أحمد محمود نظر إلى وقال، ألازلت تشعر بنفس هذا القدر من التفاؤل لمستقبل مصر؟! نظرت إليه مبتسماً كعادتى وأومأت برأسي بالإيجاب... علت وجهه نظرة مغتاظة، تلك النظرة التى كانت دوماً ترتسم على وجهه كلما ابتسمت وأخبرته أننى متفائل. قال... يا أخى أنت تغيظني، فى الوقت الذى تبدو فيه الأمور معقدة ومحيرة بل ومخيفة، أجدك دوماً فى هذا الحال العجيب من التفاؤل وكأنك فى عالم آخر لا ترى ما يحدث فى الشارع من مناوشات ومحاولات من أنصار التيار الإسلامى لإثارة الاضطرابات، وفى المقابل خطاب كراهية وتخوين لكل معارض أو مقاطع لخارطة الطريق وأيضاً لشباب ثورة يناير بعد أن كانوا فوق الرؤوس والأعناق، ليتم تصويرها وكأنها انتكاسة، وكأننا عدنا مرة أخرى إلى زمان كنا نظن أننا قد نسيناه وتخلصنا منه بلا رجعة... نظرت إليه والابتسامة لازالت تعلو وجهى وسألنه، هل سبق وقرأت حكاية رقصة سالومى الأخيرة؟ أومأ برأسه إلى أنه لم يفعل ثم سألنى ماهى قصة سالومى؟ قلت له، تروى الحكايات أنه عندما اجتاحت فلول الجيش الروماني مملكة اليهود في ذلك الزمان البعيد، سافر "هيرودوس " ملك اليهود الى روما ليناقش بعض المسائل التي تخص مملكته والجالية اليهودية هناك فى مملكته، فالتقى أثناء عودته بأخيه "فيليبس" وزوجته هيروديا وابنتهما سالومي... اعجب هيرودوس بهيروديا و مالت هي الاخرى اليه وأثرت الابتعاد بابنتها عن زوجها لتعود مع هيرودوس الى " طبرية" عاصمة مملكته التي اطلق عليها هذا الاسم تملقا للامبراطور الروماني انذاك" طيباروس" وهكذا انتزع هيرودوس زوجة أخيه منه بعد أن رفض أن يطلقها وعاد بها الى قصرهه... سار هذا الخبر بين الناس فتداولوه، وغضبت هيروديا من هذه التقولات عليها وألحت على الملك أن يوقف هذا الكلام فبعث الملك هيرودوس الى رئيس الكهنة ليقوم باتمام زواجهمات... قيل أنه لمّا وقف الكاهن بين يدي الملك، وقفت هيروديا خلف الأبواب تستمع الى الحديث وسرها نجاح هيرودوس في المساومة التي تمت بينه وبين رئيس الكهنة حيث أفتى له بإمكانية زواجه من هيروديا طالما أن زوجها كان مجنونا وقد شهد بذلك مجموعة من الأطباء الأمر الذي يسمح لها بأن تُطلق من زوجها وأن تتزوج من غيره... علم يوحنا برغبة هيرودوس في الزواج من هيروديا وقال بعدم جواز ذلك, لكن اصحابه أخبروه وهو في البرية عند نهر الأردن يعمد التائبين بأن هيرودوس قد تزوج هيروديا وأقام احتفالا صغيرا في القصر ثم انتقل بها الى قلعة ماكيروس حيث اقيمت الاحتفالات المتواصلة. غادر يوحنا الصحراء ليأتي لمواجهة الملك ليخبره بأن زواجه باطل، وتناهي الى اذن الملك أن "يوحنا المعمدان" يقصده فأعطى الأوامربأن لا يدخل القصر، وأن لا يصل قوله إلى هيروديا... لكن"يوحنا المعمدان " وقف خارج القصر يعلن موقفه، ووصل صوته الى كل من في القصر وثارت ثورة هيروديا وأقبلت على هيرودوس تحثه على اسكاته أو حتى قتله... غضب الملك من تصرف المعمدان، فأمر جنوده فاقتادوه اليه، تحدث يوحنا في وجه هيرودوس على مسمع من الجند والحاشية وسالومي ابنه هيروديا، ودافع هيرودوس عن زواجه بأنه كان بمباركة الكهنة وأن زوجته قد طلقت من زوجها لكن يوحنا النبي أدرك من قبل عدم صحة هذه الرواية، واستمر في قوله أن هذا الزواج باطل, وبعد أن يئس هيرودوس منه أمر بإلقائه في السجن... اعتصم أتباع يوحنا أمام القصر، لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، وبعد مرور سنة تقريبا من هذا الحادث، بدأ احتقال هيرودوس بعيد ميلاده وامتلأ قصره بالمدعوين من الرومان واليهود والأجانب، ومن شرفة القصر كانوا يطلون على المعمدان وهو قابع في سجنه يصلي ويقرأ الوصايا وهم يضحكون ويتغامزون وأبصرت سالومي صورة يوحنا فطاف خيالها بعيدا، وخالجتها الرغبة بالانتقام لأمها التي أغضبها وأذلها هذا الرجل... فسعت الى الخدم تأمرهم بأن يهيئوا غرفة بأحسن فرش وأن توقد فيها الأنوار ويوضع فيها الأكل والشراب... يقال أنه في هذا الوقت كان المعمدان يستقبل زائرا هو عيسى بن مريم ابن خالته ونبي الله الله المرسل الى بني اسرائيل ... وتكلم عيسى مع يوحنا كثيرا موصيا له بالصبر والجلد مذكرا اياه بما لاقاه الأنبياء من تكذيب... جاء بعدها الجند يقودونه الى الغرفة الخاصة التي أمرت سالومي بإعدادها ثم دخلت عليه بنفسها .. وحاولت إغراؤه لكن يوحنا رفض المعصية، فسخطت عليه كل السخط وعادت الى الجموع وهم يحتفلون وأخبرت والدتها بما حدث .. نصحتها والدتها بأن تقوم الى الرقص أمام الملك فهو يحب الرقص كثيرا وهي أحسن من تجيده وإذا طلب منها أن تتمنى عليه أي شيء فلا تذكر غير رأس يوحنا المعمدان ... وفعلت سالومي ما نصحتها به أمها ورقصت... قيل أن سالومى كانت فى هذه الرقصة ترتدى سبعة أثواب، وفى كل مقطع من مقاطع الرقصة تخلع ثوباً، وكانت كلما انتهت من رقصةتوقفت حتى ازداد شغف الملك وصاح قائلا لها، ارقصي واطلبي ما شئت فاني مانحه لك ...ولمٌا انتهت سالومى من خلع الثوب الأخير وأصبحت عارية تماماً ،هوت يد الملك آمرة السياف بقطع رقبة يوحنا، ، لكنها أى سالومى، بدلاً من أن تشفى غليلها برأس يوحنا، صارت تعيش حياة مليئة بالندم والكوابيس التى تطاردها فى نومها وصحوها حتى أقدمت على الانتحار... نظر إلى مندهشاً وقال، يا أخى أنا أحدثك عن مصر وأنت تحدثنى عن سالومى، والله انك لفى نعيم مقيم... ضحكت ملء فمى وقلت له، يا أخى انا أحدثك عن مصر، عُد بذاكرتك قليلاً لتتذكر كيف أن الكثيرين رقصوا للنظام السابق من أجل تحقيق ثروات طائلة، والآن لازالوا هم أنفسهم يرقصون رقصة سالومى، بعد أن خرجوا من خنادقهم التى تحصنوا فيها بعد سقوط مبارك وأطلوا علينا بوجوه لا تعرف الخجل، ترقص تلك الرقصة بحرفية وبلا توقف ولمن يملك، أياً كان هذا الملك، وهؤلاء من جاؤنا وكأنهم يحملون وحدهم تعاليم السماء، وعدوا الناس بالخير فاختارهم الناس، لكنهم ما أن ملكوا الأمر راحوا يفعلون نفس الأفاعيل التى ثار الناس عليها، لكن الشعب يرى كل يوم أحدهم وهو يخلع ثوباً من الأثواب وهذه هى عظمة الثورة، أنها تكشف كل الوجوه وتزيل الأقنعة عن كل من ادعى النضال ضد القمع والديكتاتوية... الثورة القادمة ستكون ثورة ديمقراطية حقيقية، ربما لن ينزل الناس إلى الشوارع فى اعتصامات وتظاهرات، ذلك أنهم باتوا يكرهون العنف المصاحب لهذه التظاهرات، لكنهم الآن يعرفون الطريق... هم يرون كل واحد على حقيقته وهذا هو النجاح الحقيقي للثورة، لم يعد من الممكن اللعب بقناعات الناس مرة أخري، من الآن يجب أن يعلم كل واحد يرغب فى حكم مصر أنه لا بديل أمامه من الديمقراطية الحقيقية بل والأهم الشفافية، لأنه ماعاد من الممكن خداع الناس وإيهامهم بالبطولة لو كانت زائفة حتى لو ظل طوال حياته يرقص رقصة سالومى لآخر الزمان...