"دائمًا هذا هو الحال، يزدهر الأدب خارج الدولة، تتحمس له وترعاه مؤسسات خاصة وجمعيات مجتمع مدني، فالدولة لا تنتج رواية ولا قصيدة ولا لوحة تشكيلية". هكذا بدأت الشاعرة والروائية والباحثة د.سهير المصادفة حديثها مع "بوابة الأهرام".. وتقول صاحبة "لهة الأبالسة" و"هجوم وديع" و"فتاة تجرب حتفها" وغيرها من الأعمال: دور الدولة، كما أرى، هو بناء البنية الأساسية لفضاءات تُلقى فيها القصائد وتُعلق في ممراتها اللوحات التشكيلية، دور الدولة بوزاراتها المختلفة دعم الفنون والآداب المختلفة بعد وجودها. لقد آن الأوان، تقول د.سهير المصادفة، أن تقوم الدولة بدورها، فليس مطلوبًا مثلاً أن تقيم أمسية شعرية لا يحضرها إلا الموظفون، وإنما عليها فتح أبواب قاعاتها الفاخرة لمَن يجيد تنظيم هذه الأمسية، بل محاولة بناء أكثر من مكان في أقاليم مصر المختلفة ليشهد فعاليات ثقافية ومسرحية وشعرية مختلفة. عليها فتح قصور الثقافة وبيوتها أمام الجميع وتنشيطها وتأمينها، عليها توفير شاشات سينما ولو في ساحات القرى، وليس عليها إنتاج فيلم سينمائي. على وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي المساهمة بشراء كتب المبدعين والشعراء المعاصرين وتدريسها بدلاً من الأبيات الشعرية التي لم تتبدل في المناهج منذ قرون، وبدلاً من المقاطع السردية القديمة التي نفرت أجيالاً من اللغة العربية. على مكتبات المدارس أن تكون موجودة بالفعل وأن تعود حصة القراءة الحرة وأن تكون عليها درجات نجاح ورسوب. نعم دور الدولة بهذا الشكل غائب، تقول د.سهير المصادفة، لكن ليس دورها تنظيم أمسية، فهذا هو دور الشعراء والناشطين الثقافيين في الأساس. وحول مدى انفتاحها كتابة وقراءة على "قصيدة النثر"، وأبرز المؤثرات التي تغلغلت في نسيج هذا اللون الأدبي السائد حاليًا، تقول د.سهير المصادفة: ليست الأجناس الأدبية فقط التي أثرت في قصيدة النثر، وإنما أيضًا الفن التشكيلي وألوان الموسيقى الجديدة، وسخونة اللحظات الثورية في تاريخ الشعوب العربية. هذا كله، وغيره، أثر في قصيدة النثر. فهي مثل كل الأجناس الأدبية الأخرى، كائن حي يتغير ويتأثر بالأشياء التي يتفاعل معها وينفعل بوجودها. قصيدة النثر مرت في الآونة الأخيرة بتحدّ أظن أنه الأكبر، وهو التراكم النوعي والكمي غير المسبوق للرواية العربية بتنوعاتها المدرسية والجغرافية المختلفة وموسوعيتها المعرفية وشعريتها فوق ذلك في بعض الأحيان. الرواية أخذت مكانة الأكثر قراءة ومحبة من جمهور القراء، وأصبحت قصيدة النثر في العراء. فهي من ناحية تتكئ على كونها شعرًا، تضيف د.سهير المصادفة، أي أنها تمثل ذروة الهرم الأدبي. ومن ناحية أخرى لا تقبل فكرة أن يلوذ جمهور القراء بالرواية غير عابئين بها، هي التي كانت فاكهة القراء والمستمعين من عقدين فقط من الزمان. والفكرة هي ليست في السباق من أجل الحصول على الجمهور، وإنما سباق قيمي وتخوف مشروع أن تكون القيمة الفنية للرواية أعلى. أما عن معايير تذوق وتقنين هذه القصيدة، فتقول د.سهير المصادفة: لا توجد معايير أو مقاييس بالفعل، فالشعر كان وسيظل دائمًا جيده قليل، فنحن نكاد لا نتذكر من الشعر الجاهلي سوى عدد من الشعراء يمكن عدّه على أصابع اليدين، فهل كان هؤلاء فقط هم الشعراء في أمة الشعر التي يحيي بها العامة بعضهم البعض شعرًا؟ المعيار الوحيد للشعر هو نفسه، أي أننا نعرفه فقط عندما نستمع له أو نقرؤه، ولذلك يقول الشاعر نجيب سرور التعريف الأمثل للشعر: "الشعر مش بس شعر لو كان مقفى وفصيح.. الشعر لو هز قلبك وقلبي شعر بصحيح". إذن سيظل أمر الشعر بالذات هكذا: القليل من الشعراء. والمؤلم أيضًا أنه سيبقى القليل من شعرهم خالدًا. ثم الكثير من المتشاعرين، والذين لن يتبقى منهم أيّ شيء. وتقول الأعراب ولديها حق: "الشعر صعبٌ وطويل سلمه". وهذا منطقي فهو ذروة الآداب وطاووسها. وحول ما إذا كانت قصيدة النثر العربية قادرة على إفراز شاعر بحجم محمود درويش مثلا، تقول د.سهير المصادفة: محمود درويش شاعر كبير بحق، لكنه أيضًا لحظة زمانية ومكانية شديدة الخصوصية، وبالإضافة لكونه حالة خاصة، فلقد كان شديد الذكاء ومنتبهًا لكل ما قد يقوض مسيرته الشعرية، ولذا هتف ذات يوم: "ارحمونا من محبتكم القاسية". فلقد كانت هذه المحبة لفلسطين وقضية العرب المصيرية تلقي هالة على كل ما يتفوه به محمود درويش، وتخلط ما بين محبة كلماته ومحبة القدس. كان درويش الأكثر شهرة وجماهيرية وكان أوّل مَن قرأت من الشعراء المعاصرين، وكنت أكاد أذوب إعجابا وأنا أستمع لشريط كاسيت مسجل بصوته لقصيدته: سجل أنا عربي. وكبرتُ وحاولت بعد سنوات ترجمة هذه القصيدة إلى اللغة الروسية، فصارت خارج الشعر، فما هو الشعر في: "سجل أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألف. وأطفالي ثمانية، وتاسعهم سيأتي بعد صيف"؟ محمود درويش، تقول د.سهير المصادفة، بدأت قصائده عندما انتبه لهذه المحبة القاسية فكتب في وقت متأخر: لماذا تركت الحصان وحيدًا، والجدارية. لكن يظل السؤال وجيهًا أيضًا برغم خصوصية درويش، لماذا لم تنتج قصيدة النثر شاعرًا كبيرًا؟ وهذا غير حقيقي. ثمة الكثير من الأصوات الشعرية الكبيرة والعالمية، تقول د.سهير المصادفة، وعلى رأسها الشاعر الكبير أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وسعدي يوسف، لكن يبدو الحديث هنا ليس عن مدى شاعرية هؤلاء الشعراء، وإنما عن جماهيريتهم، ولا توجد لدي سوى إجابة واحدة لعل نموذجها الأمثل ما يلاقيه شعراء مصر تحديدا من استنزاف قواهم في الدفاع عن قصيدة النثر ومن تعتيم عليها، فلقد عانى الشعراء المصريون وما زالوا يعانون من ظلم فادح. لمزيد من التفاصيل إقرأ أيضًا :