عندما سألنا منتجى الدراما لماذا تدفعون كل هذه المبالغ الطائلة لنجوم بعينها لقاء بطولتهم لمسلسلات رمضان؛ قالوا إنها رغبة أصحاب الفضائيات التى تعرض هذه الدراما، وعندما سألنا المسئولين عن هذه القنوات ردوا بأن هذه هى شروط شركات الاعلانات التى تورد الاعلانات للمحطات خلال رمضان، وعندما سألنا مديرى شركات الاعلان قالوا ان هذه هى رغبة الشركات المعلنة وإلا أحجموا عن عرض اعلاناتهم خلال فترات بث هذه المسلسلات على مدار أيام الشهر الفضيل، وعندما سألنا المسئولين عن ميزانيات التسويق ببعض الشركات الشهيرة قالو ان استطلاعات الرأى ورصد نقاط البث “نسب المشاهدة” تؤكد اهمية وجود هؤلاء الفنانين فى العمل الدرامى لضمان اعلى نسبة مشاهدة وبالتالى اعلى نسبة لتعرض ملايين المشاهدين للاعلانات خلال رمضان الذى يعد الاعلى طوال العام فى مصر والدول الخليجية، وهى الاسواق المستهدفة لهذه الشركات، فالقضية اصبحت تجارية من أولها إلى آخرها فيما تراجعت إلى حد مخل بقية الاعتبارات الفنية والاخلاقية التى هى عادة الشغل الشاغل للمخرجين والمنتجين منذ نشأة الدراما التليفزيونية فى ستينيات القرن الماضى وحتى سنوات خلت. وحتى لانغرد كثيرا خارج السرب نشير إلى تعاظم دور التمويل فى أعداد الدراما على نحو غير مسبوق حيث قفزت تكلفة المسلسل من عشرات الآلاف من الجنيهات فى نهاية الثمانينيات لتصل الآن إلى 25 مليون جنيه فى المتوسط كما فى المسلسلات التى تشاهدها الآن فى رمضان 2016. شركات الدراما التليفزيونية استعدت لرمضان الحالى بإنتاج 36 مسلسلا تبلغ جملة تكلفتها نحو 2.5 مليار جنيه -وفقا لأحد كبار المنتجين- وهذا رقم ضخم يتكفل بتوفير فرص عمل لآلاف الفنانين والفنيين.. وهذا هو الجانب الايجابى، وبالاضافة إلى ذلك فإن هذا الانتاج الضخم يضمن استمرار الدراما المصرية فى السوق الذى يشهد منذ سنوات منافسة شديدة ليس فقط مع شركات الاشقاء فى الدول العربية، بل كذلك المسلسلات «الرخيصة» التى تأتى من تركيا وإيران والهند ودول أخرى، وأصبحت لها مشاهد يبحث عنها بفضل الموزعين العرب من الشوام ودول الخليج. ولهذه الأسباب وأسباب أخرى انتقلت «المبادرة» فى طرح موضوعات المسلسلات من المخرجين والمؤلفين كما كان يحدث فى السابق لتصبح الآن فى يد القنوات الفضائية «الخاصة» ومن ورائها من شركات الاعلان والتسويق. هذه الشركات لم تعد تتدخل فقط فى تحديد نجم العمل بل امتدت كذلك لاختيار الموضوعات بشكل غير مباشر، وهذا يفسر طغيان المسلسلات البوليسية التى تعتمد على مشاهد القتل والعنف فى ما رأيناه من أعمال فى رمضان الحالى والذى سبقه، كما أصبحت مشاهد العرى وعبارات الجنس المكشوف ولغة الحوارى سمة شائعة فى مسلسلات رمضان بغض النظر عن مدى مناسبتها لآداب الشهر الكريم، وإلا حرم المسلسل من العرض خلال الشهر.. وبالتالى إلحاق خسائر مادية فوق الطاقة للمنتجين. رأيى دائما ان الاقتصاد يمكن ان يفسر كثيرا من الظواهر التى تحيط بنا ونتعرض لها، فلكل شىء جانبه الاقتصادى حتى ظواهر التدهورالثقافى وحتى الترفيه والدراما والاغانى، وقريبا سوف تصل إلى الشعر والرواية، فطغيان التمويل والاعتبارات المالية اصبح فى طريقه لتشكيل وعى مختلف لدى الناس فى مصر والامة العربية خاصة بين الشباب. وللتذكرة فقد كانت هناك اعمال كثيرة وشهيرة ما زالت فى ذاكرة الناس منذ نشأة التليفزيون وحتى سنوات قليلة خلت وقد شكلت وجدان المصريين والعرب بما تحتويه من قيم ظاهرة وخفية وقد كان عصيا على التنفيذ ان نجد ممثلين من نوع محمود مرسى ونور الشريف وسميحة ايوب فضلا عن فاتن حمامة، وغيرهم يتورطون فى اعمال هابطة فنيا او اخلاقيا، وكلنا يتذكر «ضمير ابلة حكمت» بما تحويه من قيم ونبل وكذلك «الراية البيضا» و»الشهد والدموع» كنماذج لعشرات ومئات المسلسلات الدرامية التى استمتعنا بها وساهمت فى تشكيل وعى الناس بطريقة صحية.. فى هذا الزمن كان للمخرج سطوته على العمل وكذلك كان للمؤلف هيمنته على ابداعه، فلم يكن ممكنا ان يستجيب اسامة انور عكاشة او محفوظ عبد الرحمن او جلال عبد القوى وغيرهم لطلبات «الانتاج» بحشر مشاهد عنف او ابتذال من أى نوع، كما لم يكن ممكنا ان توافق الرقابة، رغم عيوبها، على كثير من المشاهد التى نراها الآن، حتى كبار الممثلين الذين نتابع أعمالهم الآن قد استجابوا -يا للأسف!- لضغوط « الانتاج» كما هو واضح من تطور اعمالهم من الثمانينيات وحتى الآن، فشتان بين عادل امام فى احلام الفتى الطائر ودموع فى عيون وقحة وبين صاحب السعادة و مأمون وشركاه، وكذلك محمود عبد العزيز فى رأفت الهجان الذى وصل اليه فى جبل الحلال وحاليا « راس الغول» وشتان بين يحيى الفخرانى فى ليالى الحلمية ونصف ربيع الآخر وهو نفسه فى «الخواجة عبد القادر» و «ونوس» وللانصاف فهذه آراء منتج تمنعه مصالحه من ذكر اسمه. وللانصاف ايضا فإن الممثل الجيد هو نفسه الذى يعمل الآن وكثير من العناصر الفنية ما زالت قوية وصحية وموهوبة فى التأليف والاخراج، غير ان سطوة التمويل وشروطه هى التى تغيرت إلى حد فاضح فأصبحنا نرى ما نراه. سطوة التمويل لها ايضا تشوهاتها الاقتصادية، فقد اصبحنا نرى هياكل مشوهة للانتاج بحيث يحصل النجم الكبير وحده على نسبة لم تعد تقل عن 30 ٪ من تكلفة الانتاج، وفى بعض الاحيان 40 ٪ كما فى حالة مسلسل عادل امام الحالى، وهذه تشوهات لم تكن موجودة فى زمن الفن الجميل، ولا شك ان هذه التشوهات المالية سوف تنعكس سلبا على الصناعة نفسها كما انعكست منذ سنوات على مستوى الاعمال «التجارية» التى اصبحت سمة الدراما.. لا سيما فى رمضان. لا أحد يريد البوح بأسرار الصناعة فيما يتعلق بالارباح التى يتوقعها او يحصلها بالفعل اصحاب شركات الانتاج «المحظوظة» بعرض اعمالها فى رمضان، لكننا علمنا ان حجم عقود الاعلانات التى حصلت عليها المحطات الفضائية خلال الشهر الفضيل تجاوزت 6 مليارات جنيه النسبة العظمى منها مخصصة للاعلانات التى تتخلل عرض المسلسلات، ولاشك ان الفارق بين تكلفة الانتاج وحصيلة الاعلانات يتوزع بين اطراف اللعبة الثلاث، منتجو الدراما والمحطات وشركات الاعلانات وهى كلها عمليات تجارية كثير منها بعيد عن حصيلة الضرائب اما بالاخفاء، واما بالانكار ما يضع الدراما التليفزيونية فى دائرة الاقتصاد غير الرسمى «الاسود» تماما كمصانع «بير السلم» وغالبية الحرفيين، وهذا شكل آخر من أشكال التشويه الاقتصادى الذى يتعين الالتفات إليه وتصويبه. لو تنبهنا للجوانب الاقتصادية لمحنة الدراما التليفزيونية لأمكننا إلقاء الضوء على ما تعانيه هذه الصناعة وما يعانيه الناس معها. الخبراء والنقاد لديهم كلام كثير يمكن ان يقال فيما يتعلق بتدهور المحتوى وأثره فى العقول ووجدان الشباب، فى غياب دور للدولة يبدأ بالانتاج ولاينتهى بالرقابة، وفى غياب قوانين متطورة ترصد نقاط الضعف التى ظهرت فى الصناعة وتضخمت خلال السنوات الاخيرة على مرأى ومسمع من الجميع دون ان يجتهد احد فى رصدها قانونيا واقتصاديا، وقبل كل شىء قيميا واخلاقيا وهذا هو الخطر الحقيقى على حياة الناس و يمتد تأثيره فى السلوكيات فى الشارع وربما ايضا يمتد للاحساس بقيم المواطنة والانتماء. نحن لسنا وحدنا فى هذا العالم ولا بد ان السينما الامريكية العريقة واجهت هذا التحدى التمويلى وكذلك الدراما الهندية الاشهر التى بدأت بعدنا وكذلك صناعة الدراما فى تركيا والدول الحديثة التى لا نجد فيها فيما نراه كل هذا العبث بالقيم والاخلاق بدعوى إرضاء «المشترين» من قنوات التليفزيون ومن ورائهم من شركات تجارية ووكلاء المعلنين.. لابد أن تكون هناك أشياء يمكن عملها لوقف هذا التدهور المنظم الذى تشهده الدراما التلفزيونية .. لابد أن تكون هناك حلول أخرى لوقف هيمنة شركات الشيبسى والكازوزة ومطاعم الوجبات السريعة على عقول المصريين وقيمهم من خلال التحكم فى خط سير الإنتاج وصناعة الدراما فى رمضان .. كل عام وأنتم بخير.