اللغة العربية تدلل «الدريل» وتسميه المثقاب فى قواميس اللغة المعتمدة، والدريل آلة كهربائية مفيدة للإنسان، يستخدمها فى ثقب المعادن والأخشاب والحوائط وما إلى ذلك من أعمال مفيدة، يسميه المصريون (الشنيور)، بينما يحتفظ اللسان العراقى باسمه الإنجليزى الدريل، وكذلك اللسان الإيراني. حظى الدريل بشهرة فائقة، أكبر من شهرة صانعه الأوروبى المجهول، وكثير من الناس قد لا يرد اسمه على أذهانهم، فهو لا يتمتع بشهرة إلا بين الحرفيين والصنايعية، لكنه وجد طريقه إلى الشهرة العالمية من أراضى العراق فى لحظة تاريخية عجيبة. فمن استخدامه المفيد تحول إلى آلة تعذيب مرعبة، ثم آلة قتل بطيء فى السجون والمعتقلات العراقية بعد الغزو الأمريكي- البريطانى المزدوج للعراق عام 2003، وفكرة هذا الاستخدام البشع جاءت من إيران، فتعرض آلاف العراقيين الأبرياء، من الذين شملهم قرار الحاكم الأمريكى بول برايمر بالحل، سواء أكانوا من أفراد الجيش العراقى أم الحزب الحاكم فى ذلك الوقت، أو المستقلين الرافضين لفكرة احتلال بلادهم، إلى طوفان من تعذيب نادر بآلة الدريل، وعرف العراقيون، تعساء الحظ فى ذلك الوقت، أن آلة الدريل لها استخدام آخر غير الذى يعرفونه فى تسيير شئون الحياة، عرفوا تخريم الأجساد والناس أحياء بالدريل، عرفوا أنها آلة رعب لم تحدث حتى فى سجون السلاطين العثمانيين. لم يكن يتخيل أى إنسان أن يتحول الدريل إلى قاتل بطىء، يتلذذ به القتلة، وهم يستبيحون أعراض الناس فى بلاد الرافدين، ولم يكن يتخيل الشعب العراقى أنه سيقع ضحية لآلة الدريل باستخدامها الإيراني، انتقاما من سنوات الحرب الثمانى التى دارت بين البلدين فى حقبة الثمانينيات، وعرف العراقيون ساعتها أنهم وقعوا بين كماشة أمريكية- إيرانية مرعبة، ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم. يقال فى الأدبيات السياسية إن العراق بوابة العرب الشرقية، وكلما كان سدا منيعا، صارت المنطقة العربية فى أمان، ويقال أيضا إنه كلما وجد أعداء غرب جبال (زجروس “جبال النار” الحد الفاصل بين العراقوإيران) صار العرب فى خطر مقيم، فما بالنا بوجود ميليشيات إيرانية تستخدم آلة الدريل فى أجساد العراقيين بلا رحمة، مما جعل كثيرا منهم يفرون من بلاد الرافدين إلى معظم أصقاع المعمورة، وكأن أمريكا التى غزت العراق بذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل، ثم ذريعة نشر الديمقراطية بعد ذلك، جعلت من العراق بوابة إيرانية لغزو العواصم العربية واحدة بعد الأخرى. إيران قبل غزو العراق كثيرا ما دعت إلى تصدير (الثورة)، وبعد هذا الغزو الهدية فعلت ما دعت إليه بطريقة فارسية معروفة، فقد حصلت على المكافأة الكبرى، نتيجة لمساعدتها أمريكا، باعتراف هاشمى رفسنجانى، فى غزو أفغانستانوالعراق، وساعدتها فى ابتزاز المنطقة العربية، بوصفها البعبع الذى يجب أن تخشاه، بينما فى الحقيقة كانت إيران جيت، وإيران المستوردة للسلاح الإسرائيلى أثناء الحرب على العراق، وايران المتوحشة فى لبنان، والطامحة إلى جعل الخليج فارسيا، كأنها تستعيد أزمنة إمبراطورياتها البائدة. غزو أمريكا للعراق كان المدفعية المصوبة على عواصم العرب وحدهم، فتمددت إيران فى عواصم عربية أربع باعترافها العلني، وتمددت أكثر بالنفوذ، حتى إن المرشد الإيرانى على خامنئى خطب خطبة عربية فصيحة فى الرابع من فبراير عام 2011 موجهة للنشطاء فى مصر، وتلاها بخطب أخرى لكل نشطاء تدفقوا إلى شوارع عواصم الجمهوريات العربية فى لحظة غامضة. كانت إيران الملالى جسرا طويلا إلى الفوضى، ومن أتوا بهم يعرفون الدور على خشبة المسرح، جاءوا بهم فى ليل بطائرة فرنسية قادمة من باريس إلى طهران، تحمل معها الخومينى ساحر الفوضى باسم الثورة، جاءوا به فى حماية أمريكية، وترتيب غربى كامل، وتؤكد وثائق أمريكا المفرج عنها الآن ماذا كان؟ ولماذا جرى ما جرى؟ والجسر يتكسر الآن من صانعيه الأوائل، فالدور انتهى، والمخرج قرر أن يغير قواعد اللعبة، بينما لا تزال إسرائيل تمد حبال الروح، وطوق النجاة للملالى من خلال هجوم إعلامى مبرمج، فإسرائيل لن تجد أفضل من هذا البعبع الخرافى فى تكسير المنطقة، وقد حان الوقت لإغلاق مسرح الدريل واستخداماته الملعونة، واسترجاعه آلة مفيدة للإنسان، وإعادة الملالى إلى متحف التاريخ، ومعهم أفراخ العثمانيين الجدد.