لم يعد خافياً أن إحالة 43 متهماً إلى محكمة الجنايات فى قضية التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى من بينهم 19 أمريكيا قد فجر العلاقات المتوترة أصلاً بين القاهرةوواشنطن .. ويبقى السؤال: هل من الممكن رهن علاقات البلدين والمخاطرة بها لأسباب ثانوية؟ سؤال يطرح نفسه بعد وصول العلاقات إلى حافة الهاوية، والتهديد ليس فقط من أعضاء الكونجرس الأمريكى، بل أيضا على لسان وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون بتجميد المعونة العسكرية البالغة 1.3 مليار دولار سنويا.. هل يوجد بديل لمصر ودورها فى المنطقة؟ فهى حائط الصد الأساسى ضد التطرف بجميع أشكاله بعد أن قادت معسكر الاعتدال لسنوات وأسهمت فى الحرب ضد الإرهاب والقاعدة، وكانت رأس حربة فى التعاون الاستخباراتى، كما أن مصر هى وسيط السلام الأساسى بين العرب وإسرائيل. لكن من الخطأ أيضا أن يتم تصوير المشكلة الحالية فى العلاقات على أنها الأولى من نوعها، فقد حدثت مشاكل كثيرة فى السنوات الماضية، لكنها لم تصل أبدا إلى طلب إقالة وزيرة فى الحكومة المصرية كما حدث أخيرا مع فايزة أبوالنجا وزيرة التعاون الدولى التى طلب أعضاء من الكونجرس بشكل علنى إقالتها، فقد سبق أن ثارت مشاكل فى العلاقات بعد سجن سعد الدين إبراهيم، وكذلك سجن أيمن نور، كما حدثت مشاكل مع مديرة المعهد الجمهورى عام 2006. ولعل من أبرز المسائل التى جرى فيها خلط أوراق كانت مقولة: إن هناك 18 منظمة تم إغلاقها، والحقيقة أنها ست منظمات فقط هى المعهد الديمقراطى والمعهد الجمهورى وفريدوم هاوس، والمنظمة الألمانية كونراد أيزنهاور، إلى جانب مكتبين لمنظمات مصرية يعمل بها محامون لمعهد الديمقراطية والمعهد الجمهورى، ولديهم أدلة تفيد التحقيقات، أى أن ما تم إغلاقه هى مقار لست منظمات فقط، أربع منها أجنبية وغير مسجلة فى مصر. ويشير مصدر مطلع أن تلك المنظمات قدمت بالفعل طلبات للتسجيل منذ عام 2005، لكن لم يتم الرد عليها لأسباب أمنية على الأغلب، وترك نظام حسنى مبارك السابق الحبل على الغارب لها للعمل فى مصر خوفا من الصدام مع واشنطن، لكن رفضت وزارة الخارجية الموافقة على تسجيلهم للمعرفة المسبقة بأنشطتها التى قد تكون مرتبطة بالمخابرات الأمريكية، وحدثت مشكلة من قبل مع مديرة المعهد الجمهورى فى 2006، وغادرت مصر ثم عادت مرة أخرى بعد عدة أشهر ولم يعترض أحد. وقد استمرأت تلك المنظمات العمل داخل مصر بعد الثورة دون ترخيص، وقامت بفتح 17 مقرا لها فى عدة محافظات بشكل استفزازى لسيادة الدول، خاصة وأن جزءا رسميا من المعونة الأمريكية تم وضعه تحت تصرفها ليستخدموها فى التدخل فى الشئون السياسية المصرية بشكل غير شرعى. لهذا تم إنشاء لجنة لتقصى الحقائق فى يوليو الماضى وانتهت من تقريرها فى سبتمبر وتمت إحالة الموضوع للنيابة لاستكمال التحقيقات. والغريب أن الولاياتالمتحدة التى صدعتنا بضرورة احترام سيادة القانون تراجعت عن ذلك وبدأت تتحدث عن ضرورة إغلاق التحقيقات وإعادة فتح المقار، وقامت آن باترسون، السفيرة الأمريكية بتوجيه هذا الطلب عبر خطابات واتصالات مع وزير العدل والنائب العام، مما يعد تدخلا غير مقبول فى الشئون الداخلية المصرية، وفى تحقيقات رسمية، ومحاولة الالتفاف على القانون المصرى. كما طلبت باترسون من المواطنين الأمريكيين الممنوعين من السفر بالإيواء إلى مقر السفارة لحمايتهم على الرغم من أنه لم يتم التحفظ عليهم أصلا وكل ما تم هو صدور قرار احترازى بمنعهم من السفر. وتعتبر منظمات المعهد الديمقراطى القومىWDI والمعهد الجمهورى الدولى IR مساندة وممولة من الحكومة الأمريكية، ومن دافعى الضرائب الأمريكيين، لكنهما ليستا منظمات حكومية، وهو ما يفسر سبب الهجمة الشرسة على المجلس العسكرى والحكومة المصرية لإغلاق مقارهما فى مصر والتحقيق معها فى تلقيهما تمويلا من الخارج، فهذا التصعيد الرسمى الأمريكى يؤكد أنهما ليسا منظمات غير حكومية فعليا وتركز هاتان المنظمتان بجانب منظمة فريدم هاوس على قضايا حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية والحقوق الدينية ولديها صلة وثيقة بالخارجية الأمريكية والكونجرس واللوبى اليهودى والإعلام. ويترأس IRI السيناتور الأمريكى ومرشح الرئاسة السابق جون ماكين، فى حين تعتبر مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة، عضو مجلس إدارة NDI. وتمثل الحملة الحالية معركة حياة أو موت ل IRI (المعهد الجمهورى الدولى)، وWDI (المعهد الديمقراطى القومى)، فلابد أن يبررا أسباب إخفاقهما فى مصر واختيار الناخبين للتيار الإسلامى وليس أى تيار آخر موال لواشنطن، ولابد أن تكون الشماعة هى التضييق عليها من الحكومة المصرية علما بأن عليها أن يبررا كيفية صرف 18 مليون دولار تلقتها IRI و14 مليونا تلقتها NDI فى عام واحد منذ ثورة 25 يناير. ويوضح مصدر مطلع أن المنظمات الأجنبية الأربع يمكنها تقنين أوضاعها بشرط أن تكتب تعهدا بالالتزام بالقانون المصرى بجميع بنوده فيما يتعلق بالحصول على التمويل وإنشاء المقار، مشيرا إلى أن هناك اجتماعات تتم بشكل مستمر فى وزارة الخارجية مع ممثلين لتلك المنظمات لبحث إعادة تقديم طلبات التسجيل والإشارة صراحة فى الطلبات أنها ستلتزم بالقانون. ويضيف أن مسألة تقنين الأوضاع والتسجيل تختلف عن مسألة سير التحقيقات فى التمويل الأجنبى وكيفية صرفه وهو موضوع خاضع للتحقيقات الفضائية حاليا. أما مسألة رفع الحظر عن سفر الأمريكيين فتخضع لقرار قاضى التحقيقات وليس لقرار الحكومة الأمريكية. ويشير المصدر إلى تصريح السيناتور جون ماكين، الذى ذكر فى 24 يناير الماضى. وينظر البعض إلى الخطوات التصاعدية التى تمت فى العلاقات الأسبوع الماضى على أنها خطوات فى طريق خلخلة شرعية المجلس العسكرى داخليا وخارجيا، بينما يرى آخرون أن العلاقات تمر بأزمة قد تصل إلى حافة الكارثة، ويرى فريق ثالث أن مستقبل العلاقات أصبح على المحك وأن الخطوات التى تم اتخاذها الفترة الماضية مثل إغلاق مقار ثلاث منظمات أمريكية هى المعهد الديمقراطى والمعهد الجمهورى وفريدوم هاوس ومنع سفر ثلاثة أمريكيين عاملين فى إحدى تلك المنظمات منهم ابن وزير النقل الأمريكى رام لحود هو القشة التى قصمت ظهر البعير فى العلاقات، وأن مصر تفقد أصدقاءها فى واشنطن. ويشير فريق رابع إلى أن الضغوط الأمريكية الأخيرة تزايدت بشكل يمس بالكرامة المصرية الوطنية، وكان لابد من ردود أفعال والإمساك بالمزيد من الكروت حتى تنخفض تلك الضغوط بعض الشىء. وتلعب واشنطن كالعادة بكارت المساعدات الذى أصبح مرهونا بتقرير تقدمه وزيرة الخارجية الأمريكية إلى الكونجرس فى الربيع القادم على الأرجح حول مدى التزام مصر بسياسة تحمى حرية التعبير والتجمع وإنشاء المنظمات وحرية العقيدة، وتلتزم بسيادة القانون، ولم يتم وضع موعد محدد لتقرير وزيرة الخارجية، لكن من المنتظر أن يتم تقديمه فى الربيع القادم، مما يعنى أن المعونة لن تصرف للأشهر المقبلة، وهو ما يدركه المجلس العسكرى. ويضيف المصدر أن واشنطن بيدها كروت أخرى للتصعيد منها إثارة المنظمات الدولية بالنسبة لحقوق الإنسان واستخدام قنابل غاز محرمة والقمع، وقد بدأت منظمة العفو الدولية «أمنستى» بالفعل حملة على المجلس العسكرى فى هذا الإطار. كما أن واشنطن يمكنها منع أو عرقلة المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدوليين وصندوق النقد الدوليين عن تقديم معونات أو قروض لمصر بجانب الاتحاد الأوروبى. أما أوراق الضغط المصرية فقد تم البدء فى جمعها وأهمها المنظمات الأمريكية العاملة فى مصر ومناورات النجم الساطع التى تجرى من عام 1983 بمشاركة عدد من الدول وهى الأكبر من نوعها، وملف عملية السلام والملف الإيرانى، ويتعامل المجلس العسكرى وكأن واشنطن لن تستطيع فى نهاية المطاف أن تلغى المعونة العسكرية لارتباطها أولا بالسلام المصرى - الإسرائيلى، ثانيا شركات السلاح الأمريكية واللوبى التابع لها فى الكونجرس ولأهمية مصر الإستراتيجية، وهو ما أكدته فايزة أبوالنجا، وزيرة التعاون الدولى فى تصريحاتها بأن الحكومة المصرية لن تقبل أية تهديدات أو شروط من أمريكا، وقولها إن المساعدات الأمريكية لمصر ليست منحا ولا هبات و إنما هى مبنية على المصالح المشتركة بين البلدين. وينفى مصدر دبلوماسى مصرى مطلع أن عمل شركات اللوبى لصالح مصر كان مرتبطا بمشروع التوريث، مؤكدا أن وجود شركات للوبى أو جماعات ضغط أمر عادى لأى دولة وليست بدعة، وقد تم اختيار شركة PLM للعمل لصالح مصر فى عدة ملفات داخل الكونجرس، أهمها أولا المحافظة على مستوى المعونات الاقتصادية والعسكرية، ثانيا دعم الدور الإقليمى المصرى، ثالثا الفتنة الطائفية داخل مصر وهى الموضوعات الثلاثة التى يركز عليها الكونجرس الأمريكى. وأشار إلى أنه تم إلغاء عقد شركة أخرى كان مع الهيئة العامة للاستعلامات يوم 12 فبراير الماضى بعد تنحى الرئيس السابق مبارك، لأنها كانت تركز على التأثير فى الإعلام الأمريكى لمساندة نظام مبارك وتم إلغاء العقد لأسباب توفير النفقات بعد أن انتهى سبب العقد. ويؤكد المصدر أن مصر هى التى قامت بإنهاء العقود من جانبها وليس الشركات التى تهتم بالربح المادى أكثر من أى شىء، لأن الخلاف حول عمل المنظمات غير الحكومية مستمر منذ أكثر من شهرين، فلماذا تقرر الآن الشركات إنهاء التعاقد؟ ويؤكد أنه سيتم فى الفترة المقبلة التعامل مع شركة أخرى للوبى لصالح مصر، لكن ليس الآن, لأن مصر تحتاج لجماعة ضغط مؤيدة لها ولسياستها داخل الكونجرس والإعلام الأمريكى.