محمد عيسى منذ أكثر من 80 عامًا مرت على ظهور حركة الإخوان المسلمين، وما سبقها وتلاها من ظهور حركات وتيارات إسلامية وجهادية، وهذا التنظيمات تنتظر اليوم الذى تصل فيه إلى كرسى السلطة، لتطبق أفكارها التى ترى أنها طريق العدالة الاجتماعية وصلاح المجتمع بأسره. وروجت تلك التيارات لأفكارها النظرية باسم الدين، لتنال بذلك شعبية فى مجتمع متدين بطبعه، يتحمل الصعاب، طالما أن ذلك يتوافق مع صحيح دينه.. وإذا كان فى الدين الإسلامى من القواعد والأفكار والنظريات ما يصلح العالم بأسره، فإن وصول الإسلاميين للحكم بعد ثورة 25 يناير، كشف فشلهم فى ترجمة أفكارهم النظرية التى طرحوها طوال العقود السابقة التى مرت على نشأتهم. برغم نجاح التيار الإسلامى فى الوصول للحكم، بعد ثورة 25 يناير، فإنه فشل فى إيجاد نموذج تطبيقى يوفق بين الإسلام من ناحية، ومبادئ الديمقراطية والليبرالية من ناحية أخرى. هذا ما توضحه دراسة بحثية بعنوان" تجربة الإسلاميين فى حكم مصر.. الانكشاف الفكرى والتنظيمى" أعدها الدكتور محمد فايز، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ورئيس برنامج الدراسات الآسيوية بالمركز، ويؤكد فى دراسته، أنها تتعامل مع الإسلاميين ككتلة واحدة، ولا تميز كثيرا بين جماعة الإخوان المسلمين وجناح من السلفيين، أو بقايا التنظيمات الدينية الجهادية العنيفة، والسبب وراء ذلك أن كل هذه التنظيمات كانت تتعامل كمعسكر واحد تقريبا، عندما تعلق الأمر بالمنافسة والصراع مع التيارات السياسية الأخرى على السلطة. كما تركز الدراسة على اختلالين أساسيين، وهما ما يمكن وصفه بتديين السياسية، والثانى تجذر العنف فى أيديولوجيا التيار الإسلامى. تديين السياسة بداية انطلق الإخوان المسلمين وحلفاؤهم داخل التيار الإسلامى، من السلفيين وغيرهم، من توصيف دينى للسياسة وللصراعات والمنافسات السياسية فى مصر بعد ثورة 25 يناير، والمرحلة التى تلتها ونجاح مرشح جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسى، فى الوصول إلى منصب الرئاسة. واعتبر التيار الإسلامى هذا النجاح على حد قول الباحث – النتيجة ، "الموعودة" للصراع "الطبيعى"بين الإسلام وغيره من الأيديولوجيات السياسية الأخرى (العلمانية والليبرالية والشيوعية) وقد تعمق هذا الفهم لدى الإسلاميين بسبب محموعة من العوامل منها، الخبرة الصراعية التاريخية بين الإسلاميين والنظم السياسية السابقة، حيث أدت خبرة الصراع مع أنظمة عبدالناصر والسادات ومبارك، إلى تحويل الصراع السياسى فى مصر منذ ثورة 1952، وحتى ثورة 25 يناير 2011، إلى أنه صراع يجىء بالأساس بين الإسلام وغيره من الأيديولوجيات السياسية. وبرغم أن جماعة الإخوان المسلمين، كان يتم تصنيفها ضمن الحركات الإسلامية، ذات الطابع السياسى - كما يقول دكتور فايز - فإنها من ناحية ظلت ترتكز إلى محورية مفهوم " الجماعة" فى مواجهة الدولة والمجتمع. ومن أبرز مظاهر مركزية مفهوم الجماعة والحفاظ على ما يمكن تسميته ب"النقاء الإخوانى"ما التقطه دكتور فايز من حديث لصبحى صالح، أحد قياديى جماعة الإخوان، انتقد فيه ظاهرة زواج شباب الجماعة من خارج ، فتيات الأخوات المسلمات، وقال إن الزواج من داخل الجماعة أحد الشروط الضرورية لضمان انتماء الأجيال التالية إلى الجماعة. استفتاء على الشريعة ويكشف الدكتور محمد فايز فى بحثه جانبا آخر من جوانب تدين المنافسة السياسية، وكان ذلك خلال الاستحقاقات الانتخابية فى الفترة من فبراير 2011 وحتى يونيو 2013، حيث استتبع كل ذلك تدين للسلوك الانتخابى للمواطنين خلال هذه الاستحقاقات الانتخابية، كما صاغ الإسلاميون بجميع أحزابهم، الاستفتاء على دستور 1972، على أنه استفتاء على الشريعة الإسلامية، والتصويت بنعم تصويت لصالح الشريعة الإسلامية والحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر. وبعد ظهور النتيجة، حرص الإسلاميون على تصوير نتيجة الاستفتاء التى جاءت بالموافقة، على أنها نصر لصالح الشريعة الإسلامية، والمثال الأبرز فى ذلك، وصف الشيخ محمد حسين يعقوب أحد أبرز رموز التيار السلفى هذا الاستفتاء ونتيجته ب"غزوة الصناديق" وانتصار الدين فى تلك الغزوة، والأخطر من ذلك مطالبته لمن لا تعجبه نتيجة الاستفتاء بترك البلاد والهجرة إلى أمريكا أو كندا. وأدى هذا التكييف الدينى للعملية السياسية، إلى عدم قبول الجماعات الإسلامية وأحزابها بفكرة تقديم أى تنازلات للأحزاب الليبرالية بشأن القضايا موضوع الخلاف أو الصراع بين التيارين، وبدا القبول بمبدأ الحلول الوسط، أقرب من وجهة نظر هذه الجماعات إلى فكرة تقديم التنازلات الدينية غير المقبولة -كما أشار دكتور فايز فى دراسته، ويرى أن سيطرة الإسلاميين على المساجد ساعدتهم على تديين العملية السياسية، حيث تحولت خطب صلوات الجمعة والدروس اليومية داخل المساجد إلى ما يشبه المحاضرات السياسية، أو فى الحقيقة كانت عمليات تلقين وتعبئة سياسية للجماهير ضد مواقف التيار الليبرالى. ميليشيات الأزهر أما من ناحية انتهاج هذه التنظيمات للعنف، فقد درجت العديد من الدراسات المعنية بالحركات الإسلامية، على تمييز جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها فئة إسلامية ذات طابع سياسى اجتماعى، وذلك بناء على ممارسات الجماعة، خصوصا خلال الفترة من 1984 وحتى 2011، حيث شهدت تلك الفترة تركيزًا واضحا للجماعة فى المشاركة فى الحياة السياسية، باستثناء ما أثير حول ما عرف إعلاميا ب"ميليشيات الأزهر" عندما قام عشرات الطلاب من أعضاء الجماعة فى ديسمبر 2006 بالتظاهر بملابس الميليشيات شبه العسكرية واستعراض قدراتهم العسكرية أمام مبنى رئيس الجامعة. وظلت هذه الحادثة أقرب للاستثناء فى مجال علاقة الجماعة بالعنف خلال الفترة من الثمانينيات وحتى ثورة يناير 2011. المراجعات الفكرية على الجانب الآخر، كانت عملية المراجعات الفكرية التى بدأتها الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد قد حققت استقرارا كبيرا خصوصا منذ إعلان الجماعة الإسلامية مبادرتها لوقف العنف فى يونيو 1997. وبعد مرور نحو 10 سنوات على مبادرة الجماعة الإسلامية لوقف العنف، بدأ تنظيم الجهاد الإسلامى مراجعته الفكرية بقيادة زعيمه الأبرز الدكتور سيد إمام عبد العزيز الشريف، ففى نوفمبر 2007 وأثناء وجوده فى السجن بدأ إمام فى نشر وثيقة شديدة الأهمية تحت عنوان "وثيقة ترشيد العمل الجهادى فى مصر والعالم"، راجع فيها جميع أفكاره، وكان من أهم ما أعاد إمام النظر فيه، هو شروط الجهاد، حيث طرح شروطا عديدة لممارسة فريضة الجهاد، كان أبرزها توافر القدرة البدنية والمادية وموافقة ولى الأمر، وألا يكون عليه دين، أو إذا كان الخروج للجهاد فيه هلاك للمسلمين فلا يجوز، كما رفض إمام فى وثيقته السطو على أموال من وصفتهم الوثيقة بالكفار، كما نهى إمام عن الخروج على الحكام فى بلاد المسلمين إلا إذا توافرت القدرة على ذلك، حتى ولو كان الحاكم كافرًا كفرًا صريحًا، أو حتى لو كان الهدف هو تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ يجب الموازنة بين المفاسد والمصالح والمكاسب والخسائر الناتجة عن تلك المواجهة، إذا غلب الظن عدم نجاح القدرة على التغيير، لا يجوز الخروج على الحاكم. ورأى إمام أن الجهاد ليس هو الخيار الشرعى الوحيد فى هذه الحالة، فهناك خيارات أخرى مثل الدعوة والهجرة والعزلة والعفو والصبر. كما حرم إمام الاعتداء على السياح والأجانب فى بلاد المسلمين وحرم القتل على أساس الجنسية. وثيقة الشريف وبشكل عام يرى الدكتور محمد فايز فى دراسته، أن تلك المراجعات فتحت المجال أمام اتساع كتلة الحركات الإسلامية غير العنيفة فى مصر لتشمل الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية وبقايا تنظيم الجهاد وجماعات التلبيغ والدعوة والحركات السلفية التقليدية بمختلف أجنحتها. وكان من المفترض فى ظل تلك التحولات أن يقدم الإسلاميون تجربة فى الحكم تكرس التوافق بين الإسلام السياسى والعمل السياسى السلمى، بجانب التوافق مع الديمقراطية وقيم التعايش السلمى، خصوصا بعد التحولات المهمة التى شهدها التيار السلفى. هيمنة القطبيين وفيما يخص الإخوان المسلمين، فقد شهدت الجماعة تحولات مهمة بدءا من منتصف عام 2009، وكان أبرزها صعود الجناح القطبى داخل الجماعة وسيطرته على أجهزة صنع القرار، وبدأ ذلك التحول فى إبريل 2009، عندما أعلن مرشد الجماعة فى ذلك الوقت محمد مهدى عاكف، أنه لن يرشح نفسه لفترة جديدة لمنصب المرشد العام. وبعيدا عن تفاصيل ذلك الصعود فإن التأثير الأهم ليسطرة الجناح القطبى وعلى رأسه خيرت الشاطر، هو قيادة الجماعة فى اتجاه التحالف مع جماعات اليمين الدينى المتشدد، واتخاذها مسافات بعيدة عن التيارات السياسية الليبرالية المدنية، فى الوقت الذى كان من المنطقى أن تكون أقرب إلى تلك التيارات والأحزاب، لكن ما حدث هو العكس، حيث دخلت الجماعة عقب ثورة 25 يناير ووصولها إلى السلطة فى علاقة تعاون مع التنظيمات الدينية. وظهرت النزعة إلى الهيمنة على القوائم الانتخابية لدى الجماعة وحزبها، وتم إقصاء الأحزاب الأخرى، باستثناء عدد قليل من الأحزاب الصغيرة. كما نتجت عن سيطرة الجناح القطبى على جماعة الإخوان، علاقة ملتبسة بين الجماعة وحزبها السياسى "الحرية والعدالة" حيث كان من المفترض أنه بعد تأسيس هذا الحزب القيام بفك الجماعة، لكنها وتحت تأثير جيل الشيوخ والجناح القطبى تمسكت بفكرة ثنائية "الجماعة- الحزب" وهو ما أوقع الجماعة فى إشكالية عدم وضوح العلاقة بين الإطارين. تبنى العنف إضافة إلى التأثيرات السابقة لهيمنة الجناح القطبى على الجماعة، فقد كانت تلك السيطرة عاملا رئيسيا فى تحول الجماعة إلى تبنى خطاب وسلوك عنيفين، وضح جليا فى مرحلة الاستقطاب بين الإسلاميين وغيرهم. وبعد نجاح ثورة 30 يونيو وعزل محمد مرسى من الرئاسة، صدرت تصريحات ومواقف عن قيادات ورموز الجماعة، أثارت تساؤلا حول علاقة الجماعة بفكر العنف. وقد كشفت فترة اعتصام رابعة عن التوجهات الكامنة لدى الجماعة وحلفائها وتحدى سلطة الدولة، كان أبرزها تصريحات محمد البلتاجى بأنه "لا سلمية بعد اليوم" ومطالبة الجيش بالرحيل من شمال سيناء، وكانت لهذا التصريح دلالاته المهمة ليس فقط فيما يتعلق باستعداد الجماعة لتوسيع نطاق عملياتها فى شمال سيناء، وإنما للاستفادة بعلاقاتها بالتنظيمات الدينية المتشددة فى قطاع غزة، فضلا عن التعبئة فى تجاه حالة جهادية ضد الدولة والجيش والكنيسة والأقباط. وأمام هذا التحول والتصرفات السلوكية للجماعة يقول دكتور محمد فايز، إن كل ذلك دعم فرضية احتمال تحول الجماعة إلى العنف. كما أنه حتى الآن لم تحدث داخل الجماعة أية مراجعات لمواقفها وأفكارها. وفى خاتمة البحث قال الدكتور فايز، إن هذه الدراسة، وفى حدود ما تمت معالجته، تكشف عمق الاختلالات الفكرية والتنظيمة التى تعانى منها جماعات الإسلام السياسى، والتى سرعان ما تكشفت خلال فترة حكم الإخوان المسلمين وحلفائهم من التيار الإسلامى، والتى كانت العامل الرئيسى وراء سرعة انهيار هذا الحكم. وبشكل عام كشفت هذه التجربة عن عجز إسلاميى مصر عن تحويل شعاراتهم وأفكارهم التى طالما طرحوها وروجوا لها خلال عدة عقود، إلى واقع تطبيقى.