أحمد السيوفى عندما زرت مدينة بوشهر لرؤية المفاعل النووى الإيرانى، فوجئت بمبنى المحافظة القديم وقد تصدرته لوحة من الرخام قديمة مكتوب عليها محافظة" بوشهر والبحرين"، كتبت هذه اللوحة إبان السيطرة البريطانية على المنطقة، والمعلومات تشير إلى أن بريطانيا تدخلت فى قضية رسم الحدود بين الدولتين العثمانية والفارسية، وذلك عندما تعاظم نفوذها إبان القرن الثامن عشر، وكان هدفها هو البحث فى سبل تأمين النقل البحرى لها عبر الطرق المائية ومن بينها منطقة شط العرب، ولكى تنفذ بريطانيا هذه الإستراتيجية، أوعزت إلى الرحالة والدبلوماسى البريطانى السير أوستن هنرى لايارد، بوضع مشروع حدود تكون منطقة شط العرب فيه تابعة للدولة العثمانية على أن يعطى نهر السيجان أو السليج إلى إيران، وهذا النهر عبارة عن فرع من نهر الكارون يصب فى الخليج وليس فى شط العرب .
وبالفعل نشر لايارد مشروعه ذلك فى مجلة الجمعية الجغرافية الملكية فى لندن عام 1848م ثم تتابعت بعد ذلك الاتفاقيات والمعاهدات الخاصة بالحدود بين الدولتين العثمانية والفارسية منذ عام 1843م حتى بروتوكول الآستانة عام 1913، وكان ذلك بقصد تهيئة الأجواء لسايكس بيكو، حيث إن القوى الغربية كانت تخطط لتقاسم تركة الدولة العثمانية وخصوصا بريطانيا وفرنسا، ولا بأس أن يكون للشاه الأب رضا بهلوى جزء من الكعكه لأنه حليف للغرب خاصة مع أوائل القرن العشرين عندما تم اكتشاف النفط فى العراقوإيران، وظهر النفط أيضا فى منطقة الأحواز والأهواز التى استولى عليها الشاه وخضعت للدولة الإيرانية التى أطلقت عليها حكومة رضا بهلوى عربستان، برغم أن الدولة الفارسية قبل ذلك كانت تطلق عليها خوزستان، وهذه المستجدات الخاصة بظهور النفط زادت من أهمية الأهواز، كما زادت من أهمية منطقة شط العرب لبريطانيا فى عمليات نقل النفط إلى الخليج ومنه إلى أوروبا.
ولم تكتف بريطانيا بما قامت به من ضغوط ومن عمليات تلاعب فى رسم الحدود، فإنها قامت بالضغط على النظام الملكى العراقى لتقديم تنازلات جديدة فى شط العرب وحملتها على توقيع معاهدة 1937 التى أعطت بموجبها 16 كيلو متراً لإيران من مياه شط العرب امام منطقة عبدان وذلك لتأمين تحرك ناقلات النفط الإيرانى من مصافى عبدان، لأن هذا فى نهاية المطاف يخدم أوروبا وبريطانيا على وجه الخصوص، لكن الشاه الابن محمد رضا بهلوى لم يقتنع بهذه الستة عشر كيلو مترا فأعلن من طرف واحد إلغاء اتفاقية 1937 وسيطر على شط العرب، وقد لاقى هذا ترحيبا دوليا لأن دول الغرب لا يعنيها سوى مصالحها الإستراتيجية، ولأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وضعت يدها على أكثر من 80 % من النفط الإيرانى .
أما منطقة الأهواز فإن المعلومات تشير إلى أن بريطانيا لم تكن تستريح للدولة الكعبية، نسبة إلى الشيخ خزعل الكعبى الذى كان يحكم الأهواز، ولهذا اتفقت بريطانيا مع إيران عام 1920 على إقصاء أمير عربستان وهو خزعل الكعبى، ومن ثم ضم الإقليم إلى إيران بعد اعتقال الأمير خزعل على ظهر طراد بريطانى، حيث أصبحت الأهواز وعاصمتها مدينة المحمرة منطقة نزاع إقليمى بين العراقوإيران، وكان هذا بطبيعة الحال جزءا من مخطط سايكس بيكو الذى نجح فى خلق بؤر نزاع بين عدد من الدول العربية والإسلامية، وبعد تزايد إنتاج النفط فى هذه المنطقة ارتفعت وتيرة الصراع بين دول سايكس بيكو للقفز على هذه المنطقة بعد تفكك الدولة العثمانية وتقاسم إرثها، ثم استولت روسيا على إيران وأسقطت الحكم القاجارى الذى كان يحكم إيران وأعيدت تسمية الأهواز مجددا بعد أن غير اسمها الأمير خزعل الكعبى وسماها الناصرية، فأعيد لها الاسم القديم ثم تولى رضا بهلوى حكم إيران وازدادت قبضته على الدولة الإيرانية مع تزايد النزاع على إقليم الأهواز مع العراق المجاور حتى بعد استقلال العراق، حيث دخلت الحكومات العراقية المتتابعة فى مفاوضات وحوارات مع إيران حول المناطق المتنازع عليها، وأبرم فى هذا الصدد العديد من الاتفاقيات أبرزها اتفاقية عام 1937، التى سبق أن أشرنا إليها، ثم مفاوضات عام 1969 وانتهاء باتفاقية الجزائر عام 1975 التى أبرمت بين شاه إيران محمد رضا بهلوى، ونائب الرئيس العراقى آنذاك صدام حسين الذى ما لبث أن ألغى الاتفاقية من جانب واحد عام 1980 بعد نجاح الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخمينى، الذى قام بتسريح الجيش الإمبراطورى فى إيران، معتبرا أن هذا الجيش الذى تربى فى عهد الشاه وتعلم الكثير من قادته فى أمريكا وإسرائيل وتشبع بالقيم الغربية، من وجهة نظر الإمام الخمينى لن يستطيع التفاعل مع الثورة الإسلامية ومع قيمها، ومن ثم أراد الإمام الخمينى أن يصيغ منظومة جديدة تتشبع بالقيم الإسلامية، ولهذا تم تفكيك الجيش الإمبراطورى، الأمر الذى دفع صدام حسين بتحريض من الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت جيمى كارتر وبعض الدول الإقليمية وعلى رأسها الملك السعودى خالد بن عبد العزيز آنذاك، إلى إلغاء الاتفاقية من جانب واحد، وأعلن إعادة الأهواز إلى الدولة العراقية، وقام باحتلال أكثر من ثلث إيران، ومن هنا اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية، التى استمرت ثمانى سنوات، أنفق فيها أطراف الصراع أكثر من مائة مليار دولار، وأكثر من مليون شهيد، وهى فائدة عظيمة من فوائد ومعطيات سايكس بيكو.
الواقع أن القوى الغربية التى فككت الدولة العثمانية. ومن ثم فككت الدول الإسلامية والعربية، ولم تكتف باتفاقية سايكس بيكو، وإنما أيضا تلاعبت بالدول وحدود الدول حتى تصنع توترات وأزمات، وما كانت والمشاكل التى يمكن أن تترتب على ذلك .
الأستاذ هيكل يشير فى كتابه «حرب الخليج» إلى أن القبائل التى كانت تحكم المنطقة العربية، طلبت من المندوب السامى البريطانى أن يضع حدودا للدول فى المنطقة، فتناول الرجل قلم «كوبيا» وخطط ورقة بجواره حدود هذه الدول، وللأسف كما يقول الأستاذ هيكل، فإن هذه الورقة اعتبرت وثيقة للاحتجاج بها فى ترسيم الحدود، وهذا الترسيم خلق بؤرا من التوتر ومناطق متنازع عليها تقريبا بين كل الدول العربية والإسلامية .
وكما أشرت فى بداية الموضوع عن قضية البحرين التى مازالت اللوحة الرخامية موجودة فى بوشهر ومكتوبا عليها محافظة بوشهر والبحرين، فالمعلومات تشير إلى أن البحرين كانت جزءاً من إمبراطورية فارس لفترة متقطعة منذ عام 1601 وحتى عام 1783 فى حكم الدولة الصفوية، وظل هذا الأمر مستمرا فى عام 1969 عندما قامت الأممالمتحدة بإجراء استفتاء لانفصال البحرين عن إيران أو بقائها، فصوت الشعب البحرينى بالاستقلال عن الدولة الفارسية عام 1969 . وأعلنت البحرين استقلالها فى أغسطس عام 1971، ويقال إن الدول العربية كانت تخشى أن تقوم إيران بضم البحرين مرة أخرى، ولهذا قيل وهذا القول أيضا منسوب للأستاذ هيكل وبعض المصادر الأخرى إن هناك تفاهما بين الرئيس عبد الناصر والقيادة الإيرانية أن يتجنب شاه إيران الحديث عن البحرين، مقابل ألا تتحدث الدول العربية عن قضية الجزر الثلاث، وهى جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وقضية الجزر هى الأخرى تمثل أيضا جزءا من أزمة التوتير والتقسيم، وأيضا فإن الطرف الغربى والبريطانى على وجه التحديد كان حاضرا،فالمعلومات تشير إلى أن الوسيط البريطانى أجرى مفاوضات بين الإيرانيين وحاكم الشارقة حول الجزر الثلاث، وبعد سلسلة من المفاوضات اقترح الوسيط البريطانى وليم لوس مشروع اتفاق بين الإيرانيين وإمارة الشارقة يتضمن البنود التالية: -1 اقتسام الجزيرة بين إيران والشارقة مقابل مبلغ من المال يتفق عليه فيما بعد على ألا تدعى الشارقة السيادة على الجزيرة وكذلك إيران . -2 تأجير جزيرة أبو موسى لإيران لمدة 99 سنة قابلة للزيادة مقابل مبلغ من المال يتفق عليه لاحقا، على أن يظل علم الشارقة مرفوعا على المخفر الوحيد ويحق لحكومة إيران إقامة قواعد فى أى مكان فى الجزيرة . وكان الرد على هذا المشروع بالرفض خصوصا من الجانب الإيرانى، حيث أعلن الشاه حزمة من الشروط عرضها على الوسيط البريطانى وليم لوس تتضمن الآتى: -1 احتلال القوات الإيرانية لجزيرة أبو موسى دون اعتراض من الشارقة وحاكمها، وعلى الشارقة أن تسحب قوات الشرطة منها. -2 أن موضوع السيادة يجب أن ينتقل إلى إيران بعد مرور سنتين. -3 استعداد الشاه لمد الشارقة بمساعدات مالية وفى حالة اكتشاف بترول فى الجزيرة فإن الشاه يستعد لإعطاء نسبة مئوية من النفط للشارقة يتم الاتفاق عليه بشرط عدم اعتراض الشارقة . -4 استعداد الشاه لعمل اتفاقية مكتوبة عن المساعدات المالية التى تمنح للشارقة على ألا ينصرف ذلك إلى السيادة. والمعلومات تشير إلى رفض الشارقة لهذه الشروط، غير أن ضغوط الشاه والضغوط البريطانية على الشارقة دفعت الأخيرة إلى الموافقة على الشروط الشاهنشية مقابل الإغراءات المالية، وإلا فالبديل الاحتلال الإيرانى الكامل . من الواضح أن الطريقة التى أدارت بها بريطانيا التفاوض والشروط المجحفة أحيانا والشروط التى تبدو عادلة فى أحيان أخرى، لكنها قد تسهم فى التفكيك والتقسيم، كل هذا أسهم فى صناعة التوترات والنزاعات، وحتى الحلول التى تبدو كأنها تدفع إلى حلول المشاكل فإنها تحمل فى طياتها بذور التشظى والتقسيم بل الانفجار، وهو بالطبع أهم معطى وأهم إنجاز لاتفاقية سايكس بيكو، وقد تبدو إيران من خلال سايكس بيكو قد حققت مكاسب كبيرة بضمها الأهواز والجزر الثلاث وغير ذلك، إلا أن هذه المكاسب تمثل جبلا من التراكمات النفسية التى تصنع مخزونا من الغضب من المحيط الإقليمى لإيران وصنع أزمات مستمرة ونزاعات متواصلة، وتلك أهم منجزات سايكس بيكو .