"هناك من يستحضر الأوراح، أنا أستحضر الأجسادَ، لا أعرف روحي ولا أرواح الآخرين أعرف جسدي وأجسادهم، )لا روح لي) انحفرت الجملة في رأسي، وصارت حياتي تمر من خلالها، كنت أعرف أني جسدي فقط" هكذا تستحضر الروائية السورية سلوى النعيمي الجسد كبطل رئيس في روايتها الشهيرة "برهان العسل"، وبرغم مرور ما يقرب من أربع سنوات على صدورها إلا أنها لم تزل ممنوعة من دخول البلدان العربية عدا دول المغرب، ولم يزل ينظر إلى صاحبتها على أنها تلك السيدة التي تجرأت على المقارنة بين كيفية تناول العرب للجنس قديما وعلى وصف اللغة العربية بأنها الأنسب في التعبير عن الجنس.. وأمام المنع والرفض والاتهامات الجاهزة وقفت النعيمي تؤكد وجهة نظرها مستعينة بمقاطع من كتب التراث العربي في هذا الشأن، مؤكدة أن الأمر ليس بحاجة إلى تأكيد، مستعينة بجملة ابن عربي الشهيرة "برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه". وفي زيارتها الأخيرة للقاهرة فكان هذا الحوار... في "برهان العسل" هل تم تصنيفك من قبل النقاد، وبعض المثقفين بصورة قاسية على أنك كاتبة في مجال الجنس؟ طبعا صنف بعضهم برهان العسل على أنه كتاب إباحي، تجاوز الخطوط الحمراء، وأنه اعترافات لامرأة متهتكة، ولكن هذا لا يعنيني إطلاقا، فأنا أكتب وعيي، وموقفي في الحياة، أحاول أن أكتب بحرية، دون تفكير، أو رقابة ذاتية، وتصنيفات الآخرين لا تعنيني. و"برهان العسل" ليس كتابي الأول، فقد كتبت قبله خمس مجموعات شعرية، ومجموعة قصصية، ومجموعة مقابلات، وأعمل في مجال الصحافة الثقافية منذ أكثر من 25 سنة، لذا فتاريخي في الكتابة معروف، ربما قد يخطر لبعضهم أن "برهان العسل" هبط علي من دون مقدمات، ولكن العاملين في الحقل الأدبي، والثقافي يعرفونني جيدا، ويعرفون عملي.. هل يمكن القول إن برهان العسل كان بمثابة صفعة أفاقت الجمهور والنقاد لينتبهوا إلى سلوى النعيمي، كي ينظروا إلى ما قبل "برهان العسل" وما بعده؟ لا أعرف، ولكن الكتاب كان صفعة لكي يستيقظوا وينتبهوا إلى التراث العربي الإسلامي في مجال الجنس، وهذا ما أردته من كتابة "برهان العسل"، تسليط الضوء على تراثنا العربي الإسلامي، وعلى الحرية التي يتمتع بها هذا التراث، وعلى لغتنا العربية، وحيويتها واتساعها لأن تقول وتعبر عن كل شيء. أقول في كتابي، عندما نريد أن نتكلم عن الجنس، نستخدم كلمات أجنبية، وكأن الكلام بلغتنا عيب، والكلام باللغة الأجنبية يصبح أقل بذاءة، أريد أن أعيد للكلمات التي تعبر عن الجنس والجسد في اللغة العربية، جمالها وبراءتها الأولى. وهل هي في حاجة إلى إعادة الاعتبار؟ بالطبع، يمكنك أن تشعري بهذا لو كنت مثلي دارسة ومتخصصة فى اللغة العربية، تعملين عليها، وعلى كتب التراث وكذلك الأدب الحديث، ثم تجدين الكتاب الفرانكفونيين والأنجلوفونيين في دول عربية وأوروبية يكتبون بالفرنسية، والإنجليزية والإيطالية، وبلغات أخرى، وحجتهم في ذلك يقولونها بكل (بجاحة): نحن لا يمكن أن نكتب باللغة العربية لأنها عاجزة عن التعبير عن الجنس، والحنين، والمشاعر. كنت أسمع هذا، وأحس بنوع من الاعتداء على وجودي، وعلى شخصي، أيضا عندما أسمع أو أقرأ عن الإسلام أنه دين قمع، ودين ظلم، وخصوصا للمرأة، وأنه دين تقشف لا يعرف اللذة، وأنا التي درست هذا كله أعرف أن كلامهم غير صحيح، لذا شعرت أن دوري ككاتبة وصحفية ومثقفة عربية أعيش في الخارج، أن أكتب بهذه اللغة قبل كل شيء، وأن أسلط الضوء على هذا التراث الذي أعتبره تراثا حرا، وكي يعلم الجميع أني أنتمي إلى ثقافة حرة، وأن حريتي لا تنبع من وجودي في الغرب، وإنما تنبع من تراثي العربي الإسلامي. لذلك كتبته باللغة العربية؟ طبعا، وقد وصفه البعض بأنه قنبلة، لم أكتبه كي يكون قنبلة، ولكنه انفجر في وجوههم، وهذا ليس ذنبي، فأنا كنت أكتب موقفا أردت التعبير عنه، من اللغة العربية، والتراث العربي الإسلامي، وأنا حين أتكلم عن الإسلام، أتكلم عنه كثقافة ولا أتكلم عنه كدين، وهذا أساسي أيضا لأن الدين كشرائع ونهي، وتحريم، وسماح، ليس اختصاصي، أنا اختصاصي الثقافة العربية الإسلامية. منتهى أمل الكاتب أن يحظى كتابه بانتشار، وأنت تعيشين في فرنسا وتقولين جسدي هو ثقافتي، ألم تخافي من ألا يقرأك العرب، أو أن تكون جملك استفزازية لمن هم ضد هذا الفكر، ويعيشون هذا السياق، بعيدا عن رؤيتك المنفتحة على اللغة والثقافة؟ بالنسبة لي، الاختلاف بين كاتب وآخر، هو مساحة الرقابة الذاتية التي يمارسها على نفسه، أنا أحاول عندما أكتب ألا أفكر لا في قارئ، ولا في رقابة من أي نوع سواء كانت اجتماعية أم سياسية. ما أكثر أنواع الرقابة إزعاجا لك؟ كلها، لذا لا أحاول أن أفكر بأي منها، وهي بشكل من الأشكال لا تعنيني خلال الكتابة، ولكن بعد أن صدر الكتاب كانت هناك ردود فعل رسمية، من بينها أن منعت السلطات الكتاب في أغلب الدول العربية، ولم يسمح به إلا في دول المغرب وتونس والجزائر، مع ذلك حظي بنسب قراءة عالية عبر شبكة الإنترنت، وفي مرات التحميل والتوصيات التي حظي بها، ومع ذلك أصر أن كتابي لم يقرأ لأنه منع، فكما تعرفين في الدول العربية هناك كثير من الكتب التي تمنع، والمنع لا يصنع قارئا، والكتابة عن الجنس، لا تصنع قارئا، وما يسمونه كتابة الجسد لا تصنع قارئا، الكتاب وصل إلى قارئه لأنه كتاب مكتوب بهذه الطريقة، وبهذه اللغة. لاحظت تفاوتاً كبيراً بين تلقي الشباب للكتاب، وتلقي (الشيوخ) له، فالجيل القديم كأنه جفل، وخاف، وارتعب، كأنه جاء من يكتب ليقول أشياء ربما كان الجميع يفكرون فيها ولا يجرأون على قولها، ولكني لاحظت أن الشباب من البنات والأولاد، هم الذين حملوا هذا الكتاب، وكانت كل ردود الفعل التي تلقيتها من خلال لقاء القراء، ومن خلال النقاشات على الإنترنت منهم، ربما لأنها المرة الأولى التي يقدم فيها لهم كاتب هذه المصالحة بين الجسد والتراث العربي الإسلامي، العرب أنفسهم ولا سيما من الشباب لم يكونوا على اطلاع على هذا لذلك جاء من يقول لهم، أن حريتي الجنسية تأتي من تراثي العربي الإسلامي وهذا هو البرهان عبر الأحاديث النبوية وكتب الشيوخ، والعلماء، والكتاب الذين كتبوا كالسيوطي، والتيفاشي، والتفتزاني، وغيرهم ممن كانوا في قلب السلطة الدينية، وقد أسعدني أن قال لي بعض الشباب إن "برهان العسل" صالحهم على أجسادهم، لذا تحمسوا له. كيف تقرأين تلك الفجوة بين من يفترض أنهم على اطلاع ودراية، ولهم من العمر ما يفترض أن يمكنهم من الحكم بشكل سليم، وبين الشباب في تلقي الكتاب؟ هي بقايا من عقلية تقليدية، ترى أن الكتابة عن الجنس لا تكون إلا من أجل الشهرة، وهذه أفكار أعتبرها سخيفة جدا، فكثيرون كتبوا في الأدب العربي عن الجنس قبلي وبعدي، يبدو كتابي أمامهم حيا، وكذلك الروايات العربية الحديثة، من بعد كتابي، شهدت تحولا إلى مزيد من الجرأة في استخدام اللغة، ودمج ألفاظ لم تكن موجودة إلى هذا الحد، كأن كتابي رفع الغطاء عنها. خصوصية "برهان العسل" تكمن في أنه ليس فيه مشاهد جنسية، ولكن موضوعه الجنس في الثقافة العربية الإسلامية، مع نظرة إلى هذه الثقافة وتعاملها مع الجنس، والعلاقة بين الرجل والمرأة في الثقافة العربية الإسلامية، من خلال قصة حب بين جسدين، مع التأكيد على أنه شكل من الحب فيه سمو، ففي الثقافة العربية الإسلامية ليس هناك فصل بين الروح والجسد، ليس هناك تلك الثنائية التي جاءتنا من الفلسفة اليونانية وأكدتها المسيحية، لا نملك هذه الثنائية، الجسد والروح، وإنما كل شيء سام، وتجد أن الجسد في الإسلام هو منبع الحياة واللذة، لذا هناك الحرص على نظافته، والحفاظ عليه بالرياضة، والعطر، والجنس؛ روحي هي جسدي الحي الذي يعيش ويفكر ويمشي ويعمل ويقرأ ويكتب، وليس هناك شيء اسمه الروح "قل الروح من أمر ربي".