لست مع المفتى العام للسعودية، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، فى أن التشهير بالمفسدين «ليس حلاً باعتبار أن للمفسد مسئولاً يعاقبه»، لأننا لا نملك السلاح لاجتثاث «الفسدة الذين استشرى فسادهم حتى أزكمت رائحته الأنوف، وأنهم يسرحون ويمرحون فى أوطاننا من دون عقاب، ما دامت قوانين العقاب بعيدة عن تشريعاتنا وثقافتنا، وتعاملاتنا، وإن وُجدت فهى لا تطبق إلا على بعض صغار الموظفين الذين استولوا على الفتات، حتى أصبح القول الدارج فى ديارنا «إذا أردت ألا ينالك العقاب، فلا تسرق ألفاً بل اسرق بليوناً تأمن وتسلم» . وقد روجت الأنظمة العربية لنظام الفساد «الفرعونى» ، الذى يقوم على تقسيم الشعوب وجعلها شيعا يستضعف بعضها، ويركب البعض الآخر، لأنه بإفساد طائفة من الشعب يكتسب فساد النظام شرعيته، ويطبع معه المستجيبين له، والخاضعين له من الشعب، وما حدث لمصر عبر 30عاما ليس ببعيد، فقد كانت أشبه بعزبة تباع فيها الأراضى بأسعار أرخص من أسعار الخضار، وتنزح ثرواتها للأعداء بأسعار شبه مجانية، ويعالج فيها الأغنياء بالخارج على حساب الفقراء الذين يتركون فى مستشفيات غير آدمية ليلقوا حتفهم جراء الفشل الكلوى والسرطان وفيروس «سى» الناجم عن تلوث المياه ورش المزروعات بمبيدات قاتلة، محرمة دوليا . كما أعطت الأنظمة شرعية استمرار جلوس «معدمى وأنصاف الموهوبين» على كراسى المسئولية لسنوات استبدوا فيها وارتكبوا أبشع أنواع الظلم والقهر، لا لشىء إلا لأنهم يقدمون الرشاوى والهدايا للكبار، وخانوا الله قبل أن يخونوا ضمائرهم وأوطانهم، وسخّروا سلطتهم من أجل تحقيق منافعهم الشخصية متناسين قوله تعالى “وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ “. إن عدم التخوف من فتح الملفات المشتبه بانطوائها على فساد، والتحقيق مع القائمين عليها ومحاكمتهم وإدانتهم- إن ثبت وجود فساد حقيقى على أساس «البينة» لا «الشبهة»، أو تبرئتهم إن لم يوجد ما يدينهم -هو الطريق الحقيقى لمكافحة الفساد، وهو الذى يخلق القناعة بوجود الرقابة الناجعة، ويشعر المواطنين بالطمأنينة على إدارة الدولة لأموالهم، ولعل حديث المصطفى «ص»: «إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كان قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا» أكبر دليل على ضرورة نزاهة الحاكم والمحكوم . ولأننا نعمل بمنهج النبوة" لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر. فإننا هنا فى مجلة «الأهرام العربى» سنستمر فى فتح ملفات الفساد وتعرية المفسدين والمرتشين مهما كانوا ومهما كلفنا ذلك من مشكلات ولدغات «دبابير بارونات الإعلان والإعلام» وحوارييهم وفلولهم، والتى بدأت بالفعل منذ أن فتحنا الملف.. مرة بالتهديد وأخرى بالوعيد، وعلى هؤلاء ومن يقفون خلفهم أن ينسوا المبدأ الذي عملوا به لسنوات فى عهد الظلمات وهو “ من أمن العقوبة أساء الأدب" . وفى هذا العدد نفتح ملف الهدايا التى قدمها بعض رؤساء مجالس إدارات الصحف «قربانا» لآلهة الفساد، ليستمروا على عرش مؤسسات تفننوا فى سرقتها ونهب خيرها، وأعطوا الفتات وما تبقى منهم – فى منة وتعال - للعاملين الكادحين الذين يواصلون الليل بالنهار فى المطابع والتوزيع والتحرير وغيرها من الإدارات، وهذا لا يعنى أن كلهم كانوا «فاسدين» وإنما هناك من عمل لصالح مؤسسته وللعاملين بها وخفض بند الهدايا وجاء من بعده من أوقفها تماما، كما أننا نرفض مقولة البعض منهم بأن مسألة الهدايا ورثها عمن قبله، وأنها ضرورة لتخليص المصالح، ونسوق له فى هذا المقام قول عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : “كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ» . وفى النهاية فإننا بحاجة لأن تتم مكافحة الفساد، بإجراءات تُقنِعُ بعدالة الرقابة ونجاعتها، فلا نقبل أن يُدان أحد أو يُحكم على أساس الشك، كقربان ليعزز الشعور بمكافحة الفساد، أو أن يُخلى سبيله أو يترك بتحقيق أو محاكمة لا يقنع بها قاص ولا دان. كما لا نقبل أن نختم حالنا بجملة النهاية الشهيرة لفيلم عاطف الطيب «ضد الحكومة» على لسان أحمد زكى «أنا ابن هذه المرحلة والمراحل التى سبقتها، هنت عندما هان كل شىء، وسقطت كما سقط الجميع فى بئر سحيقة من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة، كلنا فاسدون.. لا أستثنى أحداً حتى بالصمت، العاجز الموافق قليل الحيلة .. لأننا ببساطة نملك حاليا الفرصة لكى نعرى ونزيل الأقنعة عن الوجوه الكريهة وإنا لفاعلون» . وأخيرا .."الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" .