إنها منطقة ملغمة وخطرة - من الأفضل ألا تذهب إليها أو تمر بجانبها أو تشير إليها علناً. هكذا تتكرر النصيحة والتحذير والتنبيه وأيضا الترهيب. وطبعاً «يا ويلك لو جازفت أو خاطرت» أو «خرجت عن الصمت العام».. ورددت في بالك أو علي لسانك سيرة جسد أو قررت أن تتكلم وتقول وتبدع وترسم وتغني وتتفنن بمفاتن امرأة إغراءها وإغواءها - إيه اتجننت؟! «هناك من يستحضر الأرواح، أنا أستحضر الأجساد» تقولها بطلة رواية «برهان العسل» لسلوي النعيمي وتضيف: «لا أعرف روحي ولا أرواح الآخرين، أعرف جسدي وأجسادهم. هذا يكفيني» لكن هل ما قالته هي بصراحة وجرأة يعطي لنا الحق في أن نصدر حكما بوأدها ورجم كل من تحاول أن تكسر قيود الصمت وتتكلم وأن تكشف عن رغبتها حبها وحلمها في الحياة -. و«الحياة جميلة وستستمر مادمت أعيشها وأستمتع بها» يقول أسامة أنورعكاشة ويستكمل «ولن أفكر في موعد انتهائها، فلتنتهي في أي وقت، لكن طالما أنا علي قيدها، فلأستمتع بها كما هي». أستاذ الدراما التليفزيونية الذي تركنا أخيرا له نظرة أيضا للغد. فيقول «لا أدري ماذا سيحدث غداً.. لا أدري سوي أنني في هذه اللحظة أنا هنا، وهو ما جعلني أكثر رغبة في الاستمتاع، وأكثر إقبالاً علي الحياة». ولا شك أنه من حين لآخر نجد أنفسنا في حالة جدال وصدام مع الجسد جسم الإنسان. ومع الصدام عادة نكتشف أنفسنا من جديد أو ننكشف (وربما ننكسف) من «اللي إحنا فيه». فالإنسان غالباً وخاصة في عالمنا بيتخانق باستمرار مع نفسه ومع الآخرين حول جسده رغباته وشهواته وشطحاته وإحباطاته وطبعاً صحته ومرضه أيضا. «فعلاً الجسد ده عامللنا دوشة كبيرة وقلق وإزعاج علي طول، بس ما نقدرش نعيش من غيره» يتدخل تامر مفسراً «بالجسد حواسنا لها معني وحياتنا فيها حركة وحبنا له تعبير مش عايزة كلام!». وبينما كانت تتعالي الأصوات المطالبة بمنع نشر وتداول «ألف ليلة وليلة» بسبب احتواء الكتاب علي كم هائل من «فحش» و«فسق» و«مشاهد جنسية بذيئة» ( حسبما قيل كاتهام وإدانة )، ظهرت علي شاشة اهتمامنا أختنا العربية المسلمة ريما فقيه ملكة جمال أمريكا لعام 2010 بقوامها الممشوق والجذاب وبنضارة وملامح امرأة عربية شابة. ونشرت الصحف أخبار تصوير مسلسل «ذاكرة الجسد» عن ثلاثية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغنامي. وهي الرواية التي وصفها الشاعر نزار قباني ( أشهر من كتب شعرا عن وفي وحول جسد المرأة) بأنها «قصيدة مكتوبة علي كل البحور.. بحر الحب وبحر الجنس وبحر الأيدولوجية وبحر الثورة الجزائرية». والمسلسل الذي سيعرض خلال شهر رمضان المقبل من إخراج المخرج السوري نجدت آنزور. وأيضا نقرأ علي صفحات المجلات الفنية المصرية والعربية (وأكيد نتعجب) تصريحات لممثلات نجمات يقلن «لم أتجاوز حدود الإغراء» أو «أجسد الإغراء بصدق ولا أخجل من نفسي» أو «ملابسي المثيرة لا تستفز زوجي».. وكل هذا يحدث بالطبع وسط زحمة أصوات من يقفون علي أرضية دينية أو أخلاقية (أو هكذا يقولون). أصوات تصرخ وتندد وتنهي وتحذر وتحرم ما تسميه «من تفشي اللهث وراء شهوات الجسد وتبعاته». وقد صدر أخيرا العدد السادس (ربيع 2010) من مجلة «جسد» التي تصف نفسها بأنها «مجلة ثقافية فصلية متخصصة في آداب الجسد وعلومه وفنونه».المجلة تصدرها وترأس تحريرها الشاعرة والكاتبة اللبنانية جمانة حداد. والعدد الأخير يصل عدد صفحاته الي 164 صفحة ويتضمن ملفا (45 صفحة) عن العذرية وإشكالية غشاء البكارة في الثقافة العربية وأيضا رهاناتها وتحدياتها بين حدي الحرية الجنسية وضغوط «سوق الزواج». و«جسد» منذ صدورها في نهاية 2008 بلبنان أثارت بمضمونها الفريد والجريء للغاية الكثير من القيل والقال والجدل حول ما تقدمه المجلة من موضوعات جريئة وصورعارية وتقارير لا تعترف بالتابوهات تغطي ( بل تكشف وتعري) مساحات شاسعة من جغرافية الجسد في العالم ولدي البشر عبرالعصور.ببساطة «جسد» «تقول علنا ما لا يسمح به همسا في مجتمعاتنا..» كما أن «حديث الجيم» ( «جسد» وجومانا) يعد استفزازيا للكثيرين وهي تريد زلزالا (كما تكتب) يحرك المجتمع ويساهم في تغيير الثقافة «ليخلصها من خبثها ومعاييرها المزدوجة ونفاقها وبؤسها». وتقول جومانة أيضا «انطلاقا من احترامي للقارئ قررتُ منذ البدء أن تباع المجلة مغلفة بأكياس بلاستيكية وعلامة تشير إلي أنها للراشدين فقط. «جسد» لا تفرض نفسها علي أحد، يشتريها من يقرر ذلك ويتجاهلها من يريد». وسعر النسخة 15 ألف ليرة لبنانية ( أي نحو 10 دولارات(. ولا أحد يعرف رقم توزيع المجلة ومن هو قارئها العربي أو المشترك فيها؟ وطبعا تتزايد التساؤلات وأكيد الشكاوي حول السماح بصدورها دون أن تتدخل الرقابة أو كيف تدعها تفلت من قبضتها؟ «إنها بلا شك تجربة جريئة جديرة بالاحترام مهما كان رأينا أو موقفنا أونظرتنا لما ينشرعلي صفحات المجلة» يقولها سامر موجها كلامه لي «غالبا نحن نجهل ما يخص جسدنا وإن أردت أن تعرف أكثر تجد الناس من حولك يسألونك هو إنت عايز تعرف ليه؟ أو إنت تقصد إيه؟». وجمانة حداد شاعرة وكاتبة صحفية من مواليد 1970 لها العديد من الدواوين الشعرية وتتقن سبع لغات ومن كتبها «انطولوجيا الشعر اللبناني الحديث» ثم «انطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين». وتشرف علي الصفحة الثقافية لصحيفة «النهار» اللبنانية. وكانت جمانة حريصة منذ البداية علي أن تذكر: «جسد» للراشدين فقط، وخصوصا للراشدين عقلا. وهؤلاء كثر. ويعرفون أنفسهم «وأن المجلة» موجودة لتقرأ وليس لتقليب صفحاتها بحثا عن الإثارة البصرية «كما أنها تؤكد بأنها سعيدة؛ لأنها «ورطت» في هذه المغامرة حشدا من الكتاب والفنانين العرب. وهي ترفض نشر مقالات تحت أسماء مستعارة وتبرر ذلك بمسئولية الكتابة وبأنه «كفانا في العالم العربي اختباء وراء أصابعنا.» وبعد الاطلاع علي بعض الأعداد من «جسد» لاحظت أن هناك جهداً تحريرياً جاداً وملموساً - بل وصادماً في معالجة جميع القضايا والأمور التي تخص الجسد. كما أن المجلة وهذا يحسب لها لم تعتمد علي المادة الأجنبية وترجمتها فقط، بل حرصت علي تقديم مادة عربية جديدة ومواكبة للعصر بجانب ما هو يعد تراثاً عربياً. وتتعامل المجلة مع الجسم البشري من خلال جميع الثقافات والحضارات القديمة والحديثة علي السواء، وتنشر صفحات من فنون وآداب العرب والعالم وكيف أنها تعاملت أو تفاعلت مع الجسد والجنس. وفي كل عدد هناك محورالعدد أو ملفه تتناول فيه قضية بعينها مثل قضية «الجسد إدماناً» في ملف وصل عدد صفحاته إلي 38 صفحة ليضم كتابات عن إدمان الجنس والمخدرات والمرأة وعمليات التجميل والإنترنت والأكل. ونقرأ في عدد آخر ملفاً عن «القبلة» وفيه حكاية «أول بوسة» علي لسان خمسة كتاب شباب عرب من مصر ولبنان وفلسطين والجزائر والمغرب. وأيضاً نجد في عدد آخر ثماني كاتبات عربيات شابات وجميلات ( وهذه الأوصاف من المجلة ذاتها) من دول عربية مختلفة يتحدثن عن علاقاتهن بجسدهن.وصفحات مطولة عن العنف الأسري أو العنف بين الشريكين تحت عنوان «ضرب الحبيب زبيب؟». «جسد» تعد خطوة جريئة صدر منها حتي الآن ستة أعداد - فلننتظر ونري «حنوصل للعدد كام؟» وطالما نتحدث عن الجسد في حياتنا وفي خيالنا ننتقل إلي جسد المرأة في الأعمال الفنية. ومعارض الفنون علي امتداد العالم مليئة، بل مزينة بلوحات تسجل وتعكس وتسلط الضوء أو ترمي بالظلال علي جسد المرأة. يقول الفنان حسن سليمان: إن «جسد المرأة هو أقدم عبادة عرفها الإنسان» جدير بالذكر أن «أفروديت الطالعة من زبد البحر عبدت 20 ألف سنة» ويري أن «جسد المرأة أجمل ( من جسد الرجل) لأنه تكوين «أمومي» أقرب إلي الطبيعة، بل هو امتداد للطبيعة، خلق لكي يضم ويحتضن ويعطي..» والكاتبة عبلة الرويني اقتربت من نظرة حسن سليمان وعالمه وفنه ونسائه في كتاب متميز وشيق اسمه «نساء حسن سليمان». والكتاب يحمل بين طياته رسومات الفنان وحواراته مع الكاتبة عن موديلات عن فتاة الجمالية «صفية» وربما «ياسمين» وعن «عايدة» و«عطيات» و«شريفة». والحوار يدور في مرسم الفنان بشارع شمبليون بوسط البلد - الشقة الصغيرة التي سكنها أحمد بن بيللا عام 1953 في أثناء حرب التحرير الجزائرية، ثم قام بإهدائها إلي صديقه الفنان. وأنت تتابع حكايات حسن سليمان عن النساء اللاتي يقوم برسمهن، تشعر في كثير من الأحيان أن نصفها من وحي خياله، أو أنه يكمل النموذج الذي يبحث عنه بالحكاية وتفاصيلها كما تقول الكاتبة.وهناك «ثمة إعجاب واضح، وعلاقات إنسانية صريحة، فهو لا يرسم سوي امرأة تستفزه، امرأة تشعره بأنوثتها، امرأة يعجب بها» و«عندما تمر الواحدة منهن أمامه تنفجر العديد من الأسئلة داخل الفنان، يبحث عن حلول وإجابات للسيطرة علي الكتلة والألوان، والمنظور«وكيف أنه سيجسدها في اللوحة». ونعرف من صفحات الكتاب أن فناننا لم يعتمد علي موديل واحدة، «فذلك يحدث في رأيه اضطراباً لدي الفنان، ونوعاً من الجمود والثبات في أسلوبه الفني..» كما أن الفنان اعتاد أن يرسم الموديل عارية تماماً ثم يقوم بتغطيتها وإلباسها الثوب بعد ذلك فوق اللوحة. ونقرأ تأكيده أيضاً أن الفنان إذا أشتهي الجسد الذي أمامه، يتوقف عن الرسم مشيراً إلي أن خطأً واحداً علي اللوحة، أفضل مئات المرات من علاقة جنسية مع المرأة التي أمام اللوحة. الفنان الكبير حسن سليمان من مواليد 25 أغسطس 1928 في حارة طه بك السيوفي بالسكاكيني وقد حصل علي بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1951 ثم كان حاضراً ومساهماً ومشاركا ًفي الحياة الفنية والثقافية كمبدع وكأستاذ تتلمذ علي يديه الكثيرون- حتي وفاته عام 2008. ولم يكن غريبا أن يصفه أصدقاؤه وتلاميذه بأنه «المقاتل العنيد» وأنه «لم يعرف الهدنة». وقد نشر رسوماته ومقالاته في مجلتي «المجلة» و«الكاتب».ومن أشهر لوحاته «النورج» و«العمل». كما نذكر له كتابه «حرية الفنان». نعم إنه الجسد كان ولايزال منظومة الوجود والعدم في حياتنا. فهو الميلاد والموت،الصحة والمرض،الخصوبة والبوار،والعري والملابس، والحركة والخمول.هو الاتجار بالبشر والبغاء والبورنو وتجارة الأعضاء وعمليات التجميل. وأيضا كان ولايزال المشتهي والمراد والمنبوذ والمحظور واللافت للأنظار والمثير للانتباه والغرائز هو الجميل والجذاب والنشوة والعذاب، هو الأسر والتحرر، وهو العطش والارتواء. إنه الجسد ( لغة وأبجدية وبلاغة) فعلا وفاعلا ومفعولا به وأيضا مرفوعا ومفتوحا ومكسورا ومجرورا ... مضافا ومضافا اليه. وطبعا الصراحة راحة.. وهي الحقيقة «اللي ممكن تريحنا وتريح اللي معانا» والمطلوب دايما هو الصدق.. الصدق مع النفس أولا والصدق مع الآخرين ثانيا وأخيرا. وسواء نخبئ أنفسنا وراء ورقة التوت أو نخبئها وراء ورقة التين في النهاية لازم الحقيقة تظهر وتبان. الحقيقة سواء كانت حلوة أو مرة يجب أن تظهر عارية تماما، كما ولدتها أمها عارية من الأكاذيب والأقنعة وأدوات التجميل و«بوتوكس». وطبعا الجسد له جماله وله احترامه وله جاذبيته وله هيبته وطهارته وطلته وطبعا له عمره. نعم حكم الزمن علي الجسد قاس و«ما يعرفش الرحمة». يعني بلاش منظرة وقنزحة وفشخرة وعنتظة وعنجهة و..«نفخة كدابة» أيوه الأيام بتجري بسرعة. وأنت مش محتاج أفكرك من جديد أن «الجسد فاني» وإن إحنا «من التراب جئنا وإلي التراب نعود». وطبعا بين المهد واللحد رحلة عمر وجسد به نولد ونحبو ونجري ونسير ونأكل ونشرب ونصلي ونتعلم ونرقص ونسافر وننام ونحب ونحضن و.. أخيرا نموت ويوارينا التراب. ما تخافش مش حتتقلب غم ده مش طبعي ومش طبيعتي. خاصة أن الحياة واقفة جنبك وماشية قدامك. بتتمخطر وبتتمايل وبتتدلع وبتلاغيك وبتناديك. وماتخافش مش حاعطلك بكلامي وسرحاتي خلاص بقه أشوفك بعدين!! وأنت روح إلحقها قبل ماتتوه منك في الزحمة ومين عارف يمكن ماتشوفهاش تاني؟؟ ... باااي!!