يأخذ كثيرون على الموقف العربى الجماعى الرافض لقرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتباره موقفا لا يناسب حجم الكارثة الممثلة فى القرار الأمريكى. بعض هؤلاء يعتبرون الموقف التركى مثالا يجب أن يحتذى، فقد أعلن الرجل موقفا شديدا فى رفض القرار الأمريكى، وأنذر الأمريكيين بأن يقلب عليهم العالم الإسلامى كله، وأن يقطع علاقاته مع إسرائيل فى حال تم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. ثم قام بالدعوة لعقد قمة لمنظمة المؤتمر الإسلامى باعتبار بلاده رئيسا لهذه المنظمة فى دورتها الحالية، وبالفعل عقدت القمة فى إسطنبول يوم 13 ديسمبر الجارى، وأجمعت الوفود المشاركة فى القمة على رفض القرار الأمريكى وحذرت من تداعياته السلبية على السلام والاستقرار فى المنطقة ودعت الرئيس ترامب إلى التراجع عن قراره الخطير، وانتهت إلى قرار بدعوة العالم إلى الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس. لا شك أن الرفض والإدانة لهما دلالات مهمة بالنسبة إلى عزلة الموقف الأمريكى ولكل من يفكر فى اتخاذ خطوة مماثلة لخطوة الرئيس ترامب. ولا شك أيضا أن ما قيل فى القمة الإسلامية لم يختلف كثيرا عما قيل وأعلن فى اجتماع وزراء الخارجية العرب، والقواسم المشتركة بين القمة والاجتماع كثيرة، وتنبئ بأمر واحد وهو أن كل الرافضين للقرار الأمريكى متمسكون بالعمل فى مسارات سياسية وقانونية، ولم يطرح أى منهم بديلا آخر، كالحرب مثلا، أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل لمن لديهم مثل هذه العلاقات، أو مقاطعة تامة لمبدأ المفاوضات التى تنتهى بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى، أو حتى مقاطعة المنتجات الأمريكية أو وقف الاتصالات مع واشنطن. فكل ذلك لم يصدر عن أحد من القادة العرب أو قادة الدول الإسلامية. وأقصى ما قيل أنه يجب أن تكون هناك رعاية أخرى غير الرعاية الأمريكية لعملية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، غير ان هذا البديل فى مجال رعاية المفاوضات لم يحدد بعد.
أما الرئيس الفلسطينى الذى أشار إلى الانتفاضة الفلسطينية وما يبذله الفلسطينيون من تضحيات من أجل القدس ومن أجل مشروع دولتهم المستقلة. فلم يكن بعيدا عن التمسك بحل الدولتين وعن ضرورة العودة إلى مفاوضات جادة وتحت رعاية أممية أو من عدد من الدول الكبرى.
وفى ظل هذه البيئة السياسية يقول البعض إن الموقف التركى كان أكثر قوة، وأن وعد أردوغان بفتح سفارة تركية فى القدسالشرقية يمثل ذروة تلك القوة. الغريب هنا أن هؤلاء يتغاضون عن ما قاله أردوغان نفسه بأن الاحتلال يعيق فتح تلك السفارة. فأين القوة إذن؟ معروف أن فتح السفارات يتم باتفاقات تبادلية موثقة، يليها تحديد السفير المناسب وقبول الدولة لهذا السفير لكى يعمل كهمزة وصل لتعزيز العلاقات الثنائية. وإذا تصورنا أن إحدى الدول الداعمة لفلسطين هى كثيرة وداعمة لحقوق الشعب الفلسطينى قررت فتح سفارة لها فى القدسالشرقية وهى ما زالت واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى الاستيطانى، فهل سيمكنها إنجاز الأمر على النحو المعتاد؟ بالطبع لا، وكلنا يعلم ذلك جيدا. وحين يقول أحدهم إنه ينوى فتح سفارة لكن الاحتلال يمنع، فليس هذا جديدا، ولكنه نوع من التمنى الذى يدغدغ المشاعر وحسب. أما عمليا فلا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا.
والسؤال الذى يطرح نفسه وفى ظل عدم القدرة على فتح سفارة فى القدسالشرقيةالمحتلة، وهى العاصمة الموعودة للدولة الفلسطينية المستقلة حين يتم الاتفاق على هذا الأمر، والذى يبدو مؤجلا إلى وقت بعيد نسبيا، فلماذا لا تُقدم أنقرة على قطع العلاقات مع تل أبيب، أو لم تقم باستدعاء السفير التركى للتشاور كنوع من تأكيد الغضب وإمكانية التصعيد، أو لماذا لم تعلن وقف التبادلات التجارية أو الامتناع عن استقبال السائحين الإسرائيليين فى منتجعات تركيا؟ كلها أسئلة لا تجد إلا إجابة واحدة، وهى أن أنقرة تميل دائما إلى المواقف المثيرة حتى وهى تعلم جديا أنها لن تغير من الواقع شيئا، كما لم تجد قرار الرئيس ترامب من حيث التأثير على هوية القدس العربية الإسلامية يفوق ما حدث قبل عدة سنوات حين قامت القوات الإسرائيلية بالاعتداء السافر على سفينة الإغاثة التركية التى كانت متوجهة نحو قطاع غزة لكسر الحصار الإسرائيلى. ومعروف أن أنقرة قطعت العلاقات مع تل أبيب آنذاك واستمر الأمر عدة سنوات ثم تمت تسوية الأمور المعلقة فى هدوء وعادت العلاقات إلى ما كانت عليه فى السابق، بل ارتفعت التبادلات التجارية بينهما إلى أكثر من الضعف وباتت تلامس الخمسة مليارات دولار، وهناك اتفاق على زيادتها فى العام المقبل بنسبة 20 %. الأكثر من ذلك فإن قائمة التبادلات تشمل امورا عسكرية واقتصادية وسياحية.
إن رغبة تركيا فى فتح سفارة لها فى القدسالشرقية والوعد بإنجاز ذلك بعد تحريرها، لا يعد أمرا خاصا بتركيا وحدها، وعمليا فهو لا يحمل أى مغزى جديد، فكل العالم العربى والإسلامى سوف يسارع إلى فتح سفارات مع الدولة الفلسطينية المستقلة حال إعلانها. فالأمر ليس ميزة خاصة لأنقرة إن أعلنت ذلك. والأهم الآن وحسب مقتضيات اللحظة هو العمل على تحرير فلسطين أولا وفق حدود يونيه 1967، وكيفية دعم المفاوض الفلسطينى وكيفية إجبار إسرائيل على وقف سرطان الاستيطان فى الأراضى المحتلة، خصوصا فيما يعرف بالمنطقة “ج” التى لم تنسحب منها إسرائيل وفقا لاتفاقات أوسلو، وتخضع لإدارة عسكرية إسرائيلية مباشرة. هذه هى المعضلة الكبرى التى تواجه ليس فقط الفلسطينيين بل العالمين العربى والإسلامى كله، كما تواجه أيضا الدول الكبرى المعنية بإنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وفق صيغة مقبولة للطرفين ويمكن تسويقها واعتبارها أساسا لسلام واستقرار فى الشرق الأوسط وفى العالم أيضا. فالأجدر هو مساندة الفلسطينيين مساندة فعلية وليست قولية مهما كانت جاذبية الكلمات، والوقوف معهم بكل قوة لدعم انتفاضتهم ضد الاحتلال وحتى تحقيق الحرية والاستقلال.