حنان البيلى فى كل مرة يحدث فيها شد وجذب بين الجانبين المصرى والأمريكى سياسيا، ينعكس ذلك على العلاقات الاقتصادية، وتلوح الإدارة الأمريكية بقطع المعونة الاقتصادية، وتجميد جزء من المعونة العسكرية، كما حدث فى أعقاب الموجة الثانية من الثورة المصرية. إبان أزمة التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى، وإلقاء القبض على عدد من العاملين الأجانب والأمريكان فى تلك المنظمات، وتتعالى الأصوات داخل الكونجرس الأمريكى بإلغاء المعونة الموجه إلى مصر. ويتساءل البعض هل استفادت مصر من المعونة الاقتصادية التى استمرت منذ أوائل الثمانينيات وحتى قبل قيام الثورة المصرية فى عام 2011؟ وهل خلقت طبقة من رجال الأعمال المنتفعين منها والمرتبطين بعلاقات مباشرة مع السلطة آنذاك؟ وهل يمكن أن تتحول العلاقات الاقتصادية المصرية الأمريكية إلى شراكة اقتصادية حقيقية بدلا من المعونة المشروطة؟ قد لا يعرف الكثير أن مصر كانت تحصل على معونة أمريكية فى الخمسينيات من القرن الماضى، وكانت تلك المعونة سلعية كالقمح أو دقيق القمح، وعندما اتجه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتى سابقا، انقطعت تلك المعونة فى الستينيات، وعادت مع السادات بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل فى عام 1979. وحصلت مصر على 2,1 مليار دولار، مقسمة بين معونة اقتصادية بلغت 815 مليون دولار، ومعونة عسكرية بلغت 1,3 مليار دولار. والمعونة مشروطة بشراء سلع أمريكية وتنقل على مراكب أمريكية، ويخصص جزء منها كمرتبات ومكافآت لخبراء أمريكان. وهنا يوضح الدكتور فخرى الفقى مساعد المدير التنفيذى لصندوق النقد الدولى الأسبق أن المعونة كانت قروضا أمريكية بشروط ميسرة منذ تم اغتيال السادات فى عام 1981 وحتى عام 1985، فبعد حرب العراق وغزوها الكويت ووقوف مصر مع الشرعية الدولية، حولت أمريكا تلك القروض إلى منح لا ترد. وللحقيقة مصر كانت فى تلك الفترة، تعانى من عدم قدرتها على دفع فوائد ديونها الخارجية، والتى بلغت 52 مليار دولار، وكانت تمثل 120٪ من الناتج المحلى الإجمالى، ولكن كما يقال «مصائب قوم عند قوم فؤائد»، فإن غزو صدام حسين للكويت، واتخاذ القيادة السياسية آنذاك الوقوف إلى جانب الشرعية الدولية وحقوق الكويتين فى العودة إلى بلادهم، دفع عن مصر آنذاك شبح إعلان إفلاسها فى عام 1991 فى حين تم إعلان إفلاس بلدان أخرى مثل البرازيل وشيلى والأرجنتين، الذين أعلن وزراء ماليتهم إفلاس دولهم طلبا لمساندة صندوق النقد الدولى. وبعد الموقف المصرى آنذاك تم إلغاء 14 مليار دولار من ديون مصر، وبادرت الولاياتالمتحدةالأمريكية بدعوة صندوق النقد الدولى للوصول إلى اتفاق مع مصر، معلنا مندوب الولاياتالمتحدة فى IMF أن مصر تستحق أن تصل إلى اتفاق مع الصندوق، وتم تنفيذ هذا الاتفاق بنجاح، وتم تخفيض المديونية القابلة للتخفيض بمقدار 10 مليار دولارات، وأصبح المتبقى على مصر 28 مليار دولار، وتم رفع سكين الإفلاس من على رقبة مصر، وكان عجز الموازنة آنذاك فى الحدود الآمنة 3٪. ولكن لم تستقر العلاقات على نفس المنوال، فقد أخذت منحنى آخر فى عام 1995 بعد أن رفض مبارك طلبات للإدارة الأمريكية، وعلم الأمريكان أنه لن يتعاون معهم، كما يتصورون، فاتخذ الكونجرس الأمريكى قرارا بتخفيض المعونة الأمريكية إلى 250 مليون دولار قبل ثورة 2011، وتم تجميد جزء منها حتى الآن. وجاءت حكومة كمال الجنزورى فى عام 1996 وحتى عام 1999 واستمر برنامج مصر مع صندوق النقد الدولى عامى 96،97، ولكن كانت سياسة كمال الجنزورى تخطيطا مركزا فى ظل سياسة السوق الحرة، مما يعنى زيادة سطوة الدولة، وتم عمل شرق التفريعة وشمال غرب خليج السويس وتوشكى وحمل الموازنة العامة للدولة أكبر من طاقاتها، وبلغ العجز فى الموازنة إلى 9٪. أما الدكتور مصطفى السعيد وزير الاقتصاد المصرى الأسبق والذى تولى الوزارة فى أوائل الثمانينيات فيؤكد أن المعونة الاقتصادية كانت مشروطة، حيث تقوم الحكومة آنذاك بتقييم قائمة بالمشروعات التى تريد إنجازها، ويقوم الجانب الأمريكى باختيار بعض المشروعات والموافقة عليها، وجانب كبير من تلك المعونة كان يأتى فى شكل سلع أمريكية وجزء آخر كان يخصص كأجور ومرتبات للخبراء الأمريكان. أما عن المشروعات والتى استخدمت فيها المعونة الأمريكية فتمثلت فى الصرف الصحى وتحديدا القاهرة الكبرى ومحطات المياه، وفى مجال التعليم ومشروعات للأمومة والطفولة وحملات تنظيم الأسرة، ويؤكد السعيد أن الجزء الفاعل من المعونة هو كان لا يتجاوز 100 مليون دولار. ولكن من الملاحظ أن الاعتماد على المعونات، يقلل من حرصنا فى الاعتماد على الذات والتاريخ الاقتصادى يؤكد ذلك، فدولتين مثل النرويجوالسويد، أكدت إحدى الدراسات الدولية أن توافر النفط فى النرويج ساعدها على الارتخاء لضمان توافر النقد الأجنبى، ولكنها لم تستمر فى تلك الحالة لفترة طولية، أما السويد ونظرا لعدم توافر مواد خام غنية تساعد على حالة الارتخاء، عملت على تطوير صناعتها وتحديث التكنولوجيا لمواكبة التطورات الاقتصادية العالمية وتوافر المعونات والمساعدات الدولية مثله مثل توافر النفط فى حالة النرويج والبلدان الخليجية. فى حين يرى الدكتور سلطان أبو على وزير الاقتصاد الأسبق والذى تولى الوزارة بعد الدكتور مصطفى السعيد عام 1985، أنه لا يمكن لأى بلد أن يعتمد على المعونة فهى عنصر مساعد فقط، وهناك دول لم تتأثر بهذه المساعدات، وعموما المعونات لا تسبب تنمية كبيرة أو تحدث طفرة. فالأمريكان رفضوا إعطاء مصر المعونة نقدا وكانت معونة مشروطة، فى حين أنهم أعطوا إسرائيل المعونة الاقتصادية نقدا تتصرف فيها كيفما تشاء. ونظرا لأن المعونة الاقتصادية كانت مشروطة بشراء سلع أمريكية تنقل على مراكب أمريكية، وساعدت تلك المعونة إلى جانب سياسة الانفتاح الاقتصادى فى انتشار سياسة الاستهلاك البذخى فى المجتمع المصرى. وجزء ضئيل جدا هو الذى يؤخذ نقدا، وكان يتم دعم الموازنة العامة به، هو لا يزيد على 100 مليون دولار منذ أن كانت المعونة الاقتصادية 815 مليون دولار. أما الدكتو شريف الديوانى المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية فيؤكد أن العوامل السياسية التى يحاول الجميع فصلها عن العلاقات الاقتصادية، كانت تؤثر على المعونة وكيفية إنفاقها، وكان هناك شروط كثيرة جدا تحد من مدى استفادة مصر من المعونة الاقتصادية، صحيح أن الهدف منها هو التنمية الاقتصادية، ولكن كانت الممارسة فيها الكثير من الأخطاء كذلك لم يمكن المردود الاقتصادي مساويا للثمن الذى دفع. وعلى الرغم من استمرار بعثة طرق الأبواب، والتى كانت تسافر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية سنويا، والتى لم يكن لها تأثير يذكر على الاقتصاد المصرى، فإن هناك بعثة جديدة سافرت إلى الولاياتالمتحدة الشهر الماضى يوليو مكونة من مجلس الأعمال الأمريكى المصرى والغرفة الأمريكية المصرية، وممثلين من اتحاد الصناعات، على الرغم من الفتور فى العلاقات السياسية بين البلدين. فإن الديوانى يرى أن هذه البعثات ستأتى بفائدة، لأنهم يقومون بعقد لقاءات مع رجال أعمال أمريكان ومسئولين فى الإدارة الأمريكية، ولقاءات مع الإعلام لتوضيح الصورة فى مصر، وشرح أن ما يحدث فى مصر محاربة للإرهاب وليس انتهاكا لحقوق الإنسان، لأنهم فى أمريكا يخافون من انتهاكات حقوق الإنسان، لأنها تؤدى إلى حدوث قلاقل سياسية، مما يجعلهم يحجمون عن الاستثمار فى تلك الدول. بالإضافة إلى أن الاستثمار الخاص يحجم عندما يجد الدولة تتدخل فى الأنشطة الاقتصادية، ويجب أن يكون دور الدولة تحفيزيا وتوجيهيا، وليس منافس القطاع الخاص، مثلما الحال فى مشروع تنمية محور قناة السويس الجديدة والذى أعطى إشارات إيجابية للأسواق العالمية. وبالعودة إلى المعونة الاقتصادية لمصر، وتأثيرها على طبقة رجال الأعمال، والذين فسد بعضهم بالفعل، فيوضح الدكتور فخرى الفقى أن المعونة لعبت دورا كبيرا فى تفشى الفساد فى مصر، فالأمريكان كانوا يشتكون ويرون أن المصريين يعتبرونها «سببوه» حيث يأخذ منها الكبار بالقانون، وخلقت طبقة من رجال الأعمال المنتفعين وغير الحقيقيين، وبعضهم كان يفتح شركة فى أمريكا وشركة فى مصر. وكانت الشركة المصرية تدخل المناقصة، وعندما ترسى عليها المناقصة يقوم بالاستيراد من شركته الأخرى الموجودة فى الولاياتالمتحدة، وللحقيقة النظام السابق كان له العديد من الأذرع فى مختلف المجالات، وكان ذلك ينعكس التقارير الدولية، ففى تقارير سهولة مزاولة نشاط الأعمال كانت مصر فى المرتبة 109 من إجمالى 189 دولة، وللأسف بعد الثورة فى عام 2011 تدهور مركز مصر وأصبحت فى المرتبة 128 فى تقرير عام 2013. والآن بعد الثورتين المصرتين فى 25 يناير، والثلاثين من يونيو، تغيرت العلاقة بين مصر وأمريكا، ولم تعد علاقة الخضوع والخنوع لكل الطلبات الأمريكية ولم يجد مع مصر التهديد بقطع المعونة الاقتصادية، أو حتى تعليق جزء من المعونة العسكرية، فالعلاقة الآن أصبحت ندية، ونحن الآن كشعب وقيادة نشعر باستقلالنا من الإملاءات الأمريكية، وليس أدل على ذلك من مناداة العديد بإلغاء المعونة ورفضها، واقتراح البعض بإنشاء حساب باسم المعونة الشعبية المصرية بدلا من المعونة الأمريكية. ويطالب الاقتصاديين بتجاهل أن تهديدات أمريكية تخص المعونة الاقتصادية لأنها نسبة أقل من 1٪ من إجمالى الناتج المحلى المصرى، والدخول فى إحداث تنمية حقيقية مصرية وتهيئة مناخ مناسب للاستثمار والقضاء على الفساد بكل أشكاله، وسيأتى المستثمرون بأنفسهم إلى مصر لأنهم يبحثون عن فرص حقيقية للاستثمار، والبدء فى مفاوضات جادة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية لعمل اتفاقية تجارة حرة بدلا من الحدث عن المعونات أو حتى اتفاقية الكويز التى يراها البعض اتفاقية فى غير صالح الاقتصاد المصرى، ووضع قواعد مضبوطة للمنشأ.