لم تعد أجهزة الاستخبارات فى العالم تعتمد فقط على الجواسيس كما كان الوضع فى السابق، بل تطورت أدواتها وتنوعت بشكل سريع ومتلاحق، اتجهت أجهزة الاستخبارات إلى الإنترنت بعد أن جذبت شبكة المعلومات أعدادًا مهولة من البشر وأصبحت حياتنا جميعًا تعتمد عليها بشكل كبير، ولم تكتف هذه الأجهزة فقط بالمراقبة والتجسس على أهداف بعينها، بل صار لديها نهم للسيطرة على الشبكة والوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعلومات. ومن هنا بدأت عملية ابتكار أشكال جديدة من التجسس والمراقبة، وربما كان أشهرها أو أكثرها نجاحاً هو موقع «جوجل» الذى أصبح من المعروف تبعيته لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA وأنه جزء من أجهزتها العامة فى جمع المعلومات. وكالة الاستخبارات الأمريكية أبرمت شراكة مع جوجل من أجل إنشاء شبكة «إنتلبيديا»، وهى موسوعة مخابراتية سرية أنشأتها الولاياتالمتحدة باستخدام تكنولوجيا البحث الخاصة بجوجل، حيث يقوم عشرات الآلاف من الجواسيس التابعين للاستخبارات الأمريكية بمشاركة المعلومات السرية التى يصلون إليها عبر هذه الشبكة. كما استعانت وكالة الأمن القومى NSA بتكنولوجيا جوجل فى إنشاء شبكات داخلية لتبادل المعلومات الاستخباراتية بينها وبين جواسيسها حول العالم، أما عمليات التجسس الأمريكية فتشكل خدمة جوجل إيرث جزءًا أصيلاً فيها. وهنا يجب الإشارة إلى أن الشركة التى قامت باختراع وتطوير خدمة جوجل إيرث هى شركة «كيهول» التى تمولها شركة «إن كيو تل» المملوكة لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA . شركة «إن كيو تل» أوIQT هى شركة تتبع مباشرة وكالة الاستخبارات الأمريكيةCIA ، حيث أنشأها جهاز الاستخبارات الأمريكى ويمولها. وليس غريباً إذاً أن يكون الجيش الأمريكى وأجهزة الاستخبارات تستخدم نفس الخدمة التى حصلت عليها جوجل من شركة «كيهول» بهدف السيطرة على العالم الإلكترونى حوا العالم. ويصل التقارب بين شركة إن كيو تل وشركة جوجل إلى درجة أن مدير تقييم التكنولوجيا بشركة إن كيو تل التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية مباشرة انتقل منها رأساً إلى منصب كبير بشركة جوجل. وبالاشتراك مع جوجل تمول وكالة الاستخبارات المركزية شركة «ريكورديد فيوتشر» أو Recorded Future التى تنقب فى عشرات الآلاف من المواقع والمدونات إلى جانب حسابات تويتر بهدف الوصول إلى العلاقات بين الأفراد والمنظمات والتحركات والأحداث سواء كانت حالية أو مستقبلية. ينظر محرك البحث الخاص بالشركة إلى ما هو أبعد من مجرد البحث، إذ يحاول الوصول إلى العلاقات غير المرئية بين الوثائق التى تتحدث عن نفس الأشخاص أو الأحداث أو تلك التى تتحدث عن أشخاص أو أحداث متقاربة بشكل ما. وتكمن فكرة عمل الشركة فى اكتشاف من هو المتورط فى حدث ما وأين ومتى وقع هذا الحدث ومتى سينتهى. وتعتبر هذه هى المرة الأولى التى تشترك فيها وكالة الاستخبارات المركزية مع جوجل فى تمويل نفس الشركة فى نفس الوقت. وكان جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس قد فضح علاقة جوجل بجهاز الاستخبارات الأمريكى فى كتابه «عندما التقت جوجل مع ويكيليكس» الذى شرح فيه تفصيليا علاقة جوجل وهيلارى كلينتون والخارجية الأمريكية ومدى تأثير هذه العلاقة المتداخلة على مستقبل الإنترنت. يحكى أسانج عن لقائه مع مدير شركة جوجل إريك شميدت الذى يصفه بأنه شخصية ذات نفوذ حتى بين الشخصيات القوية التى التقاها أسانج خلال رحلته للبحث عن الحقائق وكشفها للعالم. فى منتصف مايو 2011 طلب شميدت لقاء أسانج الذى كان وقتها لا يعلم شيئا عن عالم ما يعرف ب «وادى السيليكون» أو Silicon Valley وكانت هذه فرصة ذهبية بالنسبة له لكى يتعرف على واحدة من أهم الشركات المؤثرة فى العالم، وكان شميدت قد تولى منصب مدير جوجل عام 2001 وطورها حتى أصبحت إمبراطورية. لكن أسانج فى كتابه يتحدث عن جهله التام قبل هذ اللقاء بما تمثله شركة جوجل ومدى أهمية رئيسها الذى طلب لقاءه. كان السبب المعلن للزيارة هو كتاب يحضر له مدير جوجل مع جارد كوهين مدير Google Ideas الذى كان يعمل فى وزارة الخارجية الأمريكية قبل انتقاله للعمل لدى جوجل، وقد عمل مع وزيرتى الخارجية السابقتين كونداليزا رايس وهيلارى كلينتون. أسانج يؤكد أن كوهين هو صاحب فكرة تأجيل الصيانة الدورية لتويتر، حيث بعث رسالة عبر البريد الإلكترونى إلى جاك دورسى رئيس شركة تويتر لكى يؤجل عمليات الصيانة المقررة لمساندة المظاهرات الإيرانية عام 2009. وفى نفس العام انتقل كوهين للعمل فى جوجل. ويحكى أسانج أن شميدت حضر وكان معه سكوت مالكومزون الذى كان من المفترض أن يتولى صياغة الكتاب، وبالتالى كان لابد من وجوده خلال إجراء شميدت للحوار مع أسانج حول ويكيليكس، لكن أسانج علم به انتهاء اللقاء أن مالكومزون كان مستشارًا بالأمم المتحدة، بالإضافة إلى عمله لفترة طويلة فى مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، بينما تولى منصب كاتب خطابات السفيرة الأمريكية بالأمم المتحدة وقتها سوزان رايس ومستشارها الرئيسى، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من لقائه مع أسان، وهو ما يشير إلى تداخل العلاقات وتبادل المناصب بشكل مريب بين جوجل والحكومة الأمريكية. وكان الكاتب المعارض للسياسة الخارجية الأمريكية «إريك سومر» قد كتب عام 2013 أن جوجل جزء لا يتجزأ من الجيش الأمريكى ومشارك رئيسى فى عمليات وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA بدءاً من التعذيب وتدمير الحكومات الأجنبية مروراً بالحروب غير الشرعية ووصولاً إلى احتلال دول لم تهاجم الولاياتالمتحدة يوماً، مشيراً إلى أن هذه الحروب أزهقت مئات الآلاف من الأرواح فى أفغانستان والعراق وباكستان وغيرها. لكن جوجل ليست الأداة الوحيدة التى تستخدمها أجهزة الاستخبارات الأمريكية للسيطرة على شبكة المعلومات والتجسس على العالم من خلال شبكة الإنترنت. فقد توسعت شركة «إن كيو تل»، التى تعد الذراع الاستثمارية لوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA فى استثماراتها فى السنوات الأخيرة، حيث أنشأت نحو 38 شركة منها أربع شركات كبرى تعمل فى مجال مراقبة المواقع الإلكترونية، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعى مثل فيس بوك وتويتر وإنستجرام، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية قد أسست شركة «إن كيو تل»In Q Tel عام 1999 على يد رئيس الوكالة آنذاك «جورج تينيت». كشف الصحفى والباحث الأمريكى «لى فانج» عن الشركات الأربع التى تمولها شركة «إن كيو تل» التابعة لوكالة الاستخبارات المركزيةCIA بهدف مراقبة مواقع التواصل الاجتماعى وجمع المعلومات وتحليلها إلى جانب رصد أى تحركات قد تشكل خطورة أمنية على الولاياتالمتحدةالأمريكية. شركة «باثار»PATHAR هى أولى هذه الشركات وهى شركة استخبارات متخصصة فى مواقع التواصل الاجتماعى فقط، تأسست الشركة فى كولورادو عام 2012. أنتجت الشركة برنامج Dunami الذى استعان به مكتب التحقيقات الفيدرالى FBI لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة. أما الشركة الثانية فهى شركة «ترانسفويانت» TransVoyant وتتخصص أيضاً فى مراقبة مواقع التواصل الاجتماعى، ولكن بهدف التركيز على ما قد يفيد متخذى القرار فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث ترصد الحوادث التى تنفذها عصابات إجرامية والتهديدات للصحفيين، وكان الجيش الأمريكى فى أفغانستان قد استعان بفريق من شركة «ترانسفويانت» لدمج جميع المعلومات التى ترصدها الأقمار الصناعية وأجهزة الرادار وطائرات الاستطلاع والطائرات بدون طيار لكى يمكن الربط بينها وتحليلها والاستفادة منها. بينما تتخصص شركة «جيوفيديا» Geofeedia التى تمولها «إن كيو تل» أيضاً فى جمع الرسائل المرفق بها صور أو مقاطع فيديو أو تحديد لمواقع جغرافية على مواقع التواصل الاجتماعى بهدف رصد الأحداث والمستجدات على الساحة العالمية، وتوفر الشركة خدمة رصد احتجاجات النشطاء وتعقبها نيابة عن الشركات وأقسام الشرطة، ولذلك فإن هناك العشرات من مؤسسات تنفيذ القانون من بين عملاء الشركة. وأخيراً نجد الشركة الرابعة التابعة للاستخبارات الأمريكية من خلال شركة «إن كيو تل» هى شركة «داتامينر» Dataminr، تقدم شركة داتامينر خدمة تحليل التغريدات على موقع تويتر من جميع أنحاء العالم بهدف إبلاغ المستخدمين بما يجرى من أحداث على أى بقعة من بقاع الأرض قبل وسائل الإعلام. وقد حدث ذلك بالفعل فى هجمات باريس التى أبلغت بها الشركة بعد لحظات من وقوعها والشيء نفسه تكرر قبلها فى أحداث بلجيكا فى مارس الماضى، إذ أبلغت الشركة عن الأحداث قبل وسائل الإعلام العالمية بعشر دقائق، وتمتلك شركة تويتر 5 % من أسهم شركة «داتامينر»، ولذلك فهى الشركة الوحيدة التى يسمح لها تويتر بالاطلاع على البيانات والتغريدات ويسمح لها باستخدامها وبيعها لعملائها. وكانت شركة «إن كيو تل» قد أطلقت مؤخراً قسمًا جديدًا تحت اسم الإبداع الرقمى بهدف تطوير حلول تقنية من خلال الاندماج مع القطاع الخاص، ومن ناحية أخرى تعمل الشركة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية على تطوير مختبر جديد يعرف باسم Lab41 ويهدف إلى توفير الأدوات اللازمة لأجهزة الاستخبارات من أجل الربط بين جميع البيانات والمعلومات التى تحصل عليها الاستخبارات، ويعتبر Lab41 واحداً من أفضل مختبرات التكنولوجيا فى المنطقة التى تعرف ب«وادى السيليكون» أو Silicone Valley. وتعتبر منطقة وادى السيليكون هى العاصمة التقنية للعالم وتقع جنوب سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وقد اتخذت الآلاف من الشركات المتخصصة فى التقنيات التكنولوجية من وادى السيليكون مقراً لها بحيث أصبحت معظم الاختراعات والمنتجات المتقدمة تولد فى هذا المكان. وكان آخر ما نشره موقع ويكيليكس من وثائق أواخر الشهر الماضى قد كشف عن برنامج وضعته وكالة الاستخبارات الأمريكيةCIA باسم «بروتال كانجاروو» أو «BRUTAL KANGAROO»، وكشفت الوثائق أن هذا البرنامج يتجسس على الكمبيوتر حتى لو كان مغلقاً. وتشير بعض التقارير إلى أن هذا البرنامج مشابه لبرنامج «ستكسنت» الذى وضعته الولاياتالمتحدة وإسرائيل بهدف تدمير البرنامج النووى الإيرانى من خلال التجسس على أجهزة الكمبيوتر الإيرانية وتدمير البيانات الخاصة بالبرنامج النووى. الوثائق الأخيرة كشفت أيضاً أن وكالة الاستخبارات المركزية وضعت برامج تجسس يمكنها تحويل أجهزة التليفزيون الذكية الحديثة إلى أجهزة تنصت، بل إن الوكالة أيضاً تتجسس من خلال الراوتر أو جهاز الربط بين الشبكات الموجود فى معظم البيوت حول العالم لتوفير إنترنت WiFi. ولم يتوقف نشاط أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة عند هذا الحد، بل إن الأمر يصل إلى استخدام تطبيقات الهواتف الذكية فى التجسس على الهواتف ونقل البيانات من على الهاتف بدءا من أسماء الأشخاص وأرقام هواتفهم ووصولا إلى الرسائل والمكالمات. وكان إدوارد سنودن قد أشار إلى هذا الأمر سابقاً، لكن لم يتأكد الأمر إلا بعد ظهور وثائق سرية مسربة عام 2014 تكشف صراحة عن تعاون بين جهازى الاستخبارات الأمريكى والبريطانى فى هذا المجال. الوثائق فضحت قيام وكالة الأمن القومى الأمريكيةNSA ونظيرتها البريطانيةGCHQ بالتجسس على الهواتف الذكية حول العالم من خلال تطبيقات شهيرة ومتداولة بشكل كبير بين مستخدمى هذه الهواتف. التطبيقات التى كشفت عنها الوثائق هى لعبة «الطيور الغاضبة» أو Angry Birds وجوجل مابس Google Maps، الغريب أن الشركة التى صممت هذه اللعبة أنكرت أى علم لها باستخدام جهازى الاستخبارات للتطبيق فى التجسس ونقل البيانات والصور.