سهير عبد الحميد يبدو أن مناقشاتنا لأى قضية فى الوقت الراهن لابد وأن تنتهى إلى اتهامات بالعمالة وتلقى التمويلات، هذا ما حدث فى الجمعية التاريخية المصرية أخيرا بعد طرح عرض الجمعية التاريخية التركية التعاون المشترك مع نظيرتها المصرية من خلال بعثات للباحثين المصريين إلى أنقرة وإجراء دراسات تاريخية مشتركة، هذا العرض نظر إليه بعض الباحثين وأساتذة التاريخ بوصفه عرضا مشبوها فى تلك الفترة الحرجة والظرف السياسي الراهن الذي أصبحت فيه تركيا دولة غير صديقة بالنسبة للنظام المصري، فى الوقت الذي نظر بعض الأساتذة إلى هذا التفسير بوصفه تزايدا غير مقبول وادعاء غير مبرر للعنترية بوصف الجمعية التاريخية ليست مقرا لوزارة الخارجية، وإنما هى جمعية علمية من حقها الاستفادة من الوثائق التى تخص التاريخ المصري والموجودة بالفعل فى الأرشيف التركى. وجهة النظر الأخيرة تبناها د. محمد صبري الدالى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب حلوان وعضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية المصرية، الذي يقر بأن أردوغان رئيس الوزراء التركى يتقمص شخصية الخلفاء العثمانيين، ويرغب بشدة فى السيطرة على المنطقة، ولكن بدون احتلال عسكرى كأسلافه الخلفاء بل هو يفعل ذلك من منطلق الزعامة الإسلامية، وهو فى هذا يستحضر وبقوة روح السلطان عبد الحميد الثانى من خلال ترويجه لفكرة الجامعة الإسلامية التى يكون هو فيها خليفة المسلمين، وقد بدأت محاولات التقرب التركى من المنطقة التى كان لتركيا فيها تاريخ بعيد فى محاولة لعمل توازن فى العلاقات الدولية، بعد أن فشل الجانب التركى فى إقناع أوروبا بالانضمام إلى اتحادها، ولذا عندما جاء أردوغان إلى مصر أكد فى خطابه «أن الأتراك لا يأتون من فراغ وإنما لديهم تاريخ عثمانى طويل» وعلينا أن نضع فى الاعتبار أن تركيا تقوى شيئا فشيئا ولديها إستراتيجية وقد استغلت فى هذا الضعف فى المنطقة العربية، كما أن أصحاب الأصول التركية فى المنطقة يلعبون دورا كبيرا فى هذا الصدد ومنهم كمال الدين إحسان أوغلو الذي تربي فى مصر ويتحدث المصرية وتخرج فى جامعة القاهرة ثم عاد إلى تركيا، ليس الخطير هو أمنيات وطموحات أردوغان لكن الأخطر هو ضعفنا وقد استغلت تركيا صعود التيارات الإسلامية ووجدته صيداً ثمينا يتيح لها تنفيذ إستراتيجيتها فى المنطقة. العثمانية الجديدة ويؤكد د. صبري الدالى نظرية «العثمانية الجديدة» التى تحاول استدعاء الزعامة العثمانية من التاريخ ليس بشكل تورانى أو أتاتوركى لكن بشكل أردوغانى، أما العرض الذي تقدمت به الجمعية التاريخية التركية، فكان عرضا غير رسمى عرضه أحد الأساتذة على سنمار التاريخ العثمانى بالجمعية، وقد اقترحت الأمر على أعضاء السمنار للتصويت إما بالموافقة أو الرفض أو التأجيل حتى تتغير الظروف السياسية بين مصر وتركيا وحتى نستوعب أهداف التعاون المطروح وآلياته، وكان رأيى الشخصى أن الأتراك وجدوا فى مصر والمنطقة لمدة 400 سنة، وهى حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها وجزء كبير من وثائقنا موجود فى الأرشيف العثمانى وكذلك المخطوطات التى قام الأتراك بنهبها فى مصر إبان احتلالهم لها منذ القرن السادس عشر، وبالتالى فإن بروتوكول التعاون مع الجمعية التاريخية التركية قد تكون له فوائد كثيرة فى مجال الدراسات التاريخية، وفى كل الأحوال فإن الأتراك يكتبون الدرسات التاريخية فهل نتركهم يكتبون ما يشاءون أم نتدخل حتى تتم كتابة الجزء الخاص بمصر فى التاريخ التركى بموضوعية؟. لكنى فوجئت بالنقاش العلمى يتحول إلى جدل سياسي من بعض الأساتذة المهتمين بالدراسات الأرمينية والذين يتخذون من قضية الأرمن وعدائهم للأتراك بسبب المذابح التى ارتكبها ضدهم العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولى سببا، ومناسبة لشن العداء ضد تركيا، ولذا كان رفضهم للتعاون مع الجمعية التركية نابعا من موقف سياسي يحابى الأرمن ويتجاهل مصلحة الدراسات التاريخية المصرية، وينبغى التأكيد أننى كمؤرخ ليس لى موقف سياسي ولست وزيرا للخارجية، بل أنا باحث فى الدراسات التاريخية ولا أقبل المزايدة على مواقفى وكتاباتى بالعشرات عن الغزو العثمانى والمشروع التركى وضرورة الانتباه له. تزييف التاريخ و «عثمنة» مصر من جانبه يرفض د. محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وعضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية المصرية ورئيس تحرير مجلة أريك الأرمينية، فكرة التعاطى مع جهة بحثية تركية لأسباب موضوعية وعلمية وأخرى تتعلق بالأمن القومى، متسائلا عن سر اهتمام الجانب التركى بالتعاون مع الجمعية المصرية فى هذا التوقيت بالذات بعد طرد السفير التركى من مصر، ويقول إن تركيا الآن دولة معادية تسعى لضرب إنجازات 30 يونيو بطريق غير مباشر وقد قامت من قبل بأسوأ تمويل يضر المصريين عندما انحازت إلى صف الإخوان، وهناك رغبة تركية لتحويل مصر إلى مجرد ترس فى الماكينة العثمانية الجديدة. ويستنكر رفعت الإمام أن يقوم رجال الأعمال بتجميد أموالهم واستثماراتهم مع تركيا ولا تتخذ الجمعية التاريخية موقفا وطنيا يتجسد فى رفض التعاون مع الجانب التركى، ويؤكد أن هناك اختراقا تركيا لأقسام التاريخ العثمانى، حيث يقوم بعض الأساتذة بكتابة دراسات لتلميع الوجه التاريخي لتركيا، وهناك مجلد عن العلاقات المصرية العثمانية صدر عن مركز بحوث الشرق الأوسط. تزييف التاريخ على ثابت صبري باحث دكتوراة بجامعة المنصورة وعضو الجمعية التاريخية وسكرتير تحرير مجلة آرييك الأرمينية، يؤكد أن تركيا نجحت فى وقف مركز الدراسات الأرمينية فى جامعة القاهرة أثناء حكم الرئيس مرسى، وتحاول من خلال المراكز البحثية المنتشرة فى الجامعات المصرية التركيز على فكرة إعادة دولة الخلافة، وهناك تمويلات دخلت الجامعات من خلال البعثات التركية وحدث هذا فى جامعة الإسكندرية فهم يقودون حملة لتزييف التاريخ حتى إنهم ربطوا تاريخ مصر الحديث بالدولة العثمانية برغم أن مصر منذ عام 1805 تعتبر دولة مستقلة من الناحية الفعلية، تركيا تحاول تفعيل مبدأ العثمنة الذي يرفض القوميات، ويعتبر مصر مجرد ولاية تابعة لكيان الخلافة برغم أن هذا غير واقعى فى حالة مصر بالذات لأن الشعب المصري لم ينصهر فى الجسد العثمانى بدليل أن المصريين ساندوا حركة على بك الكبير، وفى عهد محمد على أصبحت مصر ندا لأوروبا وكان محمد على أبواب الآستانة، لكن أصحاب العثمانية الجدية مصرين على الترويج لفكرة الفتح العثمانى لمصر ومصطلح الفتح «دينى» يرتبط بالغزوات فى عهد الرسول، وقد اتفقنا كباحثين فى مجال الدراسات التاريخية على عدم استخدام كلمة «فتح» فى تناول فترة الحكم العثمانى لمصر. ويضيف على ثابت: أن سلطة شيخ الأزهر عبر التاريخ كانت أقوى وأعظم من سلطة شيخ الآستانة وكل طلاب العالم كنوا يقصدون الأزهر الشريف، ثم إن الدولة العثمانية لم تكن بالقوة ولا التحضر حتى إنها لم تستطع التأثر بعصر النهضة الذي بدأ فى أوروبا، والدولة العثمانية لم تنشأ على أساس دينى، لكن السلطان عبد الحميد حاول استخدام ورقة الدين للحيلولة دون وقوع الدولة ولذا عندما قامت الأزمة الشديدة فى الآستانة 1909 اتهم النظام العثمانى المطالبين بوضع دستور يساوى بين المواطنين فى الحقوق، بأنهم المسيحيون الذين يريدون تفتيت الدولة علما بأن مذابح الأتراك ضد الأرمن والسريان بل والأتراك أنفسهم هى التى شوهت صورة الإسلام فى أوروبا وكانت مانشيتات الصحف الغربية تصدر بعناوين مثل: المحمديون يقتلون أنصار المسيح، المسيحية تموت فى الأناضول.