فى محاولات عديدة ومتتالية عبر الأزمان يذكرها ويسجلها التاريخ والكثير من المراجع والأوراق والأذهان أثار الإنسان بتكوينه النفسى وسلوكه الكثير من الانتباه والدهشة لدى العلماء. فما يدور فى أذهان البشر والذى لا نستطيع قياسه أو إخضاعه للبحث العلمى أو التأكد من صحته فى المشاهدة اليومية، جعل المدرسة السلوكية بنظرياتها المتطورة والمختبرة أكثر وثوقاً فى الوصول إلى تراكم معرفى، يتيح لنا كشف الكثير من الآليات العقلية للبشر وتفسير سلوكياتهم بل والتنبؤ فى كثير من الأحوال بها. وبالرغم من أن العالم «فرويد» قدم علماً وفيراً فى دراسة الحالات النفسية الداخلية للإنسان إلا أن السلوك الظاهر فقط هو ما قد يعتبره العلماء علماً حقيقياً، من حيث إخضاعه للقياس والتحكم. ومن هذا المنظور برز علم النفس السياسى كعلم يعتمد على مصادر واقعية لنظرية المثير والاستجابة بمعنى أن شخصية الفرد السياسية تتكون بتأثير المؤسسات المجتمعية من حوله وبالتالى يقوم الأفراد بسلوك ما ناتج عن هذه الاستثارة.
فالعقل الإنسانى هو صفحة بيضاء تكتب فيها البيئة من حوله بغض النظر عن موهبته أو قدراته الخاصة النظرية. وحتى تقترب الصورة إلى ذهن القارئ فى فهم ما أطرحه من أفكار علمية سأستعين بتجربة شهيرة أجراها العالم «بافلوف» عام 1927 للدلالة على رد الفعل المنعكس الطبيعى الذى يتم فيه تعديل أو حتى تشكيل سلوك ما على أثر التعلم .. فقد درب بافلوف كلبه على إفراز اللعاب لدى سماع صوت جرس، حيث كان هناك جهاز يسقط فتاتاً صغيرة من مسحوق اللحم على لسان الكلب كلما قرع الجرس وفى نهاية تلك التجربة أصبح الكلب يفرز اللعاب بمجرد سماعه للجرس وحتى قبل أن يتذوق الطعام . وهنا ما يستوقفنا هو الربط ما بين المثيرات وردود الأفعال، فالبشر أيضاً يمكن أن يدربوا على القيام بسلوكيات اجتماعية أو سياسية أمام مثيرات محفزة فى النهاية. فى عام 1948 ظهرت رواية “والدن الثانية “ “ Walden 2 “ لعالم النفس الأمريكى الشهير “يوروس فريدريك سكنر” تصور فيها بشكل يوتوبى قرية أمريكية يحكمها المديرون المخططون (وهو تصور قريب إلى حد كبير بجمهورية أفلاطون التى قلما ما تأثر بفكرها أحد)، ويتخيل سكنر مجتمعاً يطيح بالسياسيين ليحل محلهم العلم والعقل ويقدم أفكاره عن طريق بطل الرواية “فريزر” ويسخر من السياسيين والحكام لعدم قدرتهم على تحسين أحوال الناس وتحقيق آمالهم وطموحاتهم، ويصاحب بطل الرواية أستاذ علم نفس البروفيسور “يوريس” وصديقه الفيلسوف “كاسل” فى الأحداث ليلاحظا أن السكان خالون من العاطفة إلى حد كبير ولكنهم سعداء ومجتمعهم خال من الجرائم والإدمان وشتى أنواع السلوكيات المنحرفة، وخلال المائة صفحة للرواية لا يظهر للقارئ الأسباب الحقيقية الكامنة من وراء هذا الواقع!!... إلا بإشارات بسيطة عن العدالة الاجتماعية وغياب الأحقاد والغيرة حتى التحكم فى درجة حرارة أسرة الأطفال!!... أراد أن يقدم من خلال روايته تلك نظريته فى إمكانية هندسة المجتمع والتحكم فى سلوكياته ويقول فى ذلك “إذا استطعنا تحويل المجتمع إلى صندوق سكنر كبير وتحكمنا فى السلوك قصداً لا عشوائياً لاستطعنا إزالة العدوان، وضبط الزيادة السكانية، والتخلص من الاكتظاظ أو التلوث وعدم المساواة ولاستطعنا تالياً الوصول إلى اليوتوبيا”.. وهى أفكار من وجهة نظرى الخاصة لا تمت للواقع الإنسانى بأى صلة ... وفى ذات السياق عرض فيلم “الآلية البرتقالية” وكتاب “أنطونى يورغس” ويحكى قصة شاب يدعى “اليكس” وهو سفاح خطير للغاية يتم إخضاعه لتجربة علمية على يد عالم نفسى يدعى “برودكسي” تتضمن هذه التجربة إجباره على تناول عقار معين يسبب له الاستفراغ كلما شاهد مناظر عنيفة على الشاشة والربط ما بين رؤيته لتلك المشاهد العنيفة والحادة والإصابة بالمرض الجسمي. ويسمى هذا التكنيك ب “تكنيك لادوفيكو” وفى النهاية استطاعوا بالفعل تحويله من مجرم خطير إلى إنسان مسالم بالقوة. والحقيقة أن كل تلك التجارب السلوكية التى وضعت من أجل تغيير الإنسان حتى وإن كانت هدفها الظاهر هو الخير المطلق أطاحت بالجانب الأخلاقى فى الاختيار الإنسانى وقدرته على التمييز بين كل ما هو خير أو شر وهى ما تجعل الإنسان إنساناً. وإذا ما أخذنا تلك الميزة فإننا نفقد إنسانيتنا بالتبعية. المغزى السياسى الذى يمكننا الربط به فى كل مما سبق هو هذا العلم المستتر وصلته الوثيقة مع الحكومات. فتلك التجارب تجرى بالفعل فى المعامل الغربية على البشر بل وأكثر مما قد يذهب إليه خيال أى إنسان فى تحويل البشر !!. مما يدفعنا للتساؤل من الذى يحق له أن يقرر السلوكيات الأخلاقية واللا أخلاقية؟!! ومن الذى يقرر أى الأزمان والأهداف التى تطوع فيها سلوكيات بعينها وتستبعد أخرى؟!!... فجميعنا يعترف بأن الاغتصاب مثلاً سلوك لا أخلاقي، الإدمان، العنف، القتل، الجنسية المثلية... إلخ.. فكل بيئة هى من تحدد غاياتها وسلوكياتها التى تحكمها. والأعراف الفطرية الإنسانية التى ولد الإنسان مطبوعاً بها ... قد تبدو هذه قضية فلسفية لا أهمية لها ولكن فى علم النفس السياسى والصراع الدائم ما بين الحكومات وحرية الإرادة الإنسانية ومصيرها الذى لا يجب أن يحدث وفق خطط أعدت مسبقاً لعقول البشر وإخضاعهم فى كل مرحلة حسب أهواء تلك المرحلة بل يجب جعلهم يرغبون بمحض إرادتهم فى تحسين سلوكياتهم وفق ما هو أفضل لهم ولمجتمعاتهم بشكل حر. وفى النهاية فالإنسان مسئول عن سلوكه فيعاقب عندما يخطئ ويحاط بالفضل والتقدير لما قد يحققه من إنجازات. قد يحتار قارئى العزيز فى كل ما طرحته مسبقاً من عرض لربما يبدو بعيداً عن واقع الحياة اليومية وأكثر قرباً من المتخصصين فى ذلك المجال ولكن لكل كلمة هدفا وغاية. فعلم النفس السياسى وهو تخصص فرعى فى العلوم السياسية حتى وإن كان حديثاً نسبياً أهميته تكمن فى أنه ذو توجه دولى فى جوهره وغالبية مؤسسيه والأكاديميين فيه هم من الولاياتالمتحدة الأمريكية!!! وحينما يتأمل الناس فى مواضيع السياسة عموماً التى أضحت تؤثر بكل الأشكال والأوضاع على حياتهم اليومية لابد أن يطرحوا على أنفسهم السؤال الأهم ... لماذا يفعل قادة العالم ومحركوه ما يفعلونه؟!!! فكل نظرة سياسية إلى ذلك العالم تبنى فى البدء والنهاية على نظرة فى الطبيعة الإنسانية.