⢴سهير عبد الحميد لم تكن الحفاوة التى استقبل بها الفرنسيون كتاب "الانتحار الفرنسى" أو "كيف اضمحلت الدولة الفرنسية " إلا تجسيدا لحالة الكراهية إزاء المهاجرين المسلمين، والتى يغذيها اليمين المحافظ بكل السبل، مصورا المسلمين القادمين من القارة الإفريقية بأنهم الخطر الداهم على المجتمع الفرنسى. وتلك المخاوف التى تعرف باسم "ظاهرة الإسلامفوبيا" تتجلى فى فرنسا بشكل واضح بوصفها تضم أكبر جالية مسلمة فى أوروبا .لذا لم يكن من الغريب أن يحتل كتاب الانتحار الفرنسى صدارة المبيعات، حيث صدر منه خلال أسبوعين 330 ألف نسخة ورقية وإلكترونية كترجمة لمشاعر الكراهية للفرنسيين المسلمين...وهو ما يعد تنكرا لمبادئ المساواة والحرية التى صدرتها فرنسا للعالم منذ قامت ثورتها العظيمة فى القرن الثامن عشر. ولا يمكن أن نفترض حسن النيات فيما احتواه هذا الكتاب، فمؤلفه "إريك زمور"، عرف كمعاد للإسلام مما جعله يتصدر الصحف ويكون ضيفا دائما على شاشات التليفزيون الفرنسى . فى كتابه الجديد يدعو "زمور" إلى وقف هجرة المسلمين وأطلق على تلك العناصر القادمة من أصول غير فرنسية بأنها"تسونامى ديموجرافى"، مؤكدا أن 7 ملايين مسلم فى فرنسا يهددون الصفاء العرقى، خصوصا فى ظل الإحصاءات التى أشارت إلى أن 30 % من الزيجات فى فرنسا مختلطة . وتأتى أفكار الكتاب امتدادا لآراء "زمور" وهو باحث فرنسى عمل صحفيا متخصصا فى السياسة فى عدد من الجرائد آخرها "لوفيجارو" وعمل مقدم برامج ، وتنحدر أصوله من عائلة يهودية جزائرية أمازيغية وولد فى ضاحية موتزو وتخرج فى معهد الدراسات السياسية بباريس .له روايات عديدة منها:"الأخ الأصغر"، "المتأنق الأحمر"،"الآخر"ومؤلفات منه "شيراك الرجل الذى لم يحب نفسه" ،"فئران الحراسة" أفكار زامور فى كل مؤلفاته ومقابلاته التليفزيونية هى تجسيد لآراء اليمين المحافظ فى فرنسا الذى يؤيد فكرة ذوبان المهاجرين فى القالب الثقافى الفرنسى مناقضا بذلك دعاة التنوع العرقى ، وشدد مرارا وتكرارا على مجد فرنسا الإمبراطورى وتراثها الثقافى المسيحى الماضى رافعا راية الجهاد العنصرى، منددا بالقطيعة الخطيرة التى عرفتها مسيرة الصفاء العرقى . وسبق له أن قال إن من حق أصحاب العمل رفض تشغيل العرب والسود، وقال إن المهاجرين إلى فرنسا يتعرضون أكثر للتفتيش من دوريات الشرطة لأن أغلبهم تجار مخدرات من العرب والسود . وتمادى زمور فى إبراز كراهيته للإسلام حين قال إن القرآن هو من يحرض المسلمين على العنف كون ربعه تعرض للتحريف بغية الدعوة إلى قتال غير المسلمين . وقال زمور إن هناك نوعين من الإسلام : الأول مكى يدعو للسلام والوئام والثانى مدنى يقع فيه الخلل ويحرض على قتال غير المسلمين. قائلا إن القرآن المدنى تعرض للتحريف من قبل هؤلاء الإسلاميين ليتماشى مع ما يدعون إليه من قتال"هم من قاموا بصناعة هذا الوحش ثم يطلبون من فرنساوأمريكا أن تنقذهم". وقد ساقت أفكار زمور العنصرية إلى ساحات القضاء مرارا حيث رفع هو دعوى قضائية ضد مطرب الراب"يوسوفا"الذى هدده بالقتل فى أغنية نظير اتهامه للسود والمسلمين بأنهم مجرد تجار مخدرات وسارقى سيارات . وقامت جمعية مناهضة العنصرية بقيادة مولو أونيت الجزائرى الأصل برفع دعوى قضائية ضد زمور، مما تسبب فى ضجة إعلامية كبرى . الجالية المسلمة من الاندماج إلى العزل يعبر زمور بالفعل عن تيار سياسى فى فرنسا يحاول الربط بين المسلمين فى فرنسا وبين الفقر والجريمة إذ يسكن معظمهم فى ضواحى المدن و82 % منهم أتوا من المغرب العربى فى حين أتى 9.3% منهم من إفريقيا جنوب الصحراء و8.6% من تركيا . وقد ظهرت كتابات عديدة تحذر من هجرة المسلمين منها كتاب "ماجرواس" لفيليب دوفيليه وهو برلمانى ورئيس حزب الحركة من أجل فرنسا ، وفيه أكد أن المسلمين العاملين فى المطار خطر على أمن وسلامة فرنسا ونتج عن ذلك طرد أكثر من 40 عاملا من المسلمين . كما كتب رينيه بوميه أستاذ الأدب فى السوربون يقول" مازال عدد كبير من الفرنسيين مناهضين للإسلام ولكنهم ليسوا عدائيين تجاه العرب وأنا واحد منهم لأنى أشعر بعدائى للإسلام". وهناك أيضا كتاب "الهوية الشقية" لمؤلفه آلان فينكلكروت وفيه يصور تكاثر المسلمين الفرنسيين بالخطر على الهوية الفرنسية . كما كتب " روبير ريديكير فى صحيفة الفيجارو " الكراهية والعنف يملآن الكتاب الذى يتعلم منه كل مسلم وهو القرآن" ومحمد نبيهم "قائد حرب لا يرحم .هو جزار اليهود ومتعدد الزوجات". وكان جاك شيراك من أكثر رؤساء فرنسا المعادين للإسلام، وكان يقول صراحة إن فرنسا ليست لديها مشكلة مع المهاجرين الإسبان أو البرتغاليين إنما مشكلتها مع المسلمين والسود. وقال إن فرنسا تعرض ميراثها ونفسها للخطر بل تفقد روحها وخلاصها بسبب المهاجرين المسلمين وبرغم ما أبداه الرئيس ساركوزى من إيجابية إزاء المسلمين حين شجع المحال التجارية فى فرنسا على توفير اللحم الحلال على مدار العام، وبرغم أنه صرح مرارا أن الإسلام احتضن أهل الكتاب فإن هذا لم يمنعه من القول إن تعدد الثقافات فى فرنسا فاشل وأن للمسلمين حق ممارسة شعائر دينهم لكن أن يكون إسلام فرنسا وليس الإسلام فى فرنسا. وقد زادت حدة الضيق من المسلمين فى أوروبا بطبيعة الحال بعد 11 سبتمبر . ومنذ عام 2005 تبنت فرنسا سياسة "الهجرة المختارة" التى تمكنها من البحث عن العقول المبدعة التى يمكن لفرنسا الاستفادة منها .وفى 2004 حظرت فرنسا الحجاب فى المدارس ووصفت مارين لوبان ابنة مؤسس الجبهة الوطنية، صلاة المسلمين فى الشوارع بالاحتلال النازى إبان الحرب ..وفى 2009 كشف استطلاع معهد جالوب أن 80 % من المسلمين الفرنسيين عبروا عن ولائهم لفرنسا، لكن 56 % من عامة الناس شككوا فى ولاء جيرانهم المسلمين للدولة. المسكوت عنه فى تاريخ المسلمين فى فرنسا تبدو فرنسا الآن وهى تحاول التملص من الجالية المسلمة بها متنكرة لتاريخ ثورتها العظيمة التى رفعت شعاراتها الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة . والتى صدرتها للعالم كله لتقوم ثورات مماثلة تأثرت بتلك القيم . تبدو فرنسا أيضا متنكرة لدور المسلمين فى تاريخها الحديث، فقد بدأت هجرة العرب لفرنسا مع بداية القرن الثامن عشر فى ظل انخفاض النمو السكانى فيها واحتياجها لليد العاملة لمواكبة التطور الصناعى، وكان المغاربة القادمون من شمال القارة هم وقود التصنيع فى فرنسا، وقد كانت فرنسا فى أوائل القرن الثامن عشر ثانى بلد قبولا للمهاجرين بعد أمريكا. كما تتنكر فرنسا الآن لدور الفرنسيين من أصل عربى فى مواجهة النازية، فقد أثبت المؤرخ الألمانى جرهرد هب فى دراسة مهمة منذ بضع سنوات أن المهاجرين المسلمين من أصول جزائرية ومغربية انضموا إلى جيش المقاومة الفرنسية ضد النازيين، وأن 1017 منهم قبضت عليهم قوات هتلر فى باريس وقتلتهم، إضافة إلى 25 امرأة من أصول عربية. بلد الحريات تناقض ذاتها وتمارس فرنسا منتهى التناقض فى تعاطيها مع كتاب "زومر "مقارنة بموقفها من روجيه جارودى، لأنه تجرأ على التشكيك مجرد التشكيك فى رقم اليهود الذين قتلتهم المحرقة فى الحرب العالمية الثانية، وموقفها من الممثل الفرنسى "ديودونيه"الذى قدم دوراً استيطانياً يهودياً بشكل لم يحبه اليهود. هذا التناقض دفع ثمنه مسلمو فرنسا بشتى الصور، كما حدث مع أحمد بوهودى رئيس الجمعية الدينية والثقافية لمسلمى "كويناك "حيث وجد خطابا يحمل عبارات عنصرية فى صندوق بريد المسجد . وعلى جدران مسجد السلام رسم نازيون فرنسيون صلبانا معقوفة وألقوا قطعا من لحم الخنزير على ممرات المسجد. ويبدو أيضا أن فرنسا تناقض نفسها فى الوقت الذى يعد معظم مثقفيها وكتابها من أصول غير فرنسية، ومن بينهم بالتأكيد مثقفون من أصل عربى ومسلمون وفى مقدمتهم الطاهر بن جلون الذى ينتمى إلى الجيل الثانى من الكتاب المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية . وبدأ مسيرته فى فرنسا ككاتب مستقل فى صحيفة لوموند، ثم اتجه إلى نشر الشعر والرواية بالفرنسية وبرغم حصول بن جلون على جائزة جونكور الفرنسية عن روايته "ليلة القدر"فإنه مازال يعامل بوصفه مثقفا غير فرنسى، ودائما ما يشكو من بيع مؤلفاته على الأرصفة فى باريس بوصفها من الكتب الأجنبية . وقد وثق معاناته تلك فى كتابه "العنصرية كما رويتها لابنتى " الذى صدر عام 1999. وهناك المفكر الفرنسى برهان غليون وهو من أصل سورى عمل أستاذا للاجتماع السياسى ومدير مركز دراسات الشرق فى جامعة السوربون بفرنسا. والشاعر كاظم جهاد الذى هاجر إلى فرنسا منذ منتصف السبعينيات وقدم دراسات عدة عن الأدب العربى بالفرنسية، وقام بالتدريس فى المعهد الوطنى للغات والحضارات الشرقيةبباريس والسوربون، ويشرف على مشروع كلمة الخاص بأدب الناشئة الفرنسيين. وفى ميادين أخرى غير الثقافة برز الفرنسيون من أصل عربى ومنهم الممثل الكوميدى جمال الدبوز، وهو من أصول مغربية . وفى ميدان السياسة عرفت فرنسا أول وزيرة من أصل مغربى هى رشيدة داتى، التى تولت وزارة العدل وجاءت بعدها نجاة بلقاسم، وهى أول امرأة تتولى حقيبة التعليم فى تاريخ فرنسا ثم مريم الخمرى كاتبة الدولة المكلفة بشئون المدينة.