وسام سعيد هل يحتاج المطرب في صناعة اسمه وبحثه عن المجد إلى ثقافته وفكره بخلاف صوته؟!.. سؤال قد لا تجد إجابته عند أكثر من ثلثي مطربي مصر على مدى تاريخها .. فقليل أولئك الذين تسمعهم بكل جوارحك .. وأقل منهم من يطربوك من مجرد همهمات ما قبل الغناء. وإذا اتفقنا على هذه القاعدة في كل تراثنا السمعى والغنائى سنجد أننا أمام حفنة من الأسماء لن يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة … أحدهم على الأقل على الحجار .. وبعيدا عن كل ما قيل أو كتب أو عرف عن هذا «الإنسان» فهو حالة لا تنتهى من مجرد انتسابها لجيل بعينه أو تأطيرها في إطار عصري أو زمني ومن ثم نقدها كمرحلة غنائية خاصة .. لكنه يشكل وحده فلسفة غنائية تتجاوز فكرة الزمن وتتخطى كل أبعاد نماذج النقد العادية، التى قد يجعلها النقاد نصب أعينهم حين يضعون مطربا أو آخر في ميزان التاريخ. على الحجار الذي دخل عقده الستين منذ عامين لا زال يرسم على مسارح مصر المحروسة خطوط المعادلة الصعبة حين يقف شامخا يتلاعب ويتحكم في صوت يحرك الجبال الساكنة ، يعلو به ويهبط حسبما تقتضى «السلطنة» وكيفما ينص قانون «العُرَب» و«ميكانيزم» القرار والجواب. صوت يحرضك على التفكير ولو حاولنا البحث عن إجابة للسؤال الذي بدأت به هذه السطور سنجد أن «الحجار» لم يضعه قدره مصادفة أمام بليغ حمدي و عبد الرحيم منصور ثم صلاح جاهين وسيد مكاوي ، فيولد عملاقا حين يغنى بالتعاون مع هؤلاد الأفذاذ ، بل كان اختيار يليق بما حواه ووعاه من ثقافة وعمق وقراءة لطبيعة مجتمعه ، فرأس «على الحجار» تختلف عن رأس كافة مطربي المبيعات والجوائز والملايين ، تلك رأس تتوحد مع النصوص ، وتتمايل مع الألحان ، وتمتلك قدرة عجيبة على الفرز بين الغث والثمين. هذا الرجل يوما ما كان صبيا يتكسب من رسم «بورتريهات» لوجوه مَنْ حوله بقلم الفحم ، ولم تنل منه الحياة مهما قست فتقوده نحو الاستسهال أو الرخص أو الابتذال ، فالفنان حين ينطلق من قاعدة مبناها الثقافة وأساسها الوعى بأزمات وطنه بالتأكيد سوف تتجسد النتيجة فى مطرب كعلي الحجار. لذلك كان صوته ولا يزال محركا لفرقته يقودها خلفه ، يعلو عليها ولا تعلو عليه ، فتستطيع وأنت جالس أمامه وفي حضرته أن تحدد ماذا سيغني من مجرد همهماته أو طلعته الأولى !! صوت الحجار يجبرك على التفكير …فحين يشدو قائلا : أنا كنت عيدك .. تنقص نجوم السما أزيدك الفجر يغرق آخد بأيدك واجمع سواد الألم في عيني وأصب نبض الهوا في وريدك فعلى الفور تستلهم رائحة الغدر في الحب ، وتنتابك قشعريرة المكلوم ، ورجفة المحب الجريح. وحين يرقص بصوته قائلاً : من غير ما تتكلمي .. مدي العيون سلمي فوق الحيطان ارسمى الحلم متفسر وبكره جى أخضر و انتى بتتبسمى يلفح وجهك نسيم الأمل ، وتشتم رائحة المستقبل ، وتحتلك طمأنينة الأحلام الخضراء. مخلوق ليبتسم ولأن الفنان دائما هو صناعة نفسه ومن حوله كذلك ، فهو بالتأكيد جملة أشياء أخرى بخلاف الصوت فحسب ، فهو شكل وهيئة وحضور على أمام الجمهور ، وفي هذه المنطقة تجاوز «الحجار» جميع مطربى جيله في قوة الحضور ، وامتلاء المسرح بكاريزما المطرب . وحاول أن تتحدى نفسك وأنت أمامه أن تنظر لهاتفك الجوال أو في ساعتك أو لا تتأفف من تلك الدقيقة التي تفصل بين الأغنية والأخرى ، فهى تمر طويلة حتى يعاود حملك على جناح المتعة من جديد إلي أن تحين أسوأ لحظاتك معه حينما يشكر الحضور مستعدا للرحيل. وجه «على الحجار» المبتسم دائما .. هو بلاشك أحد «باسبورات» مروره للقلوب فورا ، واختراقه حواجز الرضا والقبول دون عناء ، وإذا طلبت من أحد رسامي الكاريكاتير أن يرسم على الحجار سيرسمه ضاحكا … هكذا نحت هذا الفنان صورته في العقول . العلاج النفسي : لا أبالغ لو قلت - ولعلى مجنونا بفن هذا ال «بني آدم» أن أغنيات على الحجار كانت يوما ما دواء لي من أزمات كثيرة … وأخرجتنى من مسارات ضيقة موحشة كان صوته الدافىء فيها نورا ينبعث : أن قم من جديد …وابدأ …خاصة لو حدث «الماس» الكهربائى وشرارة الإبداع التي تنطلق من تلاقي صوته مع ألحان الموسيقار العالمي عمر خيرت … فبينهما كيمياء خاصة ولغة فريدة كونت مكتبة من الأعمال الخالدة التى تحتل الذهن والعقل . وحينما أذهب إلى حفلته الشهرية في «ساقية الصاوي» أكتشف من انفعالات وآهات وتهليلات من حولى أني لست وحدي في عيادة هذا الحكيم المعالج بالغناء ، وأن جميعهم من غرقى الحياة ، وممن أصابهم الزمن بسهامه فنال منهم ونالوا منه ، ويأتون قدر استطاعتهم أمام هذا الصوت المهيب لشحن بطارية الأمل من جديد في مواجهة ليل ونهار يتعاقبا على فكرة «الألم». وتستطيع ببساطة أن تجد أغنيات مثل :«ياطالع الشجرة» و«لما الشتا يدق البيبان» و «مطر» و«في قلب الليل» و «عصفور» و «عارفة» و «مسألة مبدأ» و «رباعيات جاهين» هى بمثابة أقراص مسكنة يتناولها محبوه وقت الأزمات. منطقة فريدة وفي منطقة العشق الإلهي والتصوف ل «علي الحجار» باع كبير … حيث شكل وجدان أجيال متعاقبة وخلق بداخلهم حالة عشق وارتباط بآل بيت رسول الله ومقاماتهم ، فكانت «الحضرة زينبي» و «صلينا الفجر فين» ، وأغنيات عديدية يضمنها كتابها مضامين صوفية تليق بصوته الخاشع ، وقراراته العميقة التي يتميز بها ، فهو يغني بالقرار حتى تتمنى ألا يغادره ، ثم ينتقل للجواب حتى تتمنى أن يصبح جسمك أذناً تستوعب قوته. فالمجد لأولئك الذين يقفون علي تلك الشعرة الدقيقة بين السقوط في دوائر الرخص والإسفاف من جهة وبين الأصالة المنسية والبعيدة عن مقتضى المعاصرة وما يطلبه المستمعون. .. تلك منطقة أجاد «علي الحجار» الثبات والوقوف فيها ، فكان هو من غنى «على قد ما حبينا» عام 1977 وهو أيضا من يقف اليوم بقمة عنفوانه ليغني «الزين والزينة» في 2016.