ماجدة سليمان يا لتعاسة قدري ويا لتعاستي .. فأنا اليوم أكتب عنك بعد رحيلك.. أحاول أن أرصد بعض الذكريات ..أحلاها وأشقاها، بينما أنا مضطرة بمنع نفسي من البكاء والتعبير عما يجيش بداخلي من ألم وحسرة على فراقك، فابنك الصغير بلال ذو الخمسة أعوام يلهو حولي، يملأ الدنيا مرحا ولعبا مع صديقته الغالية ابنتي علياء. هو لا يعلم شيئا عن رحيلك ولذا فعلي أن أتعلم كيف أواري سوءتك وحدي .. حتي آخر سطر في هذه الكلمات أنسجها لك وحدك، لأصنع لك ثوبا أعلم جيدا أنك تستحقين أفضل منه. .. شيماء صبري الصباغ ذات الاثنين وثلاثين ربيعا، أتمتهم في الأسبوع الأول من يناير .. أي قبل عيد الثورة ورحيلها بأسبوعين. هي شيماء التي لم تكن تحتفل بمولدها ولا حتي بمولد ابنها بلال، فهي دائما مؤهلة للانشغال بقضايا أكثر تعقيدا. هي شيماء شاعرة العامية .. باحثة الفلكلور، صاحبة ديوان "علي ضهر التذكرة" كانت قد جمعت فيه أبيات شعر العامية التي كتبتها علي ظهر تذاكر السفر أثناء رحلات ذهابها وعودتها من وإلي الإسكندرية خلال فترة دراستها لدبلومة الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بعد أن قررت تعديل مسار دراستها وترك السياحة والفنادق ودراسة فلكلور التراث الشعبي. هي شيماء التي لم تخرج لنا شعرا إلا وهي وسط الزحام معجونة بعجين الناس وملامحهم، شقاؤهم، أحلامهم، تطلعاتهم. هي باحثة الفلكلور الجميلة صاحبة الملامح الشقية والملائكية فى آن واحد، لا تراها وحدها أبدا، هي دائما بصحبة زملاء، رفاق، كتاب، شعراء، فنانين، عمال، صعاليك الوسط الثقافي. هي ابنة الشارع والمقهي .. تعرف كل من يجلسون علي الكراسي دون استثاء هي تري عن يقين أن معرفتهم حق إنساني وأمانة مهنية ..ربما يسألها عنها الرب. عمال مقاهي وسط البلد بالإسكندرية بالطبع يعرفونها جيدا، وهي تعرف كل واحد فيهم ..إذا دخلت المقهي "تروبيكانا ، الوطنية، التجارية، صيام، رجب، البوابين، علبة، الكريستال" تلقي السلام علي العمال ..فيرد العامل بابتسامة واسعة .. لو كنا صباحا "شاي بحليب سكر برة" .. ولو كنا بالمساء .. سكتو سادة حليب "لأم بلال. في الشارع والمقهي فقط تشعر شيماء بأنها حرة طليقة غير ذلك فهي أسيرة ..أسيرة المجتمع والأسرة المحافظة ولطالما أعلنت الحرب عليهم ورفضهم، واجهتهم علي استحياء أحيانا وبكل شراسة فى أحيان أخري. هي نموذج للفتاة المتمردة الباحثة عن الحرية والخلاص بكل ما تعنيه الكلمة ..تمردت علي واقع أسرتها الريفي الأصول والرافض لكونها غير محجبة والمتبرجة بالأحري فى تعبيراتهم. كانت ترفض كل قيم المجتمع الأصولية ..ولكي تحصل علي قسط من هذه الحرية رأت فى الزواج بأحد أفراد الوسط الثقافي هو خلاصها. حاولت الخروج من القفص ولكن هيهات، فقد اكتشفت أن تحديات الواقع أكبر وأن زيف الحرية المربوطة بورقة زواج والمقرونة بطفل صغير أكبر مما تحتمل. وكان عليها الاختيار فالزوج الفنان التشكيلي بدرجة معيد بكلية الفنون الجميلة بإحساسه المرهف الجميل وإنسانيته يقرر الانسحاب من المعركة، فينزوي بالبيت مصابا بالاكتئاب وحتي عمله بالجامعة يتركه ..ولكنها تختار بجسارة الصمود .. فعودتها لأسرتها وتقاليدها الرجعية سيجبرها علي الزواج بأحد أفراد العائلة للمحافظة علي الشكل العام .. حيث العرف أقوي من إرادة شيماء. فتختار استكمال المشوار وتحمل مسئولية بلال وحدها .. ولكن شيماء لن تبقي داخل القفص .. وها هو الحل العبقري الذي أبدعته بذكائها الفطري للخروج من المأزق فى التعبير وبعنق وحدة وقوة. تجدها تصرخ فى وجه كل البشر وتفضح العيوب أمام أصحابها بشراسة ..وتدافع عن عالم مثالي قهرها وقهر زوجها الفنان. مع ثورة 25 يناير لم تترك شيما شارعا لم تمش فيه ..لقد عرفت الطرق أخيرا وتبدأ نسج رواية أنا حرة من جديد الهتاف والصراخ فى الشوارع، وبلال ابنها كان بالكاد قد تجاوز العام ببضعة شهور .. تلتقط صورا بكاميرتها وتضعها علي موقع "الكالت نت" بالقرية الذكية .. فى الوقت الذي انقطع فيه الإنترنت عن مصر كلها .. ويأتي القرار بفصلها..تحت زعم أنها استخدمت الموقع والكاميرا فى غير أغراض العمل لترد عليهم بكل جسارة "خلاص اعتبروا الصور دي فلكلور...تراث شعبي". هي شيماء المتمردة التي حولت فرحها إلي ساحة هتاف ضد السلطة والنظام برغم أن مجيئه قبل الثورة بعدة أعوام ..فنجدها تغني أغنية وطنية ونشيد بلادي بلادي ..وتهتف يسقط يسقط حسني مبارك. هي شيماء التي كانت تملأ الدنيا صخبا وضجيجا ..هي التي لا تهدأ أبدا حتي تحقق كل ما تتمناه. أقسم لك بأنك لو جئت يوما جالسا منكمشا وحزينا وحيدا .. بدون سابق معرفة هتيجي تطبطب عليك وتقولك"مالك يا ضنايا.. عديها ياعم، اللي قبلينا أخدوا إيه" وترميك بمثل شعبي مما دونته وتعلمته فى رحلتها وع التراث.."قال يا بخت ليه لبخت .. قال هتسكت ولا أنزل حبتين لتحت". هي شيماء الجميلة التي تروي لك ذكريات مرعبة وهي مبتسمة ..فأول عريس لشيماء كان زبالاً ..ولما تقولها إيه من الصدمة .. تقولك آه والله ..وتحكي "أصل أنا كنت بنضف الشقة مع واحدة قريبتي .. وكنت رابطة إيشارب معفن ..ولابسة جلابية أعفن يعني شبه الخدامين بالظبط ..وكان جاي ياخد الزبالة ولما شافني ضحك قوي وتاني يوم جه يطلب إيد الخدامة شيماء ..أنا بقي قعدت أتكلم معاه وأهزر ..وبعدين إديته علي قفاه ومشيته". هي دي روح شيماء المشاغبة العفوية المناكفة الجميلة ..هي صاحبة مقولة "البقسماط الدولي " لما تسمع حاجة مش عجباها ولما حد يوافقها فى الرأي ترد علي طول .. "أهه لا من ديني ولا من دينك". هي اللي كانت بتحضن كل الناس باعتاها مصر وليس كونها شيماء هي اللي كانت بتسيح لكل البشر، ما تعرفش تسكت أبدا هي اللي كتبت عن أبيها وجدتها لما وحشوها .." «وحشتنى لمتنا» والقاعدة قدام البابور "وأزأزة اللب السورى" والنم على العيلة، وتحمير البطاطس بدل حسارة الجاز على الفاضى، وبراد شاى ورا براد شاى. وستى الجميلة، كانت تعمل شالها غطا لكل العيال اللى ناموا. وتهش بإيدها الناموس . وأبويا ضحكته تملأ الأوضة، بكلمتين مالهمش ثالث، "هرش نسوان" كانت الضحكة ليها رنة، وبتصاحب دمعة، من كتر القهقهة. ماكنتش طفلة مرفهة، بس كانت ضحكتى أوسع من بحر الظلمات. سلاما عليكم، يا من رحلتم، سلاما طيبا، وجميلا. لقد قتلت جرأتك وشجاعتك الزائدتين وإخلاصك الشديد ..ببساطة يا شيماء يا وجه القمر ..فنحن نعيش فى مجتمع لا يعي ولا يدرك ولا يتقبل النقد. فنحن نعيش فى دولة وتحت ظل نظام ومجتمع لم يكتمل نضجهما بعد هما لا يقدران علي مواجهة الشرفاء. إنه فقط صوت الرصاص ..أيا كان "بيللي" أو "حي".. فتلك هي الثقافة السائدة فى هذا المجتمع الذي أعلنت رفضك له منذ البداية. لقد عشت بيننا كالفراشات فرحلت سريعا، ولكن رحيلك صاحبه دوي صوت يشبه صرختك وهتافك. إنه صوت الباحثين عن الحرية..فالحرية هي كلمة السر فى حياتك يا شيماء هي أنتيمك الحقيقي ولست أنا يا صديقتي العزيزة. لقد أردت انتزاعها مبكرا فافترستك ..قتلتك وذبحتك ونهشت جسدك النحيل المصاب بالأنيميا ونقص السكر.. فقد أبت وتحدتك أن تخرج من القمقم. والآن وبعد أن تحررت روحك الطاهرة البريئة ونزعت أنت عنها كبد وعناء المقاومة وغادرت إلي حيث سنغادر. آراك بالأعلي غير مستسلمة تشاغبين وتداعبين زملاءك الشهداء وتطلقين أمثالك الشعبية. خالد سعيد: أنت شرفت أهلا بك. شيماء: مالك يا منيل مبسوط كده ليه. خالد سعيد: أصلك وحشتيني وصعبتي عليا من كتر ما مشيتي فى جنازتي...بس أنا خدت حكم ضدهم ..عقبالك يا أم بلال. شيماء: ترد بتريقة ..يا مستني السمنة من ورك النملة عمرك ما هتنعم بتقلية.