محمود الحلوانى أعرف صديقا غلبانا، يكاد يشف ويرف من فرط محبته للشعر والشعراء، غير أن محبة صديقى هذا، هى من تلك الأنواع النادرة من الحب، تلك التى تكون عواقبها دائما سخيفة؛ حيث تمتزج هذه المحبة حسب تصنيف المعجم بشيء من الخجل الضارب إلى الحمرة، حتى لا تستطيع أن تميز بينه وبين لامؤاخذة يعنى لون مؤخرة القرد، كما تكون مشوبة بكثير من العبط الأصلي، الذى يمتد فى الزمن إلى إنسان الكهوف، فى عصور ما قبل الثعالب المكَّارة، والفئران آكلة المحشى! من العواقب التى يجلبها هذا النوع من المحبة على صديقى هذا، ذلك الاحمرار الذى يغطى صدغيه ويشعل عينيه، مصحوبا بحكة، وبرشح دائم من الأنف، وعسر فى الهضم، وارتعاش بمعصم اليد اليمنى، وعرج خفيف بالقدم اليسرى، وتصلب فى مجارى اليافوخ، وسكتة تكاد تلجم الروح وتشلها! من الآخر كده، صديقى هذا يكاد يطرشق من جنابه من فرط محبته للشعر والشعراء، دون أن يجرؤ على فتح فمه، بعب هنا، أو بكارثة هناك، خاصة وقد ابتلاه الله بمحبة نوع من البشر يخطرون فى مشيتهم المجنحة كما تخطر الطواويس والفراشات، آكلة الهواء، والطيور التى على رأسها ريشة، دون سبب منطقي! صديقى هذا وأعوذ بالله من كلمة صديقى هذا يعتبر نفسه شخصا عاديا، من غمار الناس كما يقولون يقرأ قليلا، وينام كثيرا، ومع ذلك فقد وهبه الله لسانًا حلوا كما وصفه أحد أئمة الشعر الكبار وذائقةً شعرية شهد له بها كل من مر أمام أتيليه القاهرة أو حضر ندوة بالمصادفة فى معرض الكتاب، أو شرب ليموناده على كافتيريا المجلس الأعلى.. الأمر الذى حشره حشرا فى زمرة النقاد، ودفعه دفعا ليكتب عن هذا، ويتكلم عن ذاك، هنا أو هناك، فكانت تلك سقطته التراجيدية، وطامته الكبرى؛ حيث بدأت تنهال عليه الدواوين الشعرية من كل حدب وصوب، وأحيانا من كل صوب وحدب، ليعمل فيها مبضعه النقدي، خاصة وقد خلا السوق إلا من نفر قليل، هم أيضا على باب الله، لا يقيمون رمق حركة أدبية، نمت واتسعت وتمددت وانتشرت وتغولت وتوغلت، دون رقيب أو حسيب، أو ضمير نقدي، فبدت كجبل متحرك من عهن منفوش، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وانفتح هاويس الشعر على مصاريعه، حتى حارت إمارة الشعر ولم تعد تعرف أين تضع تاجها، أو أين تضع بيضها، الذى اختلط فيه القليل الناضج، بالكثير الفاسد والممشش، كما حار صديقى هذا، وأصابته دوخة عظيمة من أثر ذلك السيل العرم من الدواوين الشعرية التى أعطت قفاها لكل ما يعرفه الشعر عن نفسه، ولكل ما يعرفه صديقى عن الشعر، بينما يطالبه أصحابها بالحديث عنها بوصفها شعرا عبقريا: يقولون إنه الشعر الجديد، وتقول هيئة قصور الثقافة وهيئة الكتاب، والمجلس الأعلى ودور النشر الخاصة: دعه يكتب، دعه يمر، الحمد لله فحالنا أحسن من سوريا والعراق وليبيا واليمن الذى لم يعد سعيدا، دع الملك للمالك.. ويقول ناقد على المنصة من بتوع كله ماشى، وانت ما تدراشى يا جدع: إن الشاعر يكتب اليومى والعادى والمعيش.. ويقول تارة أخرى، فى سياق مختلف : إن الشاعر ينزع إلى تفكيك كل البنيات القائمة والمحتملة، ويقدم شعرية جديدة تنتمى إلى ما بعد الحداثة العليا، أو لعلها ما بعد الحداثة المتأخرة، أو ما فوق بعد الحداثة، لم أعد أذكر، تلك المدرسة التى قال الناقد إنها أعطت قفاها لكل نظام، وأدارت ظهرها لأى معنى، وأغلقت مؤخرتها أمام أى محاولة للتفاعل مع النص، كرد فعل انشطارى لسيولة العالم وتفسخه المبدئى، ويقول الشعراء كلاما لا تعرف له مجالا من خيال، كما لا ترى فيه يوميا أو عاديا، أو معيشيا حتى، لا ترى غير لعثمة شخص طيب مر بالمصادفة أمام جماعة يتكلمون فأعجبته اللعبة، فجلس بينهم أربعين يوما حتى صار منهم، ثم لم يكتف بذلك، ولم يرض لنفسه بدور الضيف فراح يقرض الشعر كفأر حقيقي، ثم لم يكتف بذلك فراح يجرب، ولما رأى الناقد منشكحا، باصما بالعشرة أنه حسن، أمعن فى التجريب، مستفيدا من واحدة من نعم الله علينا وهى أن جعل الكلام ببلاش، والفيوضات الإبداعية معفاة من الجمارك، ولما وجد الثقافة سداح مداح، واسما على غير مسمى، حراسها باعوها منذ زمن طويل وقبضوا الثمن، مضى صاحبنا فى طريقه يحصد الجوائز، وتتصدر أعماله قوائم النشر فى كبريات الدور العامة والخاصة، وأصدقاؤه فى الإعلام يدلعونه، ولما كان كل ذلك، كذلك وقف مناديا بأعلى صوته أنا الشاعر، والشاعر أنا! قلت لصديقى الذى يكاد يطرشق من فرط محبته للشعراء: لا تقل ولا تكتب شيئا وهذا أضعف الإيمان، وإن اعترض طريقك شاعر من إياهم، فقل له: البينة على من ادعى! هز صديقى رأسه دون أن ينطق بكلمة، غير أننى لمحت احمرارا فى وجهه وعينيه، مصحوبا بحكة وبرشح من الأنف، وارتعاش فى معصم اليد اليمنى، وعرج فى القدم اليسرى، و.... فخمنت أنه لن يشفى أبدا، وأنه ربما يكون قد تأخر عن موعده لمناقشة شاعر من إياهم!