أيمن عبدالعزيز تخليدا للسيرة المجيدة لباقة زاهرة من المناضلات اللائي ساهمن بجهودهن ونضالاتهن في ثورة التحرر الوطني نحو استقلال الجزائر..."الأهرام العربي" تسترجع أسماء بعض أشهرهن في الذكري ال61 للثورة ..
حينما اندلعت الثورة في الجزائر في فجر الأول نوفمبرعام 1954 لبى نداءها كل الأحرار في الجزائر من اجل المشاركة في التحرر من ويلات الاستعمار الفرنسي الوحشي الذي عانت منه الجزائر منذ عام 1830، فما إن وطأت أرجل الفرنسيين الجزائر حتي بدأت المذابح البربرية ضد الشعب الجزائري لدرجة أن البرلمان الفرنسي عندما أرسل لجنه برلمانيه للجزائر للتحقيق في المذابح التي تجري هناك بشكل مستمر جاء في تقرير هذه اللجنة " لقد قتل جنودنا في الجزائر رجالا يحملون منا وثائق تؤمنهم علي حياتهم وذبحوا سكان قري بأكملها لمجرد الاشتباه فيهم ثم ثبت فيما بعد ذلك أنهم أبرياء ..!!! لقد جاوزنا فى البربرية هؤلاء البرابرة الذين جئنا نعلمهم المدنية ، هذه المذابح لم ترحم أحدا نساءا، أو صغارا، أو كبارا ". ولم تكن المرأة الجزائرية بعيدة في أي وقت عن النضال ضد هذا الاستعمار البربري، ومع ثورة التحرر الوطني عام 1954 برزت أسماء لجميلات جزائريات كثيرات شاركن في هذه الثورة وضحين من أجلها بكل ما يملكن وتحملن من أجلها الكثير حتي صرن رمزا لها، واقترنت الثورة في الجزائر بأسماء الكثير من هؤلاء الجميلات كما اقترنت اسماؤهن بتلك الثورة، وأبرزهن جميلات ثلاث هن :- جميلة بوحيرد ، جميلة بوعزة ،و جميلة بو باشا ،جمعت بين الجميلات الثلاث الرغبة الجامحة في المشاركة في العمل الوطني مع مجاهدي جبهة التحرير، كما بدأن العمل الفدائي في بداية العشرين من العمر ، كما جمع بينهن أيضا وجودهن في حي ( القصبة ) الشهير أشهر أحياء المقاومة في الجزائر العاصمة زهرة بوظريفمع جميلة بوحيرد
من مواليد 1935 من أسرة فقيرة تعيش في حي القصبة دخلت إلي ميدان الجهاد ضد الاستعمار ضمن صفوف جبهة التحرير عن طريق عمها الذي كلفها برعاية وخدمة وإطعام المجاهد ( يوسف السعدي ) قائد العمليات السرية لجيش التحرير في منطقة الجزائر العاصمة وكان هو أكثر المجاهدين المطلوبين في الجزائر العاصمة مما جعلهم يعلنون يوميا عن مكافأة قدرها ( 100,000 ) مائة ألف فرك ثمنا لرأسه وكان يوسف يعتمد بشكل كبير علي جميلة بوحيرد وكلفها بأن تكون ضابط اتصال بينه و بين المجاهدين الاخرين، وكانت من المقربين منه، وكانت بوحيرد تتحرك دائما مع زهرة بوظريف، وحسيبة بن بوعلى.
وفي فجر يوم 9 أبريل 1957 وفي أحد أزقة حى القصبة كان ثلاثة أشخاص يسيرون بسرعه في شارع أبو الهول حينما ظهرت فجأة دورية من الجنود الفرنسيين، وطاردتهم الدورية وأطلقت عليهم الرصاص فتمكن اثنان من الفرار – يعتقد أنهما ( يوسف السعدي – وعلي لابوانت ) أو "علي النقطة" . وسقط الشخص الثالث علي الأرض ولم يكن هذا الشخص الثالث الا جميلة بوحيرد التي أصيبت برصاصة مزقت كتفها وقبض عليها واستمر تعذيبها بشكل وحشي لمدة 17 يوما متواصلا ذاقت خلالها جميلة كل أنواع التعذيب من الضرب المبرح الي الكي بالنار الي الصعق بالكهرباء في الأنف والأذنين وتحت الابطين وأطراف الثديين وداخل الأعضاء التناسلية ..!! وهو ما يسمي بالتعذيب من الدرجة الثانية، وفي أبريل 1957 وبعد 17 يوما من التعذيب المتواصل ليل نهار عرضت بو حيرد علي قاضي التحقيق بتهمة وضع قنبلة في احدي مقاهي الجزائر ادي انفجارها الي مصرع واصابة عدد كبير من المستعمرين الفرنسيين وأنكرت جميلة هذه التهمة، وفي 11 يوليو 1957 قدمت جميلة بوحيرد للمحاكمة ولم يكن لدي الفرنسيين ضدها أي أدلة الا شهادة انتزعت بالقوة وتحت وطأة التعذيب الشديد من مجاهدة أخري هي جميلة بوعزه التي قبض عليها في قضية أخري وباتهام مماثل وبدا من مسلك بوعزه في المحكمة انها فقدت عقلها تماما نتيجة للتعذيب الشديد والمخدرات التي كانت تحقن بها لمدة ثلاثة أشهر متواصلة ورفض القضاة فحص الحالة العقلية للشاهدة جميلة بو عزه رغم عدم صحة وصلاحية شهادتها أمام المحكمة في هذه الحالة من الانهيار العقلي لكنها كانت شاهد الاثبات الوحيد لدي الفرنسيين لادانة جميلة بوحيرد مما اضطر محامو الدفاع عنها الي الانسحاب من المحكمة معترضين علي ذلك وفي 25 يوليو 1957 كان الحكم علي جميلة بو حيرد بالاعدام !!!
ثار العالم ضد هذا الحكم وضد العدالة الفرنسية وأصبحت قضية جميله بوحيرد هي قضية كل الأحرار في كل مكان في العالم ودافع عنها الرأي العام والصحف في كل العالم العربي، والصين، وإندونيسيا، وكوبا. وقدم 76 من النواب العماليون بمجلس العموم البريطاني مذكرة الي " رينيه كوتي " رئيس جمهورية فرنسا يطالبونه باعادة النظر في محاكمة بوحيرد، وطلب عبد الخالق حسونة أمين الجامعة العربية ، والشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر بتدخل داج همرشلد سكرتير عام الأممالمتحدة لوقف تنفيذ حكم الاعدام في جميلة بوحيرد، كما أرسل الجنرال " فوروشيفلوف " رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية يطلب من الرئيس الفرنسي رينيه كوتي اعادة النظر في الحكم علي بوحيرد،كما هددت جبهة التحرير الجزائرية باعدام مئات الأسري الفرنسيين لديها اذا ما تم تنفيذ حكم الاعدام جميلة .
وكتبت الأديبة الوجودية"سيمون دي بوفوار"عن التعذيب الذي تعرضت له جميلة قائلة "حين يرضى حكام بلد ما أن ترتكب الجرائم باسم بلادهم يصبح رعايا هذا البلد تابعين لأمة مجرمة فهل نرضي نحن الفرنسيين أن نكون هذه الأمة "؟؟ وفي 14 مارس 1958 أعلن مجلس القضاء الاعلى الفرنسي بعد اجتماعه مع الرئيس رينيه كوتي تخفيف حكم الاعدام علي جميلة ومجاهديتين اخريين هما جميله بوعزه، و"جاكلين نترجيرودجي" الي السجن المؤبد، وبعد فترة من السجن في معتقل " بارباروس" تم الافراج عن جميلة بوحيرد. وزارت بوحيرد مصر عامي 1962 – 1963 وأستقبلها الزعيم جمال عبد الناصر ورغم كل مالاقته بوحيرد الا انها كانت تؤكد دوما علي أنها لم تقم الا بواجبها مشيرة الي غيرها من المجاهدات اللائي فعلن مثلها وربما فقدن حياتهن في سبيل الواجب، لذلك اختلفت مع محاميها الفرنسي جاك فيرجس -الذي أسلم وكان مناصرا للقضايا العربية – في أسلوب دفاعه عنها عندما أظهرها أمام الضمير العالمي علي أنها رمز للملايين من العرب في كل العصور.
وحينما زارت الصين طلب منها الصحفيون الصينيون الحديث عن بطولاتها أثناء الثورة فأجابتهم أنها ليس لديها ما تقوله وأنها لم تقم الا بواجبها، وعندما قابلت الزعيم الصيني"ماو تسي تونج" في اليوم التالي عاتبها قائلا لها " لقد قرأت كلامك في صحف اليوم واسمحي لي ايتها الرفيقه أن أقول لكي كرفيق درب عجوز أنكي اذا لم تتحدثي عما قمتي به فسيأتي اخرون ليتحدثوا بدلا منكي عما لم يقوموا به" !! وفي عام 1963 انتخبت بوحيرد رئيسة فخرية للاتحاد الوطني النسائي في الجزائر، وتزوجت من المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجس الذي كان قد أسلم وسمي نفسه منصور والذي كلفته جبهة التحرير بالدفاع عن المجاهدين الجزائريين أمام قضاة المحاكم الفرنسية. ومن أشهر ما قالته بوحيرد اثناء المحاكمة " هل من المعقول أن يسأل أحدكم فتاة جزائرية لماذا تؤدي واجبها نحو وطنها، انكم اذ تقتلوننا لا تنسوا أنكم بذلك تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية، و تلطخون شرف بلادكم، ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبدا في منع الجزائر من الحصول علي استقلالها" .
جميلة بو باشا وجميلة بو عزة
جميلة بو عزه :
من مواليد 1943 في حي القصبة بالجزائر العاصمة كانت زميلة لجميلة بوحيرد في نقل الرسائل السرية الي المجاهدين الجزائريين، وبدأ اتصالها بالحركة الوطنية حينما انضمت للإتحاد العمالي الجزائري، وكلفتها جبهة التحرير بأن تكون حلقة اتصال بين أقسامها المختلفة لكنها لم تقنع بهذا الدور، ولم تكتف به وطلبت أن تكون فدائية تحمل السلاح وأجيبت إلى ما طلبت فكانت تقوم بإخفاء القنابل فى صندوق دواء ثم تدخل إلى المكان المحدد وتلقى القنبلة أو تخبئها جيدا أذا كانت قنبلة زمنية.
وفى آخر يوم نشاط لها كفدائية كان هناك حفل كبير أقامه الفرنسيون فى أكبر شوارع العاصمة توجهت جميلة بوعزه إلى هذا الحفل ووضعت حقيبة يدها فى ذراعها والقنبلة فى يدها وجلست على إحدى الموائد ووضعت القنبلة على المائدة ووضعت الحقيبة فوقها وقبل لحظات قليلة من انفجار القنبلة قالت للجرسون أنها ستخرج لشراء شيىء ما وستعود بعد لحظات وما إن خرجت حتي أنفجرت القنبلة مما أوقع بالعديد من المستعمرين الفرنسيين بين قتيل وجريح.
تم القبض عليها و تعذيبها بشدة بنفس الطريقة التى تم بها تعذيب جميلة بوحيرد، وجميله بوباشا أى الصعق بالكهرباء فى كل الاجزاء الحساسة من الجسم، والكى بالنار إضافة إلى إدخال عنق زجاجة بالكامل فى البطن !!!، كما كان المستعمرون يعطونها يوميا حقنة من المورفين لمدة ثلاثة أشهر مما سبب لها انهيار عصبيا كاملا ،وأجبرت تحت وطأة التعذيب على الاعتراف بأن جميله بوحيرد سلمتها القنبلة التى فجرت بها إحدى المقاهى فى الجزائر، ورفضت المحكمة إحالة بو عزه إلى الاختصاصيين بالامراض العقلية لتحديد الحالة العقلية لها رغم أفعالها الغريبة أمام المحكمة وهذيانها غير المفهوم الناتج عن التعذيب الشديد.
نقلت بوعزه من سجن " بارباروس " الرهيب في الجزائر الي سجن " بو" في فرنسا وكانت السلطات الفرنسية تستعد لاجراء محاكمة صورية أخري لها مع جميلة بوباشا لكن بدء مفاوضات "لوجران"،و"ايفيان" ، جعل الأمل يزداد في حل مشكلة الجزائر مما دفع المسئولين الفرنسيين الي الغاء تلك المحاكمة خاصة بعد الاثر الضخم الذي احدثته محاكمة جميلة بوحيرد في ضمير الرأي العام العالمى والفرنسي .
تزوحت جميله بوعزه من المجاهد الجزائري عبود بوصوف وقد تعارف الاثنان بميدان الكفاح المسلح قبل أن تعتقل البطلة عام 1957، وفي عام 1958 التقي الاثنان في أحد سجون فرنسا وتعاهدا علي الزواج واستطاع عبود بوصوف الهرب من السجن وعاد الي صفوف جيش التحرير،وعندما أفرج عن جميلة بوعزه عام 1962 التقي الاثنان في تونس وتزوجا و كان فى استقبال البطلة عند عودتها الي تونس من سجنها في فرنسا أعضاء حكومة الجزائر المؤقتة وعلي رأسهم أحمد بن بيلا. زارت جميله بوعزه القاهرة وقابلت الزعيم جمال عبد الناصر، وكانت تري أن أهداف الثورة في الجزائر لن تتحقق الا بتحقق نظام اشتراكي حقيقي وديمقراطية كاملة.
جميلة بوباشا مع محمد عبدالوهاب فى مصر
جميله بو باشا:
من مواليد 1939 بحي القصبة ، التحقت بكلية الطب لكنها تركتها بسبب القبض عليها بتهمة القاء قنبلة علي مقهي الكليات بالجزائر العاصمة، ورغم أنه لم يعثر علي أي دليل يدينها الا انها فوجئت بعد مضي اكثر من خمسة أشهر بخمسين من رجال المظلات الفرنسيين يحاصرون بيتها واقتحم بعضهم المنزل واعتقلوا كل من بالبيت وعذبوها هي وأبوها وأمها وشقيقها وشقيقتها وزوج شقيقتها، وأثناء القبض عليها لم يتوقف الجنود عن ضربها وركلها بل داسوا عليها بأرجلهم حتي أن أحدهم كسر لها أحد ضلوعها ، واقتادوها الي أحد مراكز التعذيب واستمر تعذيبها لمدة 33 يوما متواصلا بالضرب واطفاء اعقاب السجائر في جسدها، والصعق بالكهرباء فكانوا يضعون أقطاب الكهرباء في فتحتي الأنف والأذن وتحت الابطين وداخل الأعضاء التناسلية وفي احدي المرات تم تجريدها من ملابسها تماما وصعقها بالكهرباء بنفس الكيفية أمام والدها الذي كان يبلغ من العمر سبعون عاما ، كما كانوا يضعوا عنق الزجاجة بالكامل داخل بطنها. وقالت الأديبة الفرنسية فرانسوا ساجان عن التعذيب بهذه الطريقة " إن هذا التعذيب من أبشع ما يتصوره الانسان لفتاة عذراء " ، وكونت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار لجانا من الطلبة والمثقفين الأدباء للدفاع عن جميله بوباشا ، وتطوع عدد من المحاميات الفرنسيات للدفاع عنها ،وأقمن دعاوي قضائية ضد الحكومة الفرنسية وضد البوليس الفرنسي الذي عذبها .
وفي أبريل 1962 صدر فى باريس كتاب من تأليف المحامية الفرنسية" جيزيل حليمي " التي تولت الدفاع عن جميله بوباشا يروي تطورات قضيتها وما انتهت اليه ورسم غلاف هذا الكتاب الفنان العالمي " بيكاسو "، وفي أغسطس 1962 تزوجت بوباشا من الضابط عمار من جيش التحرير الجزائري ، و في سبتمبر من نفس العام عملت كمفتشة اجتماعية في الاتحاد النسائي الجزائري. زارت جميله بوباشا القاهرة وقابلت الزعيم عبد الناصر .
لم تكن هؤلاء الجميلات الثلاث هن فقط كل جميلات الثورة الجزائرية بل كان هناك المئات والمئات ممن شاركن في العمل الثوري وقدمن الكثير من التضحيات لكي تصل الثورة الي اهدافها، ومازال التاريخ يحتفظ فى ذاكرته الخالده بأسماء عديده منها : زهره بوظريف – فطومه فديان – جوهرة عكروت – زهور زيادي- فطومه مجدان – بايه حسين – زاهيه خلف الله – جاكلين قروج – جاكلين نترجيرودجي – حسيبه بن بو علي – ليلي بلحاج – فتيحه – بدرة – نصيره معوشي – مليكه وزمان – جابرييل عياشي – إلييت لوب – فاطمه عثمان ، وغيرهن الكثير والكثير ممن قدمن كل ما أمكنهن لانجاح ثورة الجزائر والتحرر من الاستعمار الفرنسي، ولم تكن تسقط احداهن او يقبض عليها حتي تظهر اخري لتستكمل مسيرة العمل الوطني مما دفع الجنرال" ماسو " قائد سلاح الطيران الفرنسي بالجزائر للقول عن دور المرأة الجزائرية في الثورة" ان هؤلاء الفتيات يمثلن قوة .. انهن الروح الثورية للمقاومة الجزائرية.