المرأة العنصر الأكثر تأثراً بالخراب الحريات فى العالم العربى لازالت قضية جدلية الإسلام السياسى وجد فى العراق تربة خصبة لنشر التخلف المجتمعات الغربية مجتمعات لا روائية من فرط استقرارها يسعى الروائى العراقى المقيم بهولندا محمد حيّاوى فى كتاباته لكشف الحقيقة، كما يحلم بعالم يشعر فيه الفرد بالكرامة، .. وفى حواره ل «الأهرام العربى» أنه لم يتعرض أى مجتمع لما تعرض له المجتمع العراقى من هّزات ومتغيرات عميقة على مدى العقود الماضية، الأمر الذى سينتج رواية مختلفة فى السنوات المقبلة بالتأكيد، برغم أن الفرد العراقى المعاصر شبه مغيّب عن الوعى وتشتت ذهنه الأزمات المتعاقبة وتعانى أجياله الجديدة من الأمية والجهل، وقال إن إعادة العراق إلى وضعه الطبيعي، يحتاج إلى معجزة كما يحتاج إلى أجيال كاملة للأسف.. وإلى نص الحوار: يرى البعض أن السياسات المتخبطة عطّلت استكمال المشروع الثقافى للمبدع العراقى ما رأيك؟ من وجهة نظرى أسوأ من يعمل فى السياسة هو المثقف الذى يعانى مدى الدهر من هشاشة مشروعه وقلقه المزمن، أقصد قلقه المشروع المُرادف لعملية الإبداع. نعم القلاقل قد تبطئ أو تبدد مشروعه الإبداعي، لكنّها من ناحية أخرى قد تشكّل له مادّة ثريه لعمله. فالمتغيرات المجتمعية العميقة والتناقضات المصاحبة لها قد تنتج بيئة صالحة للعمل الروائي، أنظر إلى أمريكا اللاتينية وحدّة التناقض فى مجتماعاتها المتكوّنة من خليط غير متجانس من الأعراق والأعراف والتقاليد، وكيف خدمت تلك التناقضات الرواية عندهم، خذ مثلاً نجيب محفوظ فى أعماله الأولى وكيف استفاد من حدّة التناقض فى المجتمع المصرى وفداحة الطبقية وخطل النظام السياسى الذى كان سائداً آنذاك والذى أدى إلى ظهور الطبقات الشعبية المسحوقة، إذ شكّلت تلك التفاعلات بنيته الأساس فى أعماله الروائية الفذّة. وبقدر تعلّق الأمر فى العراق تبقى تلك المتغيرات بحاجة إلى وقت كى تختمر فى مخيّلة المبدع حتّى تظهر ملامحها فى الرواية. صدرت لك أخيراً روايتك « خان الشّابندر».. لماذا اخترت هذا العنوان؟ خان الشّابندر كعنوان من شأنه أن يُشكل عتبة محيّرة ومحملة بالإيحاءات الغامضة، وهو ليس حيّاً شعبياً كما هو الأمر مع خان الخليلى فى مصر، بل خان غامض بتاريخ مُلتبس، فهو من ناحية محطّة للعابرين ومكان لبيع المعادن النفيسة، وحالة روحية عميقة لكثرة العاملين فيه من أتباع الديانة المندائية القديمة والطقوس الروحية المصاحبة لها، أيضاً من جهة أخرى خرابه الحالى كمكان وتحوّله إلى هياكل آيلة للاندثار والتبدّد، أنّه يشبه العراق تماماً تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً مجهولاً. ماذا عن مضمون أو فكرة هذه الرواية؟ الرواية لا تعدو عن كونها حكاية مجموعة من النساء أوصلتهن الأقدار إلى مصير مؤسف بعد أن سحقهن المجتمع بأعرافه وتقاليده، نتيجة للمتغيرات السياسية والاقتصادية التى حدثت للمجتمع العراقي، وثمّة بطل الرواية العائد من منفاه بحثاً عن ذكرياته الملوّنة فى وطنه، فيصطدم بالخراب الشامل ويصاب بالنكوص والانكفاء إلى الداخل، لكنّه لم يستسلم ويصر على الانتصار لخياله فيقيم يوتوبيا مليئة بالأحلام والرؤى الملوّنة على أنقاض ذلك الخراب، وفى المحصلة لم يسعفه ذلك الخيال المجنّح فى إتمام حلمه حين يصطدم بالواقع الفادح وينهار كل شىء، ولم يبق أمامه سوى حقيقة الموت الصادمة. القارئ لرواية «خان الشّابندر» يجدها مليئة بالخيبات والانكسارات والشخصيات البائسة والمكسورة وبها أيضا جانب مبهج رغم كل هذه الخيبات ماذا قصدت من ذلك؟ نعم.. فى الواقع الرواية تحاول محاكاة الواقع العراقى ما بعد الاحتلال والتأثيرات العميقة التى حصلت للمجتمع العراقى إثر ذلك، فقد بدّدت البنية المجتمعية ومنظومة الأخلاق والأعراف والتقاليد التى كانت بالكاد متماسكة قبل الاحتلال، الأمر الذى أنتج حالات مجتمعية شاذّة، وبما أن المرأة هى العنصر الأكثر هشاشة والأسرع تأثراً بالخراب، فقد كنّ بطلات روايتى من أوائل الضحايا اللواتى سقطن فى براثن الخيبة والانكسارات، وعلى الرغم من موتهن الفاضح فى المحصلة، فإنّهن تركن سيرة عطرة من شانها أن تبعث الأمل فى المستقبل. الرواية على الواقع العراقى بعين المثقف والكاتب؟ لا مناص من وعى الكاتب أثناء عملية الكتابة، لا سيما فى رواية «خان الشّابندر» المبنية أصلاً على اكتشافات كاتب وصحفى عائد من غربة امتدت لأكثر من عشرين سنة إلى بلاده ليرصد الخراب. لا يمكن للكاتب أن يكون حيادياً فى مثل هذه الحالة، ومن دون وعية يستحيل اكتشاف مفردات الخراب العميقة كما جرى فى الرواية، أقصد تلك الأحداث والعوالم والمتغيرات المتداخلة لو صادفت رجلاً عادياً لما تمكن من استنباطها معرفياً أو حلل مفرداتها وتمكّن من تفكيكها، لكن البطل فى الرواية ظل، على الرغم من ذلك، محتفظاً بمسافة معقولة بين وعيه وثقافته والعلاقات التى خاضها أو اكتشفها، وهى معادلة يصعب الحفاظ عليها لحظة الكتابة، على الرغم من أنّنى مازلت مؤمناً بأن على الكاتب أن ينسلخ فى لحظة ما أثناء عملية الكتابة عن الواقع. إلى أى مدى تشعر أنك حر فى مقاربة المحظورات فى أعمالك؟ عندما تنغمس فى الكتابة الحقيقية ستشعر بالحرية تحف جوانحك، مثل طائر تحمله الريح فى غياهب الخيال، لن تتوانى لحظتها عن دخول أية عوالم ولا تؤمن بالحدود الواقعية أو القوانين الوضعية أو الفيزيائية، تتحول العملية إلى ما يشبه الحلم المتواصل والرؤى الآسرة. هناك إشكالية واقعية بين الروائيين والكتاب، فأكثر المبدعين حينما يعانون من الاغتراب داخل أوطانهم وتسنح لهم الفرصة أن يغادروا الوطن وخطورته وقيوده التى تعيق الإبداع والإنتاج تكون البيئة الأخرى حاضنة لموهبتهم ومكانا خصبا لغزارة إنتاجهم. هل هذا ينطبق عليك أم أن للهجرة والغربة عن الوطن أبعادا أخرى لديك؟ حققت فى المنفى أو الاغتراب بعض النجاح الشخصى ربما، لكنّنى على صعيد الكتابة الإبداعية أعطبت تماماً، حتّى عودتى لوطنى الأم بعد غربة امتدت لأكثر من عشرين عاما، لتلتهب مخيلتى من جديد وتمتلئ بالحكايا والسحر، وتبقى المجتمعات الغربية من وجهة نظرى مجتمعات لا روائية من فرط استقرارها، لهذا لم تخرج عندهم روايات عظيمة بمستوى روايات أمريكا اللاتينية المليئة بالتناقضات المجتمعية، فى الغرب يمكنك أن تحصل على السعادة الشخصية والأمان والكرامة، لكنّك لن تحصل أبداً على صعقة الإبداع اللازمة لكتابة رواية، هذه هى المعضلة فى الواقع. كيف ترى العراق اليوم وحال العراقيين، ماذا تقول لهم، أو ربما ماذا يقولون لك؟ اجتمعت عوامل قاهرة بمحض المصادفة لتحطم شخصية الإنسان العراقي، منها الحروب الشعواء التى لا تحكمها أية معايير أخلاقية ومنها الحصار الاقتصادى الظالم الذى فرض على العراق لأكثر من 13 سنة، وأخيراً تدمير الدولة العراقية ومؤسساتها على أيدى الأمريكان وتقديمهم العراق بقضه وقضيضه إلى إيران على طبق من ذهب. الفرد العراقى المعاصر شبه مغيّب عن الوعى وتشتت ذهنه الأزمات المتعاقبة وتعانى أجياله الجديدة من الأمية والجهل، فوجد الإسلام السياسى فيه تربة خصبة لنشر التخلف والسيطرة على جموع الفقراء. ربما الأمر يحتاج إلى معجزة لإعادة العراق إلى وضعه الطبيعي، وإن حصل هذا لن يحصل فى حياتنا نحن، الأمر يحتاج إلى أجيال كاملة للأسف. هل ستنعكس الأحداث فى العراق على الروايات المقبلة، وهل سينشأ ما يسمى “جيل بعد الحرب” فى الرواية؟ بالتأكيد سينعكس هذا الواقع المزرى على الأدب بشكل عام والرواية بشكل خاص، وكما ذكرت سابقاً الأحداث والهزات العميقة التى تتعرض لها المجتمعات تلزمها مدّة من الزمن لتختمر فى المخيال الشعبى قبل أن تظهر على شكل روايات وقصص وقصائد وأشكال إبداعية أخرى. ربما نحن نشهد بوادر هذا الانعكاس الآن على ما يمكن أن نسميه الرواية العراقية الجديدة ما بعد الاحتلال، أيضاً بعض الظواهر اللافتة للنظر على صعيد الشعر مثل جماعة ما يسمى ب”ميليشيا الثقافة” وغيرها، فى الواقع كلما تعرض المجتمع للنكبات والهزات والمتغيرات العميقة كلّما تحوّل إلى مجتمع دراما وتناقضات. هل تتعبك الكتابة؟ نعم الكتابة أمر مؤذٍ للغاية، قد تشكّل ضغطاً نفسياً عنيفاً فى مرحلة من المراحل، طبعاً أقصد هنا الكتابة المخلصة لقضية الأدب وليست تلك التى تُكتب من باب التسرية، أن تكتب رواية ما يعنى أن تتلبسك حالة خاصّة وغامضة من الإلهام لا تعرف كنهها ولا تعرف كيف تعمل فى الحقيقة، تلك الحالة قد تفصلك عن الواقع لأسابيع طويلة، وربما أشهر، قبل أن تعود إلى حالتك الطبيعية، لهذا أقول دائماً إن الرواية حالة خاصّة لا يمكن أن نحملها أفكاراً أو توجهات محدّدة أو نخضعها لتوجهات معينة. هل ترى أن الحريات فى العالم العربى مازالت تعانى من القيود؟ تبقى قضية الحريات فى العالم العربى قضية جدلية، الأمر يعود للثقافة العامّة والتربية والسلوك الاجتماعى والتعود على تقبل الآخر، للأسف مازال الموروث والاعتقادات التاريخية الملتبسة هى التى تتحكم بمجتمعاتنا على الرغم من ظاهرها المتحضر، فى الغرب يسمون ذلك خصوصية ثقافية، ويقصدون بها مجموعة القيم والتقاليد والأعراف والمعتقدات التى تربى عليها الفرد العربي، والتى تشكل بالضرورة عائقاً أمام تقبله الآخر، وهو كلام حقّ يراد به باطلاً فى الحقيقة، والديمقراطية ليست ثوباً موحد القياس يناسب جميع الشعوب. هل تركّز أنظارك على القصة والرواية فقط، أم على أجناس أدبية أخرى؟ أنا روائى بالدرجة الأولى والرواية تشغلنى وتسحرنى دائماً، أشعر أنّها قادرة على تجسيد أحلامى ورؤيتى للعالم الصاخب الذى نعيش فيه، لكنّنى أكتب القصة القصيرة أيضاً، على الرغم من أنّنى أصبحت أميل أكثر للنصوص المفتوحة غير المصنفّة كقصص قصيرة بالمعنى الحرفي، من اهتماماتى الأخرى كتابة السيناريو أيضاً، سبق أن كتبت سيناريوهات جيّدة، لكن مشكلتى المستعصية هى الوقت، حالياً احلم بتحويل روايتيّ “خان الشّابندر” و”لا عذارى فى حلب” إلى سيناريوهات أفلام مختلفة فى حال عثورى على مخرج شبه مجنون مثلى قادر على تجسيد تلك الصور والعوالم. ما أبرز التحولات التى طالت الرواية العراقية؟ من وجهة نظرى مرّت الرواية العراقية بأربعة أطوار منذ نشأتها حتّى الآن، الأول هو مرحلة التأسيس فى الأربعينيات والخمسينيات، وكانت مرحلة متواضعة لكنّها رائدة، ثم المرحلة الثانية على يد الروائيين المهمين من جيل الستينيات، وهى مرحلة مهمة ومختلفة على الرغم مما يؤخذ عليها من تأثيرات سياسية وأيديولوجية، ثم المرحلة الثالثة وهى مرحلة الحرب التى وسمت أعمال جيل كامل من الروائيين وكانت مرحلة متداخلة لم تستطع تكوين ملامح واضحة لها. وأخيراً مرحلة ما بعد الاحتلال فى العام 2003 وهى المرحلة الحالية التى تحاول أن تبلور بقوّة ملامح مختلفة وموغلة فى القسوة والإحباط، لكنّها مرحلة لم تكتمل بعد ويلزمها الكثير من التأصيل والتأطير النقدي.