة علي مستوي العالم التي لا تعاني من مستويات بطالة مرتفعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.