د. وليد خلف الله: أطلق على عصابات التطرف «مافيا الإسلام» جمال الهاشمى: قدرته على التفكير الإستراتيجى توازى عبقريته الجغرافية
إحياء «مشروع جمال حمدان» فى مصر والعالمين العربى والإسلامى هو الواجب الفكرى (المقدس) الذى غفل عنه الكثيرون، برغم أنه من أهم المرجعيات الحقيقية لهويتنا،ومن أبرز مقومات وجودنا الحضارى، وقدرتنا فى المستقبل على مواجهة تداعيات مخططات التجريف، والتقسيم، والتفتيت عبر مخطط الشرق الأوسط الجديد التى قرأها وحذر منها «حمدان» قبل ثلاثة عقود وأكثر.
وإذا كان قد فات علينا تقدير هذا المشروع، وتكريم صاحبه «القيمة والقامة» فى حياته ولم يكن، باستغنائه، فى حاجة إلينا، فنحن الآن فى أشد الحاجة إلى الاقتراب منه ،وإعادة قراءة أفكاره ..واتخاذ تحذيراته على محمل الجد، وتأمل رؤاه وأطروحاته، ودراسة حلوله وآلياته للمزمن والطارئ من مشكلاتنا وأزماتنا العربية الراهنة.. وهو ما سوف نناقشه مع نخبة من المفكرين والباحثين والكتاب العرب عبر هذا التحقيق:
د. وليد خلف الله أستاذ الإعلام وفنون الاتصال فى الجامعة الخليجية بالبحرين: يرى أن علينا الالتفات بشدة إلى مقولات العلامة الراحل د. جمال حمدان، الذى نبهنا قبل عقود طويلة إلى خطورة الإستراتيجية العظمى لأعداء العروبة والإسلام، وهى العمل على استدراج العالم العربى والإسلامى وتوريطه فى صدام وصراع دموى مسلح،وهو ما يحدث الآن تماما وكأن الرجل كان يقرأ الغيب، ولو كنا أخذنا مقولاته على محمل الجد وبوعى وعمق، لوفرنا على أمتنا مشاكل بل كوارث عديدة، تهددها الآن، لذا نراه مثلا يحذر بشدة من تداعيات الخلافات العربية على الأمة كلها، مطالبا فى جميع الحالات بضرورة تصدى مصر المحكوم عليها بالعروبة ، مع باقى الأشقاء لحصر هذه الخلافات فى دائرة التكتيك الإجرائى وداخل إطار الحوار الأخوى وبعيدا عن الشقاق المدمر..،ولننظر إلى ما تفعله قطر لإضعاف الأمن القومى العربى على سبيل المثال الآن».
مافيا الإسلام
ويشير د. وليد إلى مقولة حمدان» العالم الإسلامى حقيقة جغرافية ،لكنه خرافة سياسية، وإن المسلمين أصبحوا عبئا على الإسلام «، واصفا الأحزاب الدينية بالعصابات الطائفية التى هى «مافيا الإسلام».
ويشترط «حمدان» لتقدم العرب والعالم الإسلامى «شنق آخر الجماعات الإسلامية بأمعاء آخر إسرائيلى فى فلسطين»، موضحا أن تلك الجماعات المتشددة، يطلق عليها لقب «المطاريد» و»دراويش القرن العشرين»وهى وباء دورى يصيب العالم الإسلامى فى فترات الضعف السياسي، واصفا هدف الإسلاميين الإرهابيين بأنه»حكم الجهل للعلم»، لأن الدين سلاح ذو حدين، ومنطقهم بسيط وواضح، فلأنهم فى قاع المجتمع فليس لديهم ما يخسرونه، فإما أن يضعهم المجتمع فى مكانة مقبولة أو فليذهب الجميع إلى الجحيم تحت ستار الدين.
نبوءات مؤلمة
وتقول الكاتبة الجزائرية يامنة بن راضى: ليس غريبا ولا مفاجئا لنا كدول عربية أن نترنح بين كوابيس الموت والضياع، وتضرب علينا سرادق المصائب من كل جانب تمزق حبل وحدتنا وتلتهم أحلام شبابنا و أطفالنا، ونحن من استقبلنا وبرحابة صدر خواء فكريا قاتلا ،وأدرنا ظهورنا بشكل يبعث على الحسرة لعقولنا العربية الفذة التى نزخر بالكثير منها، والتى صرمت الليالى الطوال تبحث الهم العربى ،وفى مقدمة هؤلاء الأفذاذ المفكر الإستراتيجى الدكتور جمال حمدان، الرجل الذى أوتى شعلة من الحكمة والعبقرية، واستطاع أن يستشرف واقعنا العربى المؤلم منذ عدة عقود، والذى نغرق بين أمواجه العاتية المرعبة اليوم.
وتضيف: حمدان كان يحمل الوجع العربى فى قلبه وفكره معا، وكان يرى أن آفة العرب وضربة مقتلهم فى الفرقة، وهو ما أكده واقعنا العربى المزرى مع الأسف، فقد احتل العراق قبل أكثر من عقد من الزمن ، وبدم بارد أبيد أهله ، لأن العرب صاروا فرقاء ضعافا هزالا.. لا طاقة لهم على فعل شىء، وها هو تحذير «جمال حمدان»يعيد نفسه بتفاصيل مختلفة اليوم فى سوريا، فأرض الشام تعيث فيها كل دول العالم فسادا، والأمر سيان بالنسبة لليمن الشقى ، وليبيا الغنية بثرواثها الفقيرة بانقسامات قبائلها، وقد تداعت على عروبتنا المفككة الأمم تناصبها العداء، والأطماع.
ولأن الرجل العبقرى كان يحمل روحا عربية خالصة،كان يمقت الكيان الصهيونى الغاصب الذى وصمه بالدخيل الهزيل على رقعتنا العربية الشاسعة، ليؤكد أن رحيل هذه الجرثومة عن أرضنا العربية لن يكون إلا بموقف عربى موحد وحازم، وهى المسألة التى لا تزال مجرد حلم ولا تزال العجرفة الصهيونية تستبيح أرضنا ومقدساتنا بوقاحة مستفزة، وهاهى القدس قدمت كهدية من الأمريكان إلى قاتلى الأطفال كعاصمة لكيانهم المجرم ، ودون شك، فإن هذا يرجع إلى التمزق العربى والاقتتال المتبادل والنعرات الطائفية ودوامة تصفية الحسابات الشخصية التى أضاعت الكثير من فرص النهوض بالأمة.
وتواصل بن راضى قائلة: إن خطوبا كبيرة أصابت منطقتنا العربية، وهو ما رآه سابقا المفكر العربى الجليل أمرا طبيعيا، على اعتبار أن المنطقة حيوية وإستراتيجية وبالتالى لن تهدأ أطماع الغرب وتابعيه فيها أبدا، وقد أكد لنا حمدان بفكره المتوهج أن هذا الغرب المغرور الحاقد لا يفتأ يدبر، لتوريط العرب فى صراعات دموية مسلحة تقوم على التناقضات العرقية والإثنية والدينية والطائفية. ولم يأل «حمدان» جهدا فى محاولة دراسة جنون الإدارة الأمريكية التى أفلست من القيم، وباتت تنفخ فى أبواق الحروب والخراب والدمار.. بيدا أن سلوانه كان عظيما، فقد رأى أن هذه النار الأمريكية المستعرة ستخمد رويدا رويدا وأن أمريكا تحفر قبر فنائها بيدها ، وما يدعم نظرة الرجل اليوم هو المأزق الكبير الذى يتخبط فيه البيت الأبيض مع مجىء المدعو» ترامب»..كما يبدو أن نبوءة حمدان بخصوص التحالف الغربى مع بقايا الشيوعية والإلحاد، لتدمير ديار الإسلام فى طريقها للتحقق بالفعل على أرض سوريا العربية، فها هى أمريكا الرعناء وفرنسا الحاقدة،وبريطانيا الماكرة تشارك روسيا المتسولة نفوذا فى تدمير سوريا الحضارة وقتل السوريين وتحطيم حياتهم.
وتتساءل يامنة بن راضى: لقد وضع العلامة المذهل الراحل جمال حمدان عقله فى خدمة القضية العربية برمتها، لكن ونحن نستعيد ذكراه ماذا فعلنا نحن العرب بهذه الثروة الفكرية التى لا تقدر بثمن؟ وهل استفدنا من كل هذه المجهودات الجبارة؟ أم مازلنا مصرين على غفلتنا، وتقديم كل الخدمات المجانية لأعدائنا بفرقتنا وتشرذمنا الذى حذر منهما جمال حمدان قبل نصف قرن؟
حبل الجغرافيا
المفكر العراقى جمال الهاشمي، يلفت النظر إلى أن المهتمين بفكر جمال حمدان صبوا جهدهم على شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية، متجاهلين فى ذلك ألمع ما فى فكر حمدان، وهو قدرته على التفكير الإستراتيجي، حيث لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية إستراتيجية متكاملة للمقومات الكلية، لكل تكوين جغرافى وبشرى وحضارى ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها فى سياق أعم وأشمل وذو بعد مستقبلى أيضا.
ويرى حمدان أن نصف قوة العرب فى وحدتهم بينما نصف إستراتيجية العدو أن يشق هذه الوحدة، وكأنه يستشرف لحظتنا العربية الراهنة بكل ما تنطوى عليه من مخاطر تفتيت دول عربية كاملة، وهاهو حمدان يدلنا على طريق النجاة قائلا:»الوحدة الجغرافية تقول للعرب: اعتصموا بحبل الجغرافيا جميعا ولا تفرقوا».
ضمير عصره
الكاتب الليبى عبد السلام الفقهى، يوضح أن د. جمال حمدان هو النموذج الأرقى للمثقف العربى العضوى المهموم بقضايا أمته، وهو الإنسان الذى يتجاوز دائرة ذاته، ليصل إلى المجتمع الأكبر كله، وهو الإنسان القادر على أن يجعل مشاكل أمته العربية هموماً شخصية له.
ويضيف الفقهى كان «حمدان» ضمير عصره ، تماما كما كان سابقا لعصره فى إدراك الخطر المستقبلى والحلم بالمستقبل، هو أقرب إلى برج مراقبة للعالم من حوله، يرصد، ويحلل، يتوقع ويتنبأ، يحذر ويخطط لا يضيع فى التفاصيل، وإن تابعها بكل تفصيل، يحول الشجار إلى نهاية، والتكتيك إلى الإستراتيجية، إنه مفكر إستراتيجي، بكل ما تعنيه الكلمة من معان.. أنظر إليه وهو يحذرنا من تبعات فكرة العولمة قبل نحو أربعة عقود قائلا: «نعم، العالم يصبح قرية كبيرة أو صغيرة- ولكن حذار من هيستيريا العالمية «لعبة أمريكا والغرب ضد الآخرين خصوصاً نحن العرب». أليس هذا ما يحدث بحذافيره حاليا؟»
ويؤكد عبد السلام الفقهى، أن العالم العربى كله فى أشد الحاجة الآن إلى أفكار جمال حمدان أكثر من أى وقت مضى، ليواجه حرب الوجود التى تحاصره من الشرق والغرب على السواء.