السيد رشاد تماس كبير بين «الفيل الأزرق» و«روايتى» أحيا غربات متعددة وشخوص رواياتى رفقائى بعيدا عن «الأخماس» «الجسر الأزرق» حققت أعلى نسبة قراءة فى ألمانيا.. وأنتظر ترجمة فرنسية قريبا الروائى صلاح مطر يرى الحياة هى الفرح بالاكتشاف.. وأن الكتابة الروائية هى رحلة صعود نحو الأرقى أحيانا، وأحيانا أخرى مفتاح قدس الأقداس «العقل»..حفر مكانته الإبداعية مبكرا، منذ روايته الأولى نمل وفتات ومجموعة أحلام فقيرة لكن رواية «الجسر الأزرق»، كانت نقلة فارقة حيث قدم من خلالها ما يمكن تسميته الرواية «متعددة المستويات والدلالات» أو «رواية الأعماق» وهى رواية ذات خصوصية فائفة، وربما غير مسبوقة فى المعمار الروائى العربى، حيث ترفض سردية مطر الترتيب المنطقى لسياقات غير منطقية، ومن ثم يلتقط حكمته الخاصة جدا من شظايا غرائبية تارة وعجائبية أخرى وتصوفية ثالثة.. لكنها فى كل الحالات تأبى أن تكون عادية، حفر مطر تلك المكانة بمطرقة حريرية شديدة النفاذ إلى عمق النفس البشرية التى هى «سر الأسرار» تاركا لنفسه حرية التأمل فى دقائقها ومتعة اكتشاف وقراءة ما يتاح من كنهها، ثم يركض بغنيمته إلى حيز المعلوم، فرحا - ونحن معه –بإعادة كتابتها كتابة مقطرة شديدة الرفاهة والرهافة، لتملأ بعض فراغات أرواحنا التى سكنها الجدب، والأهم تمنحنا سلاحا نبيلا لمواجهة قسوة الزيف وتداعيات الواقع الردئ ولو على طريقة “بطله الشاعر الخليل”، ومن سطر إلى آخر تدهشك قدرته الفريدة على تأبط قضايانا بحريرية شفيفة.. غير قانع بمهمة التنقيب فى أعماقنا السحيقة نيابة عنا.. لكنه يصر على أن يحرضنا لكى نتأمل ذاتنا فى “أخفى بقاعها”بذواتنا فى “أصفى بصائرها”.. لذلك لم يفقد إبداعه الروائى على عمقه وخصوصيته القدرة على الإدهاش.. وهو فى هذا شديد الإخلاص لمقولة “كورو”: “خير لك ألا تكون شيئا على الاطلاق من أن تكون صدى لآخرين.. لهذا لم يلجأ إلى الأنماط الروائية والثيمات سابقة التجهيز، لكنه اختار بمحض إرادته الحرة افتراش جمرات التجديد الإبداعى.. ليقدم لنا روحه ممزوجة بحبر الرواية.. وكأنه قادم توا من أحد أحلام “بورخيس”ليمنحنا حلما لا يملك أحد أن يمنعه مهما احتشد واقعنا بالارتباك والاختلال. وإذا كان نجيب محفوظ فاز لمصر والأمة العربية بجائزة نوبل تقديرا لتوظيفه العبقرى لأجواء ومعطيات الحارة المصرية، واذا كان يوسف إدريس قد حقق نقلة فارقة بواقعيته الساحرة التى حول فيها العادى إلى غير عادى، وكان هو الآخر يستحق نوبل بجدارة، وإذا كان إدوار الخراط قدم ثمة إضافة بنص الحساسية الجديدة والكتابة عبر النوعية، فإن صلاح مطر - فى تقديرى –هو أكثر المرشحين من أبناء جيله لتحقيق نقلة نوعية جديدة لفن الرواية المصرية والعربية.. وهو ما أكده نخبة من كبار النقاد المصريين والعرب بعد صدور الجزء الأول من مشروعه الروائى “الجسر الزرق “قبل نحو عشر سنوات فى القاهرة، التى أثارت ردود أفعال واسعة، وأعيد طبعها عدة مرات فى مصر كان آخرها طبعة دار الأدهم، وستطبع قريبا فى ألمانياوفرنسا بعد الاحتفاء الكبير بها هناك.. وبرغم إقامته منذ عشر سنوات فى “الإمارات”حيث يعمل سكرتير تحرير فى واحدة من كبرى المؤسسات الصحفية بدبى فإن ضغوط العمل لم تستطع خطف “مطر “من عشقه الأول الرواية.. حيث عكف على كتابة الجزء الثانى من مشروعه الروائى وحمل عنوان “الجراد الأبيض”الذى سيصدر قريبا، حول هذا المشروع ومدى التماس الفنى بينه وبين “رواية الفيل الأزرق”وهل هناك شبهة اقتباس وحتى انتحال.. وقضايا ثقافية وإبداعية أخرى أجرينا معه هذا الحوار فى دبى. بعد نشر “الجسر الأزرق”فى عدة طبعات، إلى أين وصل مشروع الثلاثية خصوصا أن هناك احتفاءً ألمانياً وفرنسياً بها؟ أبدأ مما انتهى به السؤال، فأوضح لك أن الاحتفاء الألماني كان عبر موقع إلكتروني لمجلة ألمانية متخصصة، حيثت ترجم صديق سوري، وهو الكاتب مجد العزو، ويعيش في النمسا بعد أن قرأها وأُعجب بها، ملخصاً للرواية، وفور نشرها في المجلة، حققت أعلى نسبة قراءة ومتابعة، وكانت هذه خطوة انطلاق حقيقية لمشروعى الروائى، حيث طلبت أكثر من دار نشر ألمانية حق ترجمتها وطبعها.. وربما تحققت هذه الانطلاقة بفضل الانفتاح الواسع هنا فى دبى بالإمارات العربية، حيث أقيم على كل شعوب وثقافات العالم. أما في فرنسا، فهناك الصديقة الإعلامية والكاتبة الجزائرية منى ذوايبية، التي تعمل في إذاعة مونت كارلو، والتى تبنت الرواية، حيث ترى أنها جديرة بتمثيل الجيل الجديد من الروائيين العرب، وتعكف على ترجمتها إلى الفرنسية، تمهيدا لنشرها بإحدى دور النشر الكبرى هناك. ويواصل مطر: أعود إلى الثلاثية، فأقول إنني انتهيت من كتابة الجزء الثاني، واخترت له عنوان ،”الجراد الأبيض، وأنتظر نشره قريباً، وأجزاء الثلاثية كما تعلم هي روايات منفصلة، كل منها، عالم قائم بذاته، لكن حين تجمعها تكوّن معا الثلاثية التى تمثل مشروعا روائيا متكاملا. عنوان غريب هل هو اتساق مع “لعبة الألوان”التى كادت تصبح “موضة”روائية وقصصية إذا جاز التعبير فى الفترة الأخيرة، خصوصا أنها حاضرة في جزءين من مشروعك، من الأزرق في الجزء الأول إلى الأبيض هنا، وفي انتظار الجزء الثالث؟ دعني في البداية أقُل لك إن “موضة الأزرق”انتشرت في الأدب من حيث عناوين كثير من النصوص في هذه الأيام بعد نشر روايتي “الجسر الأزرق”، إلى درجة أنني لخصت الحالة ذات مرة بالتعبير الدارج “كله بقى بيشتغل في الأزرق”. (يضيف مبتسماً) وأنا هنا لا أتهم أحداً بسرقة أفكاري؛ لأنك إذا أردت إثبات السرقة ستصطدم بوجود شرط “الحافر على الحافر”في القانون، بمعنى أن يكون النقل من نصّك بالكلمة والحرف، ولا تثبت تهمة السرقة إلا بذلك، وإلا سوف تحال القضية إلى توارد الخواطر في أفضل الحالات، أو تصبح أنت متهماً بالتشهير بمن سرق فكرتك أو “اقتبسها”بمعنى مهذب، وقد يرفع ضدك دعوى تشهير ويُدان المسروق بدلاً من السارق. أراك تلمح إلى رواية “الفيل الأزرق”التي تحولت إلى فيلم؟ لن أقول رأيي في هذه الرواية، لكني وجدت فيها تماساً بشكلٍ ما مع روايتي الجسر الأزرق”، المنشورة في طبعتها الأولى قبلها بسنوات وفي أحدث طبعاتها قبلها بأشهر، وشبهة التماس ليس في الاسم فقط، بل أن البطل عندي “الخليل ناجي خليل”متهم بأنه مريض نفسي، فيعتزل الناس لمدة خمس سنوات، ويأتي البطل في “الفيل الأزرق”طبيباً نفسياً يصاب بحالة اكتئاب فيعتزل الناس لمدة “خمس سنوات”أيضا، ليس هذا فقط، ويعيش الحالة نفسها من الهلاوس، بل ماذا تقول في أن بطل روايتى “الجسرالأزرق”يتبنى في عزلته الاختيارية فلسفة تفسير أسماء من قابلهم في حياته وأثروا فيها، من منطلق أن “لكل إنسان من اسمه نصيب”، وهي فلسفة تناسب فنيا شخصية الخليل وحكمته التي اكتسبها من العزلة، وتراها تسير معه في أكثر من فصل في الرواية، وتأثرت بها كذلك رفيقته فى الجسر الأزرق “بثينة”.. ثم يأتي بطل “الفيل الأزرق”ليقحم بشكل فج تفسير بعض الأسماء أيضاً من دون مبرر درامي أو أي بعد فنى تحت أي مسمى.. فبماذا تسمى هذا! لكنه –كما قلت لك القانون المصرى العاجز عن حماية حق المؤلف، بينما يوفر بهذا العجز وأشياء أخرى حماية للصوص الإبداع.. وهى فرصة أطالب فيها البرلمان المصرى الجديد بسن قوانين قادرة بحسم على حماية حقوق الملكية الفكرية، تضمن للمبدع والمبتكر والمخترع فى حقوقه المعنوية والمادية، فيتفرغ لإبداعه، وبهذا، وهذا وحده يمكن لوطننا الغالى مصر، تحقيق القيمة المضافة، التى تحقق بدورها النقلة النوعية المرجوة فى شتى المجالات. أتفق معك وأرجو أن تصل الرسالة إلى البرلمان .. لكن لنعُد إلى “الجراد الأبيض والدلالة الفنية؟ للون..وهل ستستمر اللعبة فى الجزء الثالث؟ أولاً، بدأت وضع ملامح الجزء الثالث، ولن تكون لعنوانه علاقة بالألوان. أما عن “الجراد الأبيض”فليس في الطبيعة وجود لجراد حقيقي أبيض، بل هو رمز إلى طوفان الجراد المجيّش في الغرب الآن، متحفزاً للحظة الانقضاض على وطننا العربي، وما سبق تلك الهجمة المنتظرة من تفكيك وتفتيت وتشريد لأوصال بلادنا، مستخدماً جماعات إرهابية وأفراداً غير وطنيين من بين ظهرانينا، بكل أسف، سواء من دون وعي من هؤلاء المخدوعين، أو بوعيٍ كامل وتواطؤ متعمّد وممنهج. وقد قسمت الرواية إلى قسمين:”المنتظَر”و”يا صاحبي السجن”. ألاحظ فى عنوانى القسمين إيحاءات دينية”إسلامية ومسيحية”؟ “المنتظر”في الثقافة المسيحية كما تعلم هو “المخلص”، وأما “صاحبا السجن”فورد ذكرهما في القرآن الكريم، تحديداً في سورة “يوسف”.. لكن المفارقة في رواية “الجراد الأبيض”أن المنتظر، أو المخلص، هو الخليل بطل الجزء الأول، وهو مسلم مستنير جداً، ولا يظهر إلا في القسم الثاني “يا صاحبي السجن”، ويرى أن خلاص البشرية من هذه الصراعات والشرور هو في فهم “وحدة مصدر وجوهر الديانات”الثلاث، وهو لا يسميها “الأديان”لأنها كلها فروع من أصل واحد، ودين واحد، أرسله إله واحد. ويلتقي في أحداث القسم الثاني من الرواية اثنان يمثلان اليهودية والمسيحية، وفي هذا القسم استشهادات كثيرة من الكتب السماوية الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، تؤكد ما يؤمن به الخليل. هي رواية ذات أبعاد دينية إذن؟ لا.. لا. أنا ضد تصنيف أي عمل أدبي هكذا؛ ففيها أكثر من قصة حب وعشق تسير متوازيةً حتى نهاية الرواية، وفيها قصص بطولة لأناس بسطاء يتحايلون بذكاء على القهر والفقر ليكملوا مسيرة حياتهم، وفيها أيضاً إسقاطات سياسية كثيرة على ما يحدث في العالم من حولنا، وقد استشرفته الرواية منذ سنوات، وفيها استشراف أيضاً لما يحاك لنا الآن بنهار وليس بليل! ونحن مع الأسف غافلون، مشغولون بالصغائر والمصالح الشخصية وتوافه الأمور عن هذا الخطر العظيم الذى يهدد أمتنا وحضارتنا فى وجوده. والرواية سوف تتوقف أحداثها بشكل رمزي عند يوم الاحتلال الأمريكي لبغداد، الذي كان بداية سلسلة من الانهيارات في العالم العربي، وفي انتظار البقية الأكبر والأخطر، إن لم نُفق. ليبدأ الجزء الثالث، أو لنقل الرواية الثالثة، من ذلك التاريخ. تقيم في الإمارات منذ سنوات.. دعني أسألك عن تأثير تلك الفترة من الغربة فنيا في مشروعك الإبداعى؟ تشهد الإمارات الآن طفرة غير مسبوقة في تاريخها في كل المجالات، لا سيما في الفنون والآداب وحركة الترجمة والنشر، وقد أعلن رئيسها الشيخ خليفة بن زايد هذا العام عاماً للقراءة. وفي الحقيقة، ولست وحدي صاحب ذلك الانطباع، أفخر بكوني عربياً وأعيش في هذا البلد في تلك الفترة من الازدهار. وقد وضعت الخطوط العريضة لرواية أستلهم فيها ما مررت به وغيري من المغتربين من تجارب، حيث تنصهر هنا جاليات أكثر من 220جنسية من العالم في نسيج فريد يوحي بعشرات القصص والروايات. لا أستطيع أن أقول إنني أعيش هنا غربة بالمعنى التقليدي، فالحياة هنا لا تعطيك الفرصة لتشعر بذلك، لكني في الوقت نفسه أعيش من دون شك غربة البعد عن بلدي مصر، وقريتي الحبيبة “الأخماس”الرابضة على نهر النيل منذ آلاف السنين كمثيلاتها من قري مصر، وعن أهلي فيها وأولادي، أضف إلى ذلك الغربة التي أعيشها مع ذاتي بصفتي كاتباً لا يؤنسني فيها غير شخوص رواياتى التي تتحرك في مخيلتي طوال الوقت، في انتظار لحظة الميلاد على الورق. هي إذاً غربات بعضها فوق بعض، لكن يمكن أن نضيف إليها نوعاً خاصاً من الغربة التي تأخذك من الكتابة الأدبية، وأقصد بها طاحونة العمل الصحفي، التي إن لم تنتبه إلى تأثيرها فيك، فسوف تفرض عليك حتى أسلوباً اختزالياً في الكتابة، وربما تجعله أسلوباً تقريرياً كما هي حال الكتابة الصحفية، التي يجب أن تقول معلومة ولا تجنح إلى الخيال. ولكن العمل الصحفي له، في الوقت نفسه، فائدة للأديب، فهو يمثل “عرضاً حياً”لشخوص كثيرين يتحركون أمامه ويتصرفون على سجيتهم، وهم لا يدرون أن هناك عين كاتب ترصدهم، وترصّهم فوق رفوف الذاكرة، ليخرجوا بعد ذلك أبطالاً بين دفتي رواية. والجميل في الأمر أن الصحفي الأديب قد لا ينتبه إلى عمليتي الرص والادخار هاتين للشخصيات المتحركة أمامه، على الرغم أنه يمارسها طوال الوقت. كيف تنظر إلى مصر الآن بعين طائر قد يرى الصورة أفضل من بعيد؟ رؤيتي لمصر الآن بعين طائر كما وصفت، فأرى حالة ولادة جديدة، بما في الولادة من آلام ومعاناة، وهي بالمناسبة ليست حالة فريدة ولا جديدة في تاريخ مصر، فمن يقرأ مثلا أجزاء موسوعة “مصر القديمة”لسليم حسن فسيعرف لماذا يسمون مصر “أم الدنيا”، فهذا الاسم لا يعني فحسب أنها قديمة قِدم التاريخ، بل لأنها صهرت معظم - إن لم يكن كل - أجناس وجنسيات الأرض، من غزاة وزوار محبين بألوانهم وثقافاتهم، فكانت “الخلطة”المصرية الفريدة، القادرة على التفاعل مع كل حوادث وأهوال التاريخ. لذا فأنا أؤمن بأن مصر لا خوف عليها من الأمراض التي تملأ جسدها الآن، فنحن شعب “يخترع”مضادات حيوية حضارية نادرة لكل مرض نواجهه.