كان يحيي عليه السلام طفلا عجيبا، عندما ينظر المرء إليه يجد نور الإيمان في وجهه، ويري هيبة الأنبياء تشع من عينيه. جاء إليه الأطفال قالوا له تعالى نلعب فقال لهم بأدب: - ليس للعب خلقت. منذ أن كان طفلا أدرك أشياء كثيرة، لماذا فرت السيدة مريم مع طفلها المعجزة؟! لماذا يغرق اليهود في الجهل والانحراف والفساد؟! لماذا تسلط الرومان الكفار على قوه؟! كل ذلك حصل لأن بني إسرائيل ابتعدا عن الدين الحق. لأنهم كفروا بالأنبياء.. لأنهم أصبحوا أنانيين. كبر يحيي وأصبح شابا مهيبا، كان يهتف علانية: من له ثوبان فليعط من ليس له. ومن له طعام فليعط الجائع. لا تظلموا أحدا! ولا تفتروا على أحد! إن طريق الله واضح ومستقيم، لا تجعلوه معوجا. في ذلك الزمان كان يحكم الشام حاكما رومانيا اسمه "هيرودس" كان وثنيا شريرا. وكان لأخ هيرودس زوجة جميلة، هيرودس أخذها بالقوة لتكون له زوجة! فلم يعترض أحد، سيدنا يحيي وحده الذي قال للغاصب: لا يجوز لك أن تفعل ذلك. لم يسكت يحيي كان يندد بهيرودس والشرور التي يرتكبها. أصدر هيرودس أمرا بإلقاء القبض علي النبي وجاء بالشرطة لاعتقاله. عندما ألقوه في السجن لم يخف.. لم يتوصل كان شجاعا، في السجن وكان يصيح: سيأتي من بعيد من هو أقوى مني.. ستعم الرحمة وتزهر الزنابق، وتبصر العيون ضوء النهار، وتنفتح الآذان الصمّ. أقام هيرودس احتفالا كبيرا.. ترقص فيه النساء ويشرب فيه الرجال الخمر.. الناس الفقراء خارج القصر يئنون من الجوع.. ويتألمون من الظلم ويرتجفون من البرد.. الفقراء عراة لا يملكون شيئا يسترون به أجسامهم وهيرودس الحاكم يرتدي الحرير، ويجلس على عرش مطعم بالذهب والفضة والأحجار الثمينة. وكان صوت يحيي يتردد داخل جدران السجن: لا يحل لك أن تتزوج امرأة لها بعل.. لا يحل لك يا هيرودس أيها الظالم.. أيها الغاصب! صالة الاحتفال مزدحمة بالفتيات.. بالرجال.. وبدأت الموسيقي تصدح. كان هيرودس جالسا على العرش، وزوجته الجديدة جالسة الى جانبه عيناها تبرقان بالتآمر والشر. هيرودس يتجرع كؤوس الخمرة المعتقة. ودخلت فتاة جميلة جدا، ترفل بثياب حريرية ملونة. هب هيرودس واقفا وخاطب زوجته الجديدة: - ابنتك جميلة جميلة جدا. قالت المرأة بمكر: - سالومي سترقص من أجلك. هتف الحاكم منتشيا. - من أجلي؟! - نعم من أجلك. - اقتربت سالومي وقالت بدلال: - سأرقص لك. وهتف الحاكم: - أعطيتك نصف مملكتي. وهنا.. قالت سالومي له: - بل أريد ما أشاء. - بل سأمنحك ما تشائين. وراحت سالومي ترقص بقدمين عاريتين! كان هيرودس مفتونا بكؤوس الخمر! قالت المرأة اليهودية: - سأزفها لك. وجن هيرودس: واقتربت سالومي أكثر قالت: - أريد ما أشاء.. كما وعدتني. وصاح هيرودس مفتونا: - اطلبي! أعطيك نصف مملكتي. قالت سالومي وهي تتلوى كالأفعى: - أريد رأس يحيي.. يحيي بن زكريا! - كلا.. كلا.. اطلبي ما تشائين.. أعطيك عرشي. قالت الأم بخبث: - ولكن يحيي لن يسمح لك بالزواج من سالومي. - يحيي يمنعني! - نعم يحيي. قالت سالومي: - أريد أن تقدم لي رأس يحيي في طبق من الفضة. صفق هيرودس، وعيناه تبرقان بالشر، توقفت الأنغام. صاح هيرودس: - الى بالسجين!! احضروا يحيي. فرّت الفتيات من الصالة. تحولت صالة الاحتفال الى محكمة مخيفة. وأحضرت الشرطة يحيي.. كان مكبلا بالسلاسل.. وجهه يضئ بنور سماوي. مثل غيمة بيضاء كان يتألق. صاح هيرودس: - لقد تزوجت هذه المرأة.. إنني حاكم هذه الأرض! قال يحيي بغضب: - لا يحل لك.. صاح هيرودس: - وسوف أتزوج ابنتها.. سوف أتزوج سالومي. هتف يحيي: - لا يحل لك.. لا يحل للرجل أن يتزوج امرأة ذات بعل.. لا يحل للرجل أن يتزوج ربيبته. صاح هيرودس بحقد: - سأقطع رأسك.. حتى يخرس صوتك. هتف يحيي بصوت هز جدران القصر: - لا يحل لك! لا يحل لك. صاح هيرودس: - أيها الجلاد اقطع رأسه فورا. وهوى سيف غادر لقطع رأس النبي، وحدث شئ مدهش، رأس يحيي يتحجر فوق البلاط المرمري وصوت يصيح: - لا يحل لك! لا يحل لك.. لا ي.. ح.. لّ. شعر هيرودس بالخوف فأمر رجاله بإطفاء المشاعل واللحاق به. استشهد يحيي ولكن كلماته ظلت تدوي داخل القصر وفي المدينة. لقد بشر يحيي بأنبياء سيأتون بعده.. وكان يحيي أول من صدّق نبوّة عيسي وبشّر بقدومه. قال سبحانه في القرآن الكريم: (وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّا). قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله عنه: "ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيي بن زكريا". وقال عنه أيضا: "ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيي بن زكريا" صدق رسول الله. وعندما سمع سيدنا المسيح بالنبأ حزن كثيرا وقال: "لم يقم في مواليد النساء من هو أعظم منه". مات هيرودس ولكن الشرور ظلت مستمرة واليهود غارقون في ضلالهم. وقرر عيسي بن مريم أن يعود الى فلسطين، وسكن مع والدته قرية في جبال "الجليل" تدعى "الناصرة" وهنا جاءه الملاك وأمره بتبليغ رسالة الله، كما تنبأ سيدنا يحيي بأنه سيجيء من بعده من هو أقوى منه! هذا ما روي عن سيدنا يحيي عليه السلام و"يوحنا المعمدان" في كتب كثيرة لابن كثير وأحمد بهجت وخالد محمد خالد وغيرهم.. لكن حينما يروي التاريخ قصة سالومي كاملة فإنه يروي لنا ما يشيب له رأس الولدان، فقد اشترطت سالومي لكي ترقص عارية تماما كما ولدتها أمها أن يأتوا إليها برأس النبي الطاهر على طبق من فضة لترقص به وحوله رقصتها الأخيرة، وكان لها ما أرادت!! كان انتقام سالومي البشع مرجعه الوحيد الى رفض سيدنا يحيي غرامها له والزنا بها، لكنها بعد أن رقصت رقصتها الأخيرة قيل أنها حاولت التوبة وفقدت عقلها وأصيبت بالجنون من هول جريمتها!!