يَا كَاتِبَ التَّأْريخِ قُلْ لي كَمْ حَوَيْتَ مِنَ العِظَاتِ الوَاضِحَاتْ؟ لَنْ يَنْفَعَ الحَمْقَى جُيُوشُ حِرَاسَةٍ فَنِهَايَةُ الطُّغْيانِ وَاحِدَة.. «من قصيدة الطريدة لعبد الرحمن يوسف» تحتفل كل من تونس ومصر بالذكرى الأولى لقيام ثورتهما، وأهم ما يستوقف المؤرخين غياب تأريخ وتوثيق للثورة المصرية، في الوقت الذي تعرف التونسيّون على ملابسات وأسرار ما حدث في14 يناير، يوم هروب الرئيس السابق بن علي. وهناك مشروع يتيم ترعاه وتنفذه دار الوثائق القومية لكنه يواجه بالعديد من المشكلات أبرزها صعوبة الحصول على الوثائق الحكومية، خصوصا وثائق وزارتي الداخلية والدفاع. فلماذا هذا الصمت في ظل وجود شخصيات مثل المشير طنطاوي واللواء عمر سليمان كانا على علم بكل كبيرة وصغيرة أحاطت بتنحي مبارك؟ وعلى أيّ نحو نفهم صمتهما: هل هو تعاطف مع الرئيس المخلوع أم خوف من تداعيات الاعتراف، أم أن الإعلام والمؤرخين لم ينجحوا بعدُ في اقتحام هذه الأسوارالعالية ؟ ثم هل من حق أي مسئول في مصر، قانونيا وأخلاقيا، الامتناع عن كشف كواليس الثورة التي لا تعد ملكا للمصريين وإنما للعالم والإنسانية؟ هي تساؤلات عديدة تبحث عن الحقيقة وإجابتها تحلّ العديد من الألغاز. وفي مقابل هذه العراقيل في مصر نجد أن التليفزيون التونسي نجح في تقديم فيلم وثائقي مليء بالشهادات التي لم تغفل أية جوانب في تلك الأحداث لتكشف الأسرار على لسان العشرات من الشخصيات، كلّ من موقعه، بدءا من الرئيس المؤقت والوزير الأول ووزير الدفاع، وصولا إلى أصغر موظف وعامل في القصر الرئاسي بقرطاج، مثل عامل تحويل التليفونات في غرفة عمليات القصر والحاجب والسائق وضباط الأمن.. إلخ.. فقد تعرفنا مثلا على جميع المعلومات حول الرحلة الأخيرة من مطار العوينة العسكري إلى مطار جدة، من ذلك ما دار بين الرئيس السابق وأفراد أسرته والطيار والمضيفة .. وكيف شعر بالجوع، ولم يكن هناك ما يأكله، كما طلبت ليلى الطرابلسي من المضيفة أن تجمع فرشاة الأسنان والصابون من الطائرة وتحضرها لها، وروى خادم الرئيس أنه نسي إحضارأدوية القلب «rithmonl» والكلى «josir » التي يتناولها بن علي، ولم يتم جلبهما له إلا بعد ستة أيام من فرنسا . كما يروي الخادم الذي بقي معه في جدة طيلة ثلاثة أشهر كيف أن بن علي كان مكتئبا وصامتا، فيما كانت زوجته تنتقد عملية إيقاف عائلتها وتلحّ بالسؤال في كلّ مرة علاش شدّوهم، أي لماذا اعتقلوا أفراد أسرتها .. وكان يجيبها يتحملّوا مسئوليتهم .. القانون توه يقول كلمته ....كما عرفنا بالمشادات بينهما ..وكانت ليلى تتّصل بابنتها سيرين زوجة صخر اللاجئة بكندا عبر برنامج «السكايب» المجاني، كما علمنا بالتحاق محمد نجل بن علي بالمدرسة الفرنسية في جدة . وحكى الخادم كيف رفض بن علي وجود مصريين لخدمته وقال ماعنديش ثقة في المصريين، وأرسل له صهره صخر الماطري خادما من بنجلاديش.. وكشفت شهادات الشهود أيضا عن أبطال كانوا مجهولين في الثورة، وبرز اسما العقيد سامي سيك سالم في أمن الرئاسة والمقدم سمير الطرهوني. سيك سالم هو رئيس فرقة حماية قصر الرئاسة بقرطاج ، تحمّل مسئوليّة تاريخية بعد غياب المسئول الأول عن أمن الرئاسة علي السرياطي، حيث تم القبض عليه، واختفاء المسؤول الثاني عدنان الحطاب الذي نصح زميله بالهروب قائلا بالحرف «اشوف تركينة وتخبي راسك»، وقام سيك سالم بالاتصال بمحمد الغنوشي عصر الرابع عشر من يناير فكانت المفاجأة الكبرى أن الوزير الأول لا علم له بهروب بن علي، فأرسل له سيارة رئاسية جاءت به إلى قصر قرطاج، حيث وجد فؤاد المبزع وعبد الله القلال قد وصلا، وقام سيك سالم بتأمين تسجيل كلمة الغنوشي إلى التليفزيون الذي بثه في حدود السابعة مساء، معلنا توليه الرئاسة مؤقتا مستندا على الفصل 56 من الدستور، واستمر عدة ساعات فقط في المنصب لاستحالة تطبيق الفصل 57 آنذاك والذي ينص على اجتماع المجلس الدستوري لإقرار فراغ في منصب رئيس الجمهورية وتعيين رئيس مجلس النواب رئيسا مؤقتا، لكن تم تدارك ذلك في الغد والعودة إلى الفصل 57 من الدستور، حيث تولى رئيس مجلس النواب الرئاسة مؤقتا.. أما أكبر مخاطرة فتمثّلت في إغلاق العقيد سيك سالم التليفون في وجه الرئيس الهارب عندما اتصل من الطائرة ، ليقضى على إمكانية عودته . وما كان من المخلوع إلا أن اتّصل بالغنوشي وهدّده بالانتقام منه مدّعيا أنه سيوصل أسرته لأداء العمرة ثم يعود خلال خمس ساعات! وبالمثل حملت اعترافات الغنّوشي إدانة مباشرة لبن علي، حيث كشف عن فحوى مكالمة معه أخبره صباح ذلك اليوم بنيّته إخماد الانتفاضة بالقوة حتى لو سقط ألف من المتظاهرين، وذهل من ذلك الوجه الدموي للرئيس السابق! كما كشفت وثائقية الثورة عن العمل البطولي الذي أقدم عليه سمير الطرهوني من فرقة مكافحة الإرهاب مع عناصر من فرقته ودون إذن من رؤسائه في وزارة الدّاخلية حيث أوقف هروب أفراد أسرة بن علي والطرابلسي من مطار قرطاج وقبض عليهم . وظن وزير الداخلية أنه إزاء تمرّد من فرقة مكافحة الإرهاب. ولاشكّ أن هروب بن علي قد جنّب تونس الكثير من الدماء، فالجبن نعمة أحيانا، كما أسهم ابتعاده في تحقيق تقدمّ سياسي، فجرت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي قارب حاليا على الانتهاء من صياغة الدستور كما شكّلت حركة النهضة الحكومة بينما اختير الرئيس المؤقت من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. صحيح أن الحكام الجدد يواجهون تسونامي أمن المشكلات قد تؤدي إلى انتكاسات، فإن الخطوات التي حقّقتها تونس تتجاوز بلا شك ما حقّقته مصر بأشواط.. فهل تعرفون لماذا؟ لأن النظام في تونس سقط جملة وتفصيلا ..أما في مصر فمازال جزء من النظام يقاوم السقوط ويراهن على إخفاء الأسرار! كاتبة تونسية