يذكر لطه حسين قوله «أنا قلق دائما، مقلق دائما، ساخط دائما، مثير للسخط من حولي». وأمام هذه الكلمات رأي أدونيس «صورة الخلاق المجدد». وعندما أتيحت لأدونيس الفرصة أن يلتقي بالعميد في بيته لأول مرة وصفه «كان يجلس في جلال آسر، يلف ساقيه بغطاء من الصوف، وبدا جميلا كمثل منمنمة عربية في تمثال يوناني، كان يتلألئ فيما يتكلم..» هكذا تتحول تفاصيل حياتنا لرسومات علي جدران ذاكرتنا. ويعترف نزار قباني بأن في لحظات «حين أحبك» تتحضر آلاف الكلمات وتتشكل لغة أخري.. ومدن أخري وأمم أخري. وأيضا تسرع أنفاس الوقت وترتاح حروف العطف.. وتحبل تاءات التأنيث.. كما «تكشف الشمس أنوثتها تضع الأقراط الذهبية». وبالطبع كل هذا يحدث وأكثر حين تتلاقي العيون والقلوب و.. ويحدث ويتفجر ويزلزل ما نهلل له ونصفه ونسميه اختصارا ب «حب». ويحكي أن والده كان خبازا، وكذلك كان جده ولكنه كان من عجينة مختلفة ونادرة وأيضا خلاقة -- شكلها وخبزها الخالق الأعظم. إنه رمبرانت الرسام العبقري ومعجزة زمانه الذي استطاع أن «يروض النور والظل » في لوحاته. وهذا بالطبع ليس بالأمر السهل. إلا أنه أبدع في ذلك وأمتعنا وحلق بخيالنا. وأكيد الجملة أو الحالة التي تطاردني في كل لقاء معك لحديث آخر عن حال الدنيا هي «نبتدي منين الحكاية». وهذه المرة هي حكايتي حكايتنا مع لوحة فنية نقف أمامها بانبهار- وبالطبع لا يجب أن نلمسها (هكذا نبهونا هكذا الاتيكيت) إلا أنها بسحرها تسحبنا إليها وتضمنا إلي حضنها وعالمها. و«خلاص وقعنا في عشقها وهي طارت بنا للسما». هكذا كانت حكايتي مع لوحات محمود سعيد منذ أن تلاقت العيون من النظرة الأولي مع «بنات بحري» في «المدينة» ومع «حاملة القلل» أو «عروس البحر». واسم محمود سعيد تردد أخيرا في الصحف ووسائل الإعلام لأن احدي لوحاته «الشواديف» (1934) بيعت ب 4.2 مليون دولار في مزاد علني في دبي أجرته «كريستيز» العالمية الشهيرة. وهو أعلي سعر للوحة حديثة لفنان بالشرق الأوسط. ولم يتم كشف هوية المشتري. وإن كانت هذه اللوحة ولوحات أخري من مقتنيات محمد سعيد الفارسي حاكم جدة السابق. ويذكر أن التقدير الأول لسعر اللوحة لم يتعد ال 150 ألف دولار. وقد بيعت في المزاد نفسه ثلاث لوحات أخري لمحمود سعيد وأعمال لحامد ندا ومحمود مختار وعبد الهادي الجزار. والفنان محمود سعيد (1897 - 1964) من مواليد الإسكندرية في حي المينا الشرقية المعروف بحي بحري وكان ابن محمد سعيد باشا (رئيس الوزراء) وقد درس القانون إلا أنه عشق الرسم وانخرط في السلك القضائي ومضي صعودا في السلم القضائي بالغا منصب المستشار. وفي عام 1947 وهو في الخمسين من عمره قرر أن يكرس حياته تماما للفن الذي ولد له واشتاق للتفرغ له والسير في طريقه.الفنان السكندري كان متأملا وغاطسا ومبحرا فيما حوله. وكان متيما بالشاعر الفرنسي بودلير ومهموما بزيارة متاحف الفنون في أوربا وقد قال «علمت نفسي في مدرسة المتاحف فاحصا محللا آثار الأئمة للكشف عن أسرار الصنعة» وأيضا.. «لكن كانت مصريتي تهتف بي أن أطرح عن عيني كل مؤثر أجنبي. وفرق بين أن تتعلم، وبين أن تبدع. إن الإبداع لا يستغني عن التعلم، ولكنه لحظة تتضاءل فيها كل ما تعلمته ليعلو صوتك الداخلي». والعشرات من لوحات محمود سعيد الآخاذة وإسكندريته الساحرة ووجوهه السارحة ونسائه بأنوثتهن الطاغية تشهد وتؤكد عظمة وثراء ما تركه هذا الفنان لنا في حياتنا. ليتنا مع الهوجة الأخيرة بالاشارة إلي اسمه نزور من جديد متحفه ونري لوحاته ونقرأ حياته وأفكاره وما كتبه عنه بدر الدين أبو غازي ورمسيس يونان وحامد سعيد وآخرون. وقد كتب رمسيس يونان وهو يشرح ما يسميه «طغيان الأنثي» لدي المرأة في عالم محمود سعيد «.. إنها تارة ست الحسن والجمال وتارة أخري تلك التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم» نعم لقد توقف الكثير من الفنانين المتابعين لابداع محمود سعيد أمام المرأة في لوحاته » لقد أضحت «بنت بحري» السمراء الفاتنة، التي يشع من عينيها وشفتيها سحر أنثوي غامض، والتي كان الفنان يري فيها مخلوقا عجيبا يجمع بين الطيبة والشراسة.. وبين الصفاء النفسي والدفء الجنسي.. وبين الرضا الناعم والحزن القاتم.. أصبحت هذه المخلوقة التي تجمع بين المتناقضات ظاهرة تميز فن «محمود سعيد» ابن الإسكندرية البار.. وابن الذوات الذي ثار علي طبقته، وترك مباهج القصور.. ونزل الشوارع والأزقة، يخالط عامة الناس، يترجم لهجتهم » الإسكندرانية» إلي خطوط وألوان وظلال.. يفرشها فوق لوحاته» هكذا وصف الفنان والكاتب حسين بيكار إسكندراني آخر فن وموهبة محمود سعيد واصفا اياه «ابن الذوات الذي عشق بنت البلد». بيكار (1913 - 2002) هو «بورتريه» وريشة وقلم ولوحة وموال. وهو أيضا ابداع وعطاء ورحلة مستمرة وأبوة إنسانية. وكل من اقترب منه وحاول التعلم أو الاستزادة منه وجد الكثير والأهم وجد كرمًا لا حدود له في المشورة والنصيحة للإقبال علي الحياة واحتضانها. ولعل ماكتبه الأستاذ مصطفي أمين عملاق الصحافة - عن بيكار وعمله معه في اصدارات عديدة يكشف عطاءه المتعدد الأوجه «لم يكن يعود لنا برسوم فقط، كان يعود بصور حية.. صور تتكلم، وتتحرك، وتغني، وترقص. كنا نشعر أننا لم نوفد رساما واحدا، بل أوفدنا بعثة فيها فيلسوف ومصور وشاعر وفنان وقبل هذا كله، فيها إنسان اسمه بيكار». وهنا يجب أن أعترف كم من ساعات لا تنسي أمضيتها معه في منزله بالزمالك وهو يحكي رحلته ومشواره وفلسفته و«عصارة تجربته الإبداعية». وكان دائما هدفي من الحوار المتشعب والمتعمق معه ومع غيره من الكبار وأنا أقترب منهم وأتأمل حياتهم ليس فقط نشر حوار معهم بقدر «أن أفهم منهم أو علي الأقل أفك معاهم معادلات ولوغاريتمات الحياة» و«أن أشرب منهم صنعة اكتشاف المعاني واصطياد الأفكار» و«أعرف كيف أغطس في كل فتفوتة وفي كل تفصيلة في دنيانا». وهذا هو المأمول والمفيد والممتع دائما من اقترابنا من الآخرين وإبداعاتهم والتعرف علي تجربتهم إضافة بعد جديد وعمق جديد لنظرتنا لأنفسنا ودنيانا. وأتذكر اللقطة إياها- وقد تكررت كثيرا وأستاذي بيكار يقف معي أمام البورتريه الشهير الخاص به هو ذاته بفانلته البيضا وكانت اللوحة الآسرة الجذابة توجد في بيته. ونقف أمامها كأننا أمام مرآة ويبدأ حوارنا - وكيف أنه تأمل نفسه ووجد نفسه ورسم نفسه ثم كيف يري اللوحة ونفسه في تلك اللحظة - لحظة نقاشنا؟ وهل راجع نفسه بعد أن رسم وانتهي من رسم البورتريه؟. وكيف يقرأ ملامحه الآن؟ ثم عندما يمر بهذه اللوحة بورتريهه الخاص به كل يوم هل يري شخصا مختلفا أم الشخص نفسه؟ ومن هذا المنظور وهذا الاقتراب يأتي ثراء التجربة الإنسانية في معرض لرسوم ولوحات فنية إذ أننا غالبا ما ننظر للوحة لنكتشف جديدا أو نكتشف من جديد ما نسيناه أو تناسيناه بفعل الأيام والهموم «اللي بتاخدنا فننسي أنفسنا فلا ننظر حولنا» و«إن نظرنا غالبا لا نري».. وبجانب لوحاته وبورتريهاته الساحرة رسم حسين بيكار «لوحة وموال» ليقدم لنا حكما ومعاني حلوة ولذيذة - اعتدنا علي مدي سنوات طويلة أن نقرأها بعيوننا وقلوبنا صباح كل يوم جمعة علي صفحات «الأخبار». وعلي رأي صديقتنا أمل «نقراها ونزقطط ونحس أن الدنيا بخير وحتفضل بخير وكل حاجة حلوة في انتظارنا». يكتب بيكار: وماتقولوش للي طالع للقمر مجنون ولا معتوه مش هو اللي بالغالي ما باعكوا وانتو بالرخيص بعتوه عاشق القمر عارف طريقه ولو معصوب العين واللي دليله الحب عمره ما يضل الطريق ويتوه وبيكار نفسه نبهنا وقال: راح أمسك الفرشة وألون الدنيا بلون بمبي وح أزرع الورد في قلبي وقدامي وجنبي وح أنزع الغل وأسامح، وربي وحده يعلم بي واللي ح يلبس نضارة سودة ذنبه علي جنبه مش ذنبي ولا شك أن بيكار ومحمود سعيد ومحمود مختار وسيف وانلي وكل من جملوا حياتنا بلوحاتهم وتماثيلهم في حاجة إلي التفاتة وتذكير بأفضالهم وبصماتهم وأن نفتكرهم ليس فقط في مناسبات ومزادات وسرادقات إعلامية اعتدنا أن نقيمها مع كل قيمة نفتقدها في حياتنا أو مع كل قيمة «نكفرها ونرجمها» فتأتي سيرتهم مع كل حملة تحريم وتجريم لما هو إبداع وفن وجمال في دنيانا. نعم نحن في حاجة إلي الكبار. الكبار اللي احنا كبرنا بيهم وبنكبر وحنكبر بيهم. وهم بالطبع محتاجون حبا حقيقيا واهتماما جادا ماهوش تمثيل أو أي كلام وبغبغة (وشكرا لبيكار لأنه فكرني بكلمة «بغبغة») وأكيد انت عارف حاقولك ايه دلوقتي ايه؟ واقف كده ليه زي الصنم ومبلم؟! ما تتحرك وتتكلم ايوه ما تتكلم وترسم وتلون الحكاية كلها «مش محتاجة تفكير عويص» و«مش عايزة بعدين لما الأمور تفرج» بصراحة «ماعندناش وقت نضيعه» اتحرك وهاتلك فرشة تلون بها دنياك - لوحتك ولوحاتك وحتلاقيها وحتشوفها أجمل بكتير من اللي انت فيها وطبعا اسمع صوتك الداخلي واختار ألوانك وخطوطك وظلالك واوعي تقول أبدا طيب ما أنا أرسم ايه؟ أو أرسم ليه؟ ما كله قاعد حوالينا بيشخبط ياسيدي مادام أنت عارف وشايف الشخبطة خليك حلو ومختلف عن التانيين وارسم اللي في نفسك ولون علي مزاجك وماحدش ماسكك من ايدك وماحدش كسر فرشتك أو دشدش علبة ألوانك يعني مالكش حجة إنك تبلم أو تسكت أو تشل حركتك وأنا عارف حتقول «طيب مين اللي حيتفرج علي اللي حأرسمه وألونه؟؟» المهم يا سيدي أنك ترسم وتلون وتقول لنفسك أولا ثم للتانيين ثانيا إنك قادر وعايز ترسم وتلون وتشكل وتنحت وتزين وتنغم حياتك وأيامك ودنياك» وديه بالمناسبة مش عملية سهلة ومين قدك يا سيدي لو عملتها؟! وطبعا بعد ما ترسم وتلون ماتشيلش هم انك حتبروزها ازاي؟ وتعرضها فين؟ ببساطة انطلق أيها الفنان وانطلقي أيتها المبدعة ودايما اسمع صوتك اللي جواك مش صوتهم اللي حواليك وارسم ولون الدنيا بلون بمبي.. وبالألوان كلها وافتكرني.. يا جميل!