كان ونستن تشرشل أديبا بارعا وخطيبا مفوها حتى قبل أن يتولى رئاسة وزراء إنجلترا أثناء الحرب العالمية الثانية خلفا لتشامبرلين.. ولعل الكثيرين لا يعلمون أنه حاصل على جائزة نوبل في الأدب.. إلا أن أعظم عباراته الأدبية التي ألهبت مشاعر الإنجليز لمواجهة النازية في الحرب العالمية الثانية كانت يوم 13 مايو سنة 1940 أمام مجلس العموم وفيها: "ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والتعب والدموع والعرق.. أمامنا محنة من أخطر المحن وأمامنا أشهر طويلة من الكفاح والمعاناة".. تأملت هذه العبارة وقد قفزت إلى ذهني أثناء مناقشاتي مع بعض الطيبين حول فكرة قبول إعتذار الرئيس المخلوع والرضا بالفتات من حقوق الشعب المنهوبة والتي قد يقدمها مبارك وكأنها هبة من سعادته ، علينا أن نقبل أيدينا (وش وضهر) على كرمه الحاتمي (بالتنازل عنها).. كانت حجة الطيبين أننا في حالة إقتصادية سيئة وهناك ضغوط على مصر وعلى المجلس الأعلى لقبول هذا الخيار!!.. فقلت سبحان الله.. وهل نحن أقل من الإنجليز في القدرة على التحمل؟.. وهل ونستن تشرشل أشد إلتزاما بالمبادئ والمصارحة مع شعبه من المجلس الأعلى وهو المكون من خيرة جند الله في أرضه؟.. قد يسألني البعض لماذا تذكر تشرشل كمثال ولدينا في تاريخنا أعظم مثال في الثبات على المبدأ.. رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).. وقد تعرض النبي الكريم ومن آمن معه.. بل ومن ثبت معه ممن لم يسلم من قبيلته بني هاشم إلى أشد حصار إقتصادي عرفته البشرية ثلاث سنوات فلم يتخل عن إيمانه.. فإجابتي أن هؤلاء الطيبين سيقولون: "ومن منا كرسول الله؟.. إن ما تحمله هو وصحابته يفوق طاقة البشر" فكان لزاما أن أضرب لهم مثلا برجل وبشعب غير مسلمين أصلا.. إن الثبات على المبدأ قد يأتي بنتائج وخيمة على المدى القريب (حصار إقتصادي ، هروب رؤوس أموال ، فتن مدبرة من الأعداء) ولكنه يبني قوة عظمى أو إمبراطورية على المدى البعيد.. ولعل البعض يمكنه التأمل فيما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.. هل قطفوا ثمار ما ضحوا من أجله أثناء حياتهم؟.. لقد توفي رسول الله ولم يكن في بيته مال يذكر بل وكانت درعه مرهونة مقابل بعض الطعام.. إلا أنه بعد وفاته بعشرين عاما فقط امتدت الإمبراطورية الإسلامية وتوسعت على حساب أعتى قوتين عالمييتين ظالمتين آنذاك.. قد نعاني الآن بعض الشيء إذن ولا نقطف ثمار ما عانينا من أجله فاحتسبوا أجوركم عند الله تعالى أولا ثم ثقوا أن أبناءكم وأحفادكم سيجنون تلك الثمرة ولا شك وإن كنت على ثقة أن الأمر بالنسبة إلينا أقرب من ذلك البراجماتية إذن لا تتوافق مع روح الثورة (وبالمناسبة فمصطلح البراجماتية إختراع أمريكي أول من استخدمه تشارلز بيرس في القرن التاسع عشر).. فالثائر الذي خرج يوم 25 يناير وهو يعلم أنه قد يفقد حياته دون أن يجني ثمرة جهده لو أنه فكر بصورة براجماتية لما قام بثورة أصلا ولبقيت بلدنا غارقة في الفساد والجهل ولتفاقمت مشاكلها الاقتصادية تبعا لذلك حتى ينقسم الشعب إلى فريقين لا وسط بينهما: أولهما قلة من اللصوص.. وثانيهما أغلبية من الشحاذين. نحن أمام خيار تاريخي لا يتكرر إلا ربما كل ألف عام.. لو قبلنا التحدي فستتحول مصر إلى قوة عظمى بلا مبالغة.. ولو فكرنا بطريقة المواءمات والمصالح القريبة التي يمكننا أن نلمسها بأيدينا في التو واللحظة (الطريقة البراجماتية) فسنفقد تلك الفرصة لألف سنة قادمة (إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما) ذلك الخيار هو: هل نحاكم مبارك محاكمة عادلة هو وكل المفسدين مهما كلفنا ذلك من تضحيات إعلاءا لقيمة العدل وليتأكد كل إنسان بعد ذلك أنه لا أحد فوق القانون والمحاسبة فيضمحل الفساد إلى أدنى درجاته وتشتعل حماسة المصريين في بناء وطنهم وهم على ثقة أن جهدهم لن يسرقه أحد منهم بعد ذلك.. ولو حاول البعض ذلك فالقانون سيكون له بالمرصاد؟... ألم يقل الله تعالى : (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) يعني يا أصحاب العقول المميزة.. أولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد)؟.. أم نقبل إعتذاره المفبرك والذي يعده أحد الكتاب الصحفيين الآن من المحسوبين على النظام السابق مقابل أن يلقي إلينا ببعض الفتات وكأنها صدقة منه على الشعب الغلبان وليست حقوق الشعب التي سلبها إياه على مدار 30 سنة عجاف.. وسيدعي حينها أن هذا كل ما في خزائنه.. ومن منا يصدق رجلا بلغ من العمر أرذله دون أن يصدق مرة قط مع شعبه؟.. حسنا.. في حالة قبلنا إعتذاره نيابة عن أنفسنا ، من سيقبله نيابة عن شهداء الثورة .. والعبارة.. والدويقة.. وقطار الصعيد.. والمبيدات المسرطنة .. وزاوية عبدالقادر.. وحوادث الطرق ذات النسبة الأعلى عالميا.. والعبارات المتهالكة التي تنقل الغلابة من البر الشرقي للغربي في النيل؟.. لو قبلنا اعتذاره.. هل سيكون لنا عين نرفعها في عين أي لص صغير بعد الآن؟.. هل سنعفو كذلك عن الضباط الذين يحاكمون الآن بتهمة قتل المتظاهرين وتعذيب المعتقلين حتى الموت؟.. أوليسوا مجرد منفذين لتعليمات مبارك؟ إلى أصحاب السعادة أعضاء المجلس الأعلى.. مهما كانت الضغوط عليكم.. ننتظر منكم عبارة واحدة وسنكون معكم على قلب رجل واحد.. عبارة واحدة وسنتحمل معكم كل الصعاب حتى نعبر مدة حصار شعب أبي طالب!.. عبارة واحدة حتى لا نخون دم الشهداء وحتى نحاكم كل لص بعد ذلك من غير أن يقول لنا: (إشمعنى المخلوع).. عبارة تقول: "ليس لدينا ما نقدمه سوى الدم والتعب والدموع والعرق.. أمامنا محنة من أخطر المحن وأمامنا أشهر طويلة من الكفاح والمعاناة"