بيانات المستخدمين رأس المال الحقيقى.. والتوظيف السياسى إستراتيجية أمريكية يثير تعامل الأفراد والجماعات والدول مع وسائل ومنصات التواصل الاجتماعى منذ ظهرت إلى حيز الوجود مطلع القرن الحالى، العديد من التساؤلات حول الطريقة الأمثل للتعاطى مع هذه المنصات لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، وتجنب ما يمكن أن تتسبب فيه من أضرار؛ وعلى الرغم من المحاولات الجادة والدؤوبة للعديد من الباحثين والمؤسسات المتخصصة، لم يتم التوافق بعد على الأسلوب الأمثل لاستخدام هذه المنصات التى أضحت تشكل نسبة لا يستهان بها من محتوى الفضاء الإلكتروني. برغم تواتر الدعوات التى تحض على الحرص فى التعامل مع هذه المنصات، فإن الغالبية العظمى من مستخدميها لم يلقوا لهذه الدعوات بالا، وربما كان السبب الأهم وراء عدم الاكتراث بهذه الدعوات، هو ما توفره هذه المنصات الإلكترونية من إشباع للعديد من متطلبات المستخدمين حتى بات انتشارها مذهلا، وأصبح ارتيادها جزءا من الروتين اليومى لمعظم سكان العالم المتمدن. الهاجس الأول كان الهاجس الأول الذى أثار ارتياب العديد من المتخصصين فى دوافع القائمين على هذه المنصات؛ هو الكم الهائل من المعلومات الشخصية والخاصة التى تعج بها، التى أصبحت ذات قيمة هائلة عندما بدأ استغلالها بشكل تجارى وعلى مستوى عالمي، وأصبح استغلالها تجارة حقيقية، وهو ما يمكن تفهمه، خصوصا أن تكاليف توفير الخدمة التى تقدم بلا مقابل مباشر للعملاء مرتفعة بالفعل، إلا أن انتقال استغلال هذه المعلومات الشخصية والخاصة لمئات الملايين من المستخدمين حول العالم من الصفة التجارية إلى الاستغلال والتوجيه السياسى، والتجسس بات التهديد الأول الذى تواجهه الدول والمؤسسات على مستوى العالم. تشير جينى ساسن، المحللة فى إحدى مجموعات الأبحاث العالمية، إلى أن ثمة خطأ فاصلا ضيقا بين مراقبة الأفراد وتتبع نشاطاتهم لأغراض البحث، وحتى عندما لا يكون التجسس هو الهدف الأساسي، فلا شيء يمنع أحدا من جمع معلومات تستهدف أشخاصا بعينهم، وتتضمن تحديد مواقعهم عندما يضعون منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. ما خفى كان أعظم! وفى ذات السياق أفادت تقارير إعلامية أخيرا، أن شركة جيوفيديا العاملة فى مجال توفير خدمات تحليل البيانات، عبر الاستقاء من قاعدة بيانات ضخمة لمشتركى تويتر وفيس بوك وإنستجرام، كشركات ومؤسسات أخرى تعمل فى ذات المجال، نالتها انتقادات من الهيئة الأمريكية للدفاع عن الحقوق المدنية، بتهمة مساعدة الشرطة على تتبع نشطاء خلال تحركات اجتماعية فى مدن أمريكية عدة، تعرض فيها رجال سود للقتل على يد عناصر الشرطة. وترتب على ذلك أن أوقفت كل من شركتي تويتر وفيسبوك إمكانية دخول الشركة إلى قاعدة بياناتهما. وبرغم أن رد فعل الشركتين يعكس - فى ظاهره - حرصا على حماية خصوصية مستخدمى منصاتهما؛ فإنه لا يمكننا تجاهل أن هذه الخطوة تطلبت انتقادا علنيا من الهيئة الأمريكية للدفاع عن الحقوق المدنية لشركة جيوفيديا تحديدا، ما يعنى ببساطة أنه لولا هذا الانتقاد العلنى لاستمرت الشركة فى ممارسة نشاطها المثير للريبة، كما أنه ليس بوسعنا أن نجزم ما إذا كان بين عشرات الشركات الأخرى التى تعمل فى ذات المجال، ولم تثر ضدها انتقادات تسلك نفس السلوك ولم يتم اكتشافه بعد، وهى شكوك لها بكل تأكيد ما يبررها. وقد أفادت وسائل إعلام أمريكية، أن الهيئة الأمريكية للدفاع عن الحقوق المدنية تطالب شبكات التواصل الاجتماعى ببذل جهود أكبر فى سياق حظر تطبيقات يمكن اللجوء إليها أدوات للتجسس، سواء من حكومات أم مؤسسات ذات توجهات منتهكة، ليس فقط لحقوق الخصوصية بالنسبة للمستخدمين، وإنما قد يتعدى هذا الانتهاك ليصل إلى تهديد أو إعاقة ممارسة الحقوق المدينة، وربما قد يصل إلى حد تهديد الحرية أو حياة بعض مستخدمى منصات التواصل الاجتماعي. وفى فترة سابقة، حظرت تويتر على أجهزة الاستخبارات الأمريكية استخدام برمجيات داتا ماينر المتخصصة فى تحليل التغريدات، ونقلت وسائل إعلام عن صوفيا كوب، المحامية المتخصصة فى شئون الحريات المدنية والتكنولوجيا فى مؤسسة إلكترونيك فرونتير فاونديشن، قولها: إن على الشركات معرفة زبائنها، وإن ثمة أسئلة ohw عليها طرحها فى هذا الإطار. إستراتيجية أمريكية ويعتبر التعامل المحتمل بين شركات التكنولوجيا وأجهزة الاستخبارات، من المواضيع المطروحة للنقاش بشكل متكرر. وقد تعرض القضاء الفرنسى فى الماضى لحالات شركات مثل إميسيس وكوسموس، إثر الاشتباه بقيام برمجياتها بالتجسس على معارضين لنظام الزعيم الليبى معمر القذافى فى ليبيا، أو نظام الرئيس السورى بشار الأسد، كما وجه اتهاما إلى مجموعة ياهو! الأمريكية العملاقة، بالتجسس على مضمون الرسائل الإلكترونية لمئات الآلاف من مستخدميها لحساب السلطات الأمريكية، بحسب ما نشر فى وسائل الإعلام حينها. فإن الدور الأمريكى فى هذا الإطار يبدو أكثر وضوحا وقوة، ففى دراسة حديثة للدكتور إبراهيم نوار، رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربى للبحوث، رأى أن الإدارة الأمريكية تتبنى إستراتيجية لنشر شبكة الإنترنت، وتعزيز ما سماه بالقوة السيبرانية لتحقيق مجموعة من الأهداف العامة، وخصوصا شبكات التواصل الاجتماعى فى العالم، وفى الساحات المعادية لها على وجه التحديد. ومن أهم أهداف الإستراتيجية الأمريكية - وفق نوار- ربط الأفراد والمجتمعات بشبكات التواصل الاجتماعي، التى هى أدوات التكنولوجيا السياسية، وفق تعبير إريك شميدت، مدير شركة جوجل العالمية. ويرى نوار أن هذه التكنولوجيا السياسية لعبت دورًا فى تحريك وتعبئة الاحتجاجات فى إندونيسيا عام 1998 لإسقاطسوهارتو، وفى احتجاجات هونغا كونغا عام 2014 لإسقاط الوصاية الصينية على حكومتها، وفى أحداث ما سُمى بال الربيع العربي، فمن يقرأ كتاب: كيبورد وميدان، الذى أصدرته المنظمة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عام 2012، يتأكد من ثنائية التكنولوجيا والسياسة، فالكيبورد (لوحة المفاتيح) له دلالة على مفردة التكنولوجيا، والميدان له دلالة على التأثير والدور السياسي، ومن هنا ليس مصادفة قول، أليك روس، المستشار التقنى لوزارة الخارجية الأمريكية: إن الإنترنت أصبح تشى جيفارا القرن الحادى والعشرين. الطرف الثالث لعل من أهم الصفات التى تتصف بها البيانات الخاصة بمستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى أنها فى معظمها بيانات معلنة، إذ يكفى لأى متابع دقيق لحساب شخص ما على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أن يعرف ميوله واهتماماته وتوجهاته، وآراءه الاجتماعية والسياسية وغيرها، بل شبكة علاقاته الأسرية والاجتماعية، والمناسبات الاجتماعية الأهم فى حياته، بل واستنتاج عمره ومتوسط دخله وهواياته، وربما تطلعاته وأحلامه المستقبلية. برغم أن الأمر يبدو للوهلة الأولى سهلا وبسيطا، فإن صعوبته تتبدى عندما تستهدف شركات ودولاً رصد وتحليل هذه البيانات، ووفق رأى المحامية الأمريكية كوب، فإن هذه الخدمات لها فائدتها، لكنها قد تتضمن تجاوزات، إذ إن كل شكل من أشكال المراقبة أو الترصد يطرح إشكالية، لكن الرقابة الحكومية أسوأ، لأنها تنتهك حقوقا دستورية للأفراد. أنت مراقب بموافقتك يتضح مما سبق أن مراقبة البيانات الشخصية الخاصة بمستخدمى مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاركتها مع آخرين الطرف الثالث، تتم بموافقة أصحاب هذه البيانات بالفعل، وهى مدرجة ضمن اتفاقيات ترخيص الاستخدام التى أشرنا إليها، وهو ما تؤكده جينى ساسن قائلة: إن ما تحاول شبكات التواصل الاجتماعى فيس بوك وتويتر فعله، يتمثل فى إدراج ما يسمح لمطورى البرمجيات الوصول إلى بياناتها أو يمنعهم من ذلك، أى أن هذه الشبكات تسعى ببساطة لإحكام قبضتها على بيانات ومعلومات مستخدميها، سعيا منها للحفاظ على رأس مالها الحقيقى المتمثل فى هذه البيانات. خلاصة القول: إن مستخدم مواقع التواصل الاجتماعى مراقب بموافقته، برغم أن هذه المراقبة لم تعد هى المشكلة الأكبر، وإنما بات استخدام هذه المواقع فى التوجيه لأغراض سياسية أو حتى إرهابية او إجرامية، هو القضية الأكثر إلحاحا وخطورة اليوم، وربما بات التأكيد على استخدام هذه المواقع فى أضيق نطاق ممكن.