انطلقت فاعليات الدورة الثالثة والأربعين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، بعد إلغاء دورته الماضية بسبب اندلاع ثورة 25 يناير، بمشاركة 29 دولة بينها تونس ضيف شرف هذا العام، ونحو ألفى دار نشر عربية ومصرية وأجنبية، ويدور المحور الرئيسى للمعرض هذا العام حول «ربيع الثورات العربية». وفى إطار الاستعدادات الجارية للاحتفال بالثورة المصرية، يغلق المعرض أبوابه أمام الجمهور يومى 25 و26 من يناير، على أن تستأنف أنشطته بعد ذلك حتى السابع من فبراير المقبل. وفى محاولة للإطلال على الثقافة التونسية فى اللحظة الراهنة نجرى هذا الحوار مع الشاعر والروائى والمترجم التونسى محمد على اليوسفى، حيث يمتلك رؤية خاصة عن الثورة وعن المشاركة التونسية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، فهو يرى أن الثقافة ليست لها أية أولويات على أجندة التغيير، وأن المثقفين الذين نالوا الأوسمة من نظام زين العابدين بن على ينتظرون الأوسمة من الثورة. «الأهرام العربى» التقت اليوسفى وكان هذا الحوار.. هل ظهرت أعمال إبداعية تواكب الثورة التونسية أو تتناول ما جرى؟ طبعا؛ وكما تكون «أعمال المواكبة» فأغلبها مطبوع باللحظة الراهنة. وفى رأيى أن كتابات الثورة مبثوثة فى الكثير من الكتابات التونسية منذ «الاستقلال». أما فى الوقت الحالى فإن الكتابة الشعرية هى التى أبرزت بعض النصوص نظرا لتميز الشعر بقدرة أسرع على التفاعل مع الحدث، وإن كان ذلك أمراً ذا حدين؛ أى أنه يتضمن احتمالات الجودة والرداءة. أما بالنسبة للرواية فربما كانت النصوص «المخبّأة» قبل الثورة هى الأنضج فنيا، مع احتمالات التنقيح فى آخر لحظة طبعا. فى حين أن بعض الكتابات أنجزت للثورة خصيصا وهنا مجال للحديث عن المتاجرة المرحلية بكل شيء. هذا الكلام ينطبق على منجزات الفنون الأخرى مثل السينما والمسرح والغناء. ولعل الغناء، وباسم السيدة الثورة، قد تنكّب مشقّة الصراخ التبريرى لوجوده، على خطى الذين فهموا الحرية كما شاءوا. الكثيرون يشعرون أن لديهم رسالة يودون توصيلها، وموقعا يريدون بلوغه، لذا يسيطر الموقف على حساب الأداء الجمالي، والخطاب المباشر على حساب الشكل الفني. أما الكتب التوثيقية فهى عديدة ولا تدعى أكثر من ذلك. وهى باللغتين العربية والفرنسية. كان الشعار الأساسى الذى رفعته الثورة التونسية مستمدا من» أبى القاسم الشابي» :إذا الشعب يوما أراد الحياة»هل يعنى هذا أن الشعر كان له الأثر الأقوى فى تغذية الوجدان الشعبى التونسى أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى؟ تردد هذا السؤال كثيرا، وأخذت الاستنتاجات أكثر من حجمها، ولا أعتقد أنه يمكن الحديث عن وجدان « معبّأ « بالشعر. بيت الشابى ذاك لم يأت مباشرة من ديوانه فقط ، بل من محفوظات المدارس ومن النشيد الوطنى أيضا: وهذا أمر مهم جدا، من أجل عدم تضخيم دور الشعر المسكين! لقد استخدم مطلع قصيدة الشابى بوصفه شعاراً سياسيا، لأنه دخل فى التركيبة الثقافية والخطاب الجمعي. النشيد الوطنى يجمع أصلا بين شعر الشابى وشعر الرافعي. أى أن الشابى كشاعر يسكن فى بلاده، تونس، محشورا ببيتين داخل قصيدة لمصطفى صادق الرافعى تشكو من كسور فى بحر المتقارب! وهو ما يعكس الصورة الخفية لكثير من التناقضات التونسية المحتفية بذاتها شكلا والمحتاجة إلى غيرها ضمنا ( يحدث لدى فئات واسعة لدينا أن تهاجم مصر والشرق إجمالا، وتتغذى من آهاتهما!) لكن من المهم جدا، أن اللغة الفرنسية لا يمكن تطويعها وإسكانها فى مثل هذا النشيد أيضا (!) لماذا يبدو» الشابي» هو الشاعر التونسى الوحيد الذى تجاوزت قصيدته الأفق التونسى إلى آفاق عربية واسعة؟ ربما لأنه شاعر ملهم؛ أليس كذلك؟ أى من ذلك الصنف الذى يعيش قليلا ويعطى كثيرا. لكننا وحتى لا نظلم الشعر التونسى نجد أسماء كثيرة أبدعت شعريا ولم تنل حظها من الشهرة. ويعود ذلك إلى أننا بلد ليس ذا وجدان شعرى أولا، كما أزعم، ولم يعرف عن السلطات المتعاقبة أنها شكلت دعامة ضمن آلاتها الإعلامية لاحتضان الشعر، ثانيا؛ بل هى أسهمت فى تدميره أحيانا بتقريب عكاظيات المداحين والتسبب فى جنون البعض وموت غيرهم ( خلال عهديْ بورقيبة والرئيس المهرّب) أما الشابى فلم يزعجه أحد لأنه أقام فى دولة « الاستقلال» كبيرا شهيرا، لكنه كان ميتا طبعا، أى غير مزعج. ولو حكمنا بالخلاف وقلنا: « لو كان الشابى حيًّا...» لتوقعنا كل شيء، إذْ كان الرئيس الأسبق بورقيبة، وهم يحاولون الإعلاء من شأنه اليوم لافتقادهم الأب، لا يوفر فرصة لتقزيم الشابى وإرجاعه إلى دائرة نشأته المحلية فلا ينفك يسميه «بلقاسم» ( يفضل هنا حرف الجيم المصرية بدل القاف لتجسيد الصوت) فالبلاد لا تتحمل كبيريْن اثنيْن. كيف كان المشهد الثقافى التونسى قبل الثورة؟ يبدو أنه كان أعراسا موسمية ومصاريف غير منتجة ولا مشجعة إلا على التسلية والسياحة الثقافية وملء ثغرات التفكير. حتى إن الشعر لا يُقرأ غالباً، إلا فى قاعات مخصصة لمريديها. ورغم ذلك شق البعض طريقه غير المعبدة بعيدا عن إغراءات الدعم، خصوصا فى المسرح. لكن من الضرورى أيضا الإشارة إلى أنّ من لم يتلقَّ دعما داخليا سعى إلى البحث عنه فى الخارج، ضمن أجندات ثقافية لها رأيها فى التمويل طبعا. وكان المشهد الداخلى عبارة عن شبكة كبيرة استدرجت المثقفين والأكاديميين( إلا قلة قليلة) للانخراط فى اللعبة وتلقى الأوسمة من رئيس جاهل يقترح عليه مستشاروه أسماء كبيرة وأخرى للتحييد ( تونسيا وعربيا طبعا) كم عددُ الكتاب التونسيين الذين لم يوسمهم زين العابدين بن على ياترى؟ أما الموسّمون السابقون فإن أغلبهم ينتظر أوسمة الثورة حاليا! هل هناك إستراتيجية ثقافية جديدة فى تونس تتناسب مع الثورة كفعل إبداعى خلاق؟ هذا سؤال كبير فى وقت ضبابى مرتبك. الهيمنة للسياسة الآن. إذْ صار يناقش فيها و«يثريها» حتى الرياضى والكوميدى والصحفى المنظّر، وكل من هب ولم يكتفِ بالدَّبّ. ولعلّ السؤال الثقافى يعدّ ترفاً فى وقت يصيح فيه الناس من أجل التشغيل وتحسين ظروف العيش. إضافة إلى تعقيدات أخرى تخص تونس تحديدا وتتعلق بالتجاذبات الحادة حول مفهوم الثقافة بين الحداثة والمحافظة من جهة، وبين التعريب والفرنكوفونية، مع تهم جاهزة قد تسارع إلى اعتبار كل تعريب هو رجعى بالضرورة، وجاذب إلى الوراء، وتربة خصبة لنيات التيار الإسلامي. المرحلة الانتقالية السابقة حاولت الترميم وليس وضع إستراتيجيات جديدة. والمرحلة الجديدة تسير بقوة العادة، وإن كانت تجتهد أحيانا فى اختيار رموزها. هكذا تتواصل الملتقيات والمهرجانات بنفس الوتيرة الاحتفالية، مع فشل لبعضها كما حدث فى مهرجان ثقافى صحراوى أخيراً، عادة ما تركض فيه الجمال وتطارد فيه كلاب السلوقى أرنباَ، من أجل إبهار السيّاح، فى بلد تخونه السياحة حاليا. ولا شك أن المسألة الثقافية ليست من الأولويات حاليا، يضاف إلى كل ذلك أن الثقافة تحديدا تحتاج إلى عقود زمنية لتأتى بثمار أى تغيير. مع صعود التيارات الإسلامية فى العالم العربى هل تلمح بوادر خطر يقيد حرية الإبداع نريد الحديث عن الحالة التونسية تحديدا؟ فى المستقبل المنظور لا أرى شيئا من ذلك فى تونس. وحتى حالات الصدام التى وقعت كانت حركات خرقاء للحداثويين الذين قفزوا من برج إيفل الباريسى لاختبار حرية الإبداع فى تونس، فعاقبهم الشعب عبر صناديق الاقتراع ! أما فى المستقبل البعيد فكل شيء وارد، خصوصا إذا تمّ توخى سياسة القضم والهضم، إلا إذا تعلقت همة الإسلاميين فى تونس بإرساء « نموذج تونسي» استثنائي، أو مستوحى من تجارب إسلامية أخرى رائدة؟ كيف ترى أهمية المشاركة التونسية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب كضيف شرف؟ شخصيا لم أسمع بهذه المشاركة إلا من مواقع النت؛ وسمعت من صديق ليبى مقيم فى تونس أن وزارة ثقافة مصرية راسلت وزارة ثقافة تونسية ( أرجو ألا تضاف ألف ولامً لكلمة «ثقافة» المضافة للوزارتين!) والطبخة تجهز كالعادة. أما الحديث عن المشاركة وأهميتها فلن تتجاوز فى رأيى مستوى المجاملات الاحتفالية الرسمية. مع «شوية» بهارات ثورية! هل تسهم مثل هذه الفعاليات فى تجسير الهوة بين الشرق والغرب؟ هذه الفعاليات كانت تجرى فى الماضى أيضا. ولا حاجة إلى الشيطنة المطلقة للحكام السابقين. الهوة سوف تبقى هوة إنْ لم يتم النظر إليها وفق رؤى جديدة لن تظهر نتائجها فى المستقبل القريب. كيف ترى صناعة الكتاب فى تونس؟ وماذا عن حركة النشر عموما؟ تتكاثر دور النشر الصغيرة ولا أراها تكبر بسهولة، سوقها ضيقة جدا والقارئ نادر، وهى تضطر إلى النشر الممول من المؤلف. والأصعب أنها غير قادرة على المنافسة حتى الآن خارج حدود البلاد. وهى تعانى أيضا ضعف الإقبال المحلى على الكتاب المترجم الذى يشكل حماية جزئية لأى دار نشر. ضعف توزيعها قد يؤدى أيضا إلى ارتفاع أسعار كتبها، ليشكل كابحا سواء أمام القارئ المحلى النادر حقا، أم فى مجال منافسة دور النشر العربية، هذا إذا نجح البعض فى تأمين مصاريف السفر. وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالذكر، وهى أن دور النشر التونسية تكاد تقتصر على نشر المؤلفات التونسية، وهذا الأمر يحد من انتشارها عربيا على الأقل، كما يحدث فى عدة بلدان عربية على غرار لبنان فى المقدمة وتليه سوريا ومصر. وهذه الملاحظة تنطبق على المجلات الثقافية التونسية التى عاشت منغلقة على نفسها طيلة العقود الماضية وفق سياسة البلاد طبعا. هل من ملاحظات أخرى؟ الرؤية النقدية التى قد تبدو متشائمة للبعض، ليست إلا محاولة لوضع الملح على الجرح بعيدا عن المدائح التى كانت فى السابق تحتفى بكل ما هو تونسي، وبدأت بعض ملامحها تتكرر باسم الثورة هذه المرة، لأن التغييرات السياسية تعدُّ فى منتهى السهولة مقارنة بتغيير العقليات. وربما حان الوقت لنعترف بأن الثقافة التى كان يقال عنها إنها قادرة على التغيير هى أيضا قادرة على صنع الطغاة. الاحتفال بمئوية محمود المسعدى تتراوح المشاركة التونسية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب بين إقامة الندوات و الأمسيات الشعرية، إضافة إلى وجود عدد من دور النشر فى الجناح الخاص بتونس كضيف شرف هذه الدورة، حيث يتم عرض حوالى 250 عنوانا جديدا. من الضيوف المشاركين فى المعرض، الشعراء آدم فتحى والمنصف الوهايبى وفوزية العلوى وغادة بنت طراد، وأستاذة الأدب فاطمة الأخضر، والروائية عروسية النالوتى، وعلى هامش المعرض تقام عروض موسيقية وسينمائية، وندوات منها «الرواية والثورة» ومائدة مستديرة عن المدونين ودورهم فى الثورتين المصرية والتونسية، إضافة إلى ندوات أخرى عن «النشر والربيع العربى» والتقاطع بين الثورتين المصرية والتونسية. وهناك احتفالية خاصة بمئوية الكاتب الروائى محمود المسعدى، الذى قدمه طه حسين إلى الثقافة العربية فى خمسينيات القرن الماضى، ومن أشهر رواياته «حدث أبو هريرة قال».