عرفه عبده على إن اندماج الطائفة اليهودية فى واقع المجتمع المصرى .. كان اندماجاً وانصهاراً نسجتهما الأيام، من خلال التسامح الفطرى الذى ميز الإنسان المصرى عبر تاريخه، وجعله بحسه الحضارى يفصل بين الدين وأمور الحياة اليومية، فهم مصريون اعتنقوا الدين اليهودى والسلوك الاجتماعى لم يميزهم عن بقية أبناء المجتمع المصرى، وظاهرة "الجيتو" التى عاشها قسراً يهود أوروبا، لم تعرفها الجماعات اليهودية التى عاشت فى محيط ثقافى عربى إسلامى .. و"حارة اليهود" بالقاهرة لم تلق مصير حارات اليهود فى أنحاء العالم! ادعاءات الصهيونية بأن اليهود هم نسل بنى إسرائيل القدامى، هى ادعاءات باطلة زائفة، للربط بين الحركة الصهيونية السياسية وتاريخ بنى إسرائيل القديم، ولتبرير هدفهم من إقامة كيان قومى يهودى فى فلسطين العربية. وقد أثبت علماء الإنثروبولوجيا ومنهم: " لامبروز " و"دالبى " و"فرانتس شايدل " و"جوان كوماس " و"أوجين بتيارد " و"وليم شلام " وغيرهم .. زيف هذه الادعاءات، فالتجانس العرقى اليهودى ما هو إلا أسطورة واليهودية هى ديانة ولم تكن أبداً عرقاً، واليهود فى مختلف أرجاء العالم هم سلالات وأجناس متباينة، ولا تجمعهم أية رابطة جنسية وراثية أو وحدة اللغة والثقافة، بل تجمعهم العقيدة الدينية وحدها ! وهؤلاء الصهاينة إنما يبعثون الجنون فى العالم كله، بإعلانهم الزائف أن اليهود المبعثرين فى أنحاء الأرض هم: أمة واحدة ! .. فاليهود مجموعة دينية، لا يشكلون مطلقاً وحدة قومية أو عرقية، بل هم مجموعة تدفعهم وتحركهم عقيدة سياسية متطرفة وعنصرية هى "الصهيونية" . والصهيونية هى "أيديولوجية عنصرية " قامت على أساس عدد من الأوهام والأساطير الزائفة، كان لابد لها حين أسست تجمعاً بشرياً استيطانياً، أن تطبع هذا التجمع بطابعها، عن طريق فرض ونشر وتدعيم إستراتيجية عدوانية وعنصرية للتنشئة الاجتماعية، مما أدى إلى ظهور الشخصية الإسرائيلية المتأثرة بالجذور العنصرية الراسخة للصهيونية، والدولة اليهودية نشأت ب " الإرهاب"، والمجتمع الإسرائيلى يعانى أزمة أخلاقية واسعة المدى، كشفت عنها صور الانحراف والجريمة حتى بين الطبقة العليا والطبقة الحاكمة، وبدا بعض المفكرين والساسة الإسرائيليين يرون أن التوصل إلى السلام مع العرب لن يكون نهاية للصراع العربى – الإسرائيلى، بقدر ما هو بداية النهاية للمشروع الصهيونى! وظل اليهود كأقلية يتناقلون الأساطير والتاريخ واللغة، ولم تكن لهم أرض ولا دولة، وفرضت عليهم الصهيونية دراسة تاريخهم ودينهم وجندتهم ودججتهم بالسلاح، وتاجرت بالدول الكبرى، وروجت شعارها المزيف "شعب بلا أرض، وأرض بلا شعب"! لقد اندمج يهود مصر كاملاً فى المجتمع المصرى، كما لم يحدث فى أى مجتمع آخر وفى أى عصر فى اتجاه معاكس تماماً لرؤية " ناحوم جولدمان " رئيس المنظمة الصهيونية العالمية فى 16 مارس 1963 محذراً من اندماج اليهود فى شعوب العالم : "إن الاندماج هو الخط الأكبر الذى يهددنا منذ اللحظة التى خرجنا فيها من الجيتو"! .. ففى عهد إسماعيل باشا تولى عدد من يهود مصر مناصب مهمة وكان على رأسهم "يعقوب قطاوى" باشا عندما تولى منصب "صراف باشى" أو كبير الصيارفة والذى تولاه من بعده "يعقوب منشه"، كما كانوا ممثلين فى البرلمان ضمن مقاعد الوفد أو السعديين، وكان يوسف قطاوى وزيراً للمالية فى وزارة أحمد زيوار باشا التى شكلت فى 24 نوفمبر 1924 وهو أول من أصدر قراراً بصك العملة البرونزية من فئتى المليم والنصف مليم ! .. والحاخام الأكبر " حاييم ناحوم أفندى " بزيه التقليدى : العباءة السوداء تحتها قفطان أبيض اللون بخطوط سوداء، تعلو رأسه طاقية سوداء، ممسكاً بيده منشه لطرد الذباب ! .. كان عضواً بمجلس الشيوخ وعضواً بالمجمع الملكى للغة العربية .. وعشرات الصحف والدوريات التى كانت تصدر بالعبرية والعربية والفرنسية والإنجليزية، ومعابدهم ومدارسهم الدينية تتعايش مع المدارس اليهودية العلمانية ومع البعثة العلمانية الفرنسية، ومنظمات وجمعيات الشباب والكشافة تنسق نشاطها مع مؤسسات الرعاية الاجتماعية والدينية، وعلى مدى قرون تمتعوا بحرية ممارسة شعائرهم، وطقوس ميزت يهود مصر عن يهود العالم، ومنها وليمة رأس السنة " روشاناه " والتى تبدا بمباركة الخبز المغموس فى السكر ويتبعها وليمة لابد أن تتضمن رأس سمكة وكرات ورمانا ولوبيا وبلحا وعشبا " الهاروسيث " وقطعاً من لحم الخروف، وفى اليوم التالى وبعد صلاة الصباح يجأر الشوفار " الوعد بالبعث" بعد قراءة المزامير، يجتمع الأتقياء عقب الظهر على ضفاف النيل للمشاركة فى القداس الإلهى لتغطيس الخطايا، وترتيل بعض العبارات وآيات من التوراة ثم يقلبون جيوبهم ويضربون أجسادهم بغرض طرد كل الخطايا! وطقوس "عيد الفصح" الذى تبدأ مراسم الإعداد له منذ الأول من إبريل، بالاحتفال بليلة "التوحيد" فى معبد "الأستاذ" بحارة اليهود، ومزج نصوص من "الزهار" مع بعض من نصوص "أسفار موسى الخمسة" واسترجاع قداس معبد القدس وتنتهى ب"التنبؤات المريحة" لزكريا الثانى .. وطقوس متوارثة تمارس فى البيوت وصولاً إلى "ليل شيموريم" أو ليلة السهر، حيث تعد المائدة: صينية عليها ثلاث قطع من الخبز "الأزيم الخالى من الخميرة" وكرفس مغموس فى الخل وخس وعشب "الهاروسيث" المر (يغمس فى مربى تقليدية من بلح منزوع النوى وزبيب وعنب أسود، يطهى هذا الخليط على نار هادئة حتى يصبح مربى يرش فوقها الجوز واللوز) وبيض مسلوق يذكر بحزن الرحيل وإناء به ماء مملح أو مخلوط بالخل، ثم عظمة من خروف مشوى ملتصق بها قطعة لحم ترمز إلى "الذراع الممدودة" التى أشارت إلى الطريق للعبرانيين المغادرين مصر .. ثم يأخذ الأب قطعة الخبز ويطلب فتح باب الشقة وهو ينشد: "هذا مثل خبز البؤساء الذى أكله أجدادنا فى مصر" تقليد خاص بيهود مصر، وتتلى القصيدة الأسطورية والتراتيل وقصص الاضطهاد ونشيد الإنشاد، فالليلة طويلة: رمز للغياب والرحيل! ومثلما كان يفعل أطفال كل المصريين، كان أطفالهم قبل رأس السنة بأسبوع يضعون القطن فى أوان عميقة حيث يغرسون فيها القمح لينبت مع حلول السنة الجديدة. وطقوسهم المميزة عشية عيد الغفران حيث " مذبحة الفراخ " !.. وفى ليلة الصيام الكبير كان على الأتقياء أن يتلقوا أربعين جلدة على ظهورهم تكفيراً عن خطاياهم، بينما تقوم النساء بإيقاد الشموع أو القناديل فى المعابد فى ذكرى آبائهن وأقربائهن، وفى نهاية الصوم كانت تنصب فى شرفات وأسطح منازل اليهود خمائل أو كبائن تزدان بفروع من أشجار النخيل ومن الصفصاف والريحان، وفيه كان يدرك أرباب الطائفة مدى التقدير الذى يحظون به من جانب السلطات وفقاً لأهمية المندوبين الذين توفدهم السراى وحتى ذهاب " محمد نجيب " عام 1953 فى تمام الاحتفال ب " كال نيدريه " إلى معبد اليهود القرائيين بالعباسية إلى جانب العادات التى واكبت الاحتفالات الفخمة بأعياد : بوريم القاهرة أو " بوريم مصراييم " ويوم الأحزان فى التاسع من أغسطس حيث يمتنعون منذ اليوم الأول من الشهر عن تناول اللحوم والحمام خاصة !.. وبعد أحقاب طويلة وتوالى أجيال، أخذ يهود مصر طريقهم من جديد إلى المنفى، ووصلوا إلى أراض مغايرة محملين بكل التشوهات والآلام التى صاحبت "خروجهم الثاني" والذى لن يعرف طريق العودة! وأكبر كارثة يخشاها اليهودى هى الاندماج الذى يعنى: إذعان المنفى وإبادة الاسم ومحو التاريخ وبحر من الذكريات، وهو ما عبر عنه بصدق " شارل نواوى " المولود بالإسكندرية " لا يعنينا البكاء على المصير المحتوم لليهود فى بحثهم الدائم عن ملاذ ولا أن نطلق النواح على آلامنا الماضية، بل ما نريده قبل كل شيء هو اقتلاع هذا الخجل الذى يحيط بسرنا، وهو الخجل من تاريخ لا يشبه تاريخ البلد الذى استضافنا، والخجل من لغة وطقوس لا تشبه ما نمارسه يومياً، كم أحب أن أرى اليوم وجوه آبائنا أو أجدادنا وهى تتلون مساء عيد الفصح صلاة " الهجادة " التى تقول: "أنا الرب الذى أخرجتكم من مصر"! (تاريخ يهود النيل، ص 228 – 229) وقد تمتعت العائلات اليهودية الأرستقراطية بقوة اقتصادية ووجاهة اجتماعية مكنتها من توطيد علاقاتها بمراكز النفوذ السياسى، لتتربع على قمة الهرم الاجتماعى فى مصر الملكية، وكان لهم نشاط بارز فى البورصة وامتلاك البنوك وفى تجارة الذهب والقطن والمنسوجات والعقارات وصناعة السكر : أهم عناصر الاقتصاد المصرى كانت فى قبضتهم ! كما حرص أقطاب العائلات اليهودية : قطاوى، موصيرى، رولو، عدس، سوارس، ليفى، منشه، هرارى، .... على إنشاء ودعم مؤسسات الرعاية الاجتماعية والجمعيات الدينية والثقافية وإنشاء المزيد من المعابد اليهودية والمدارس وبدعم من الدولة ومنح الأراضى مجاناً ! وكانت الصحف اليهودية تبرز أنشطة هذه المؤسسات، وتجدر الإشارة إلى دعوة مجلة "الكليم" إلى ضرورة إنشاء مدرسة ثانوية لأبناء الطائفة بهدف: "مواصلة إعداد الشباب وفق السياسة التى تناسب مصالح الطائفة، كما سيمكنها من إعداد شباب إسرائيلى متعصب لطائفته ودينه وتشغله بالقضايا اليهودية على غيرها" ! وكانت الصحافة هى أبرز وسائل الإعلام، وبالتالى كانت أهم وسيلة للعبيد فى حرية كاملة عن تطلعات الطائفة اليهودية ومشاكلها، ومن خلالها حرصت الصهيونية على أن يكون لها صوتها المعبر عنها فى مصر، وقد تمتعت الطائفة اليهودية فى مصر بكامل حريتها فى إصدار الصحف والمجلات التى بلغت نحو خمسين صحيفة ومجلة فى الفترة 1877 – 1947 منها واحدة وثلاثون باللغة العربية.