حققت مصر خلال الأسبوع الماضى ما لم يحدث خلال عقد من الزمن عدة وساطات عربية، ومحاولات فلسطينية مظهرية فى عواصم عربية مختلفة. ولقد لقى هذا النجاح، وخصوصا شقه المتعلق بالعلاقات الفلسطينية الفلسطينية، تأييدا وإشادة من العديد من الدول العربية والعالم بالرغم من برود وتحفظ ردود الفعل من قبل الشعب الفلسطينى فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد يمكن فهم رد الفعل المتحفظ هذا على ضوء تشكك الشعب الفلسطينى من مصداقية هذا الاتفاق والاستغراب من تحقيقه من قبل ممثلى حركة حماس وحركة فتح خلال يومين فقط من الاجتماعات فى مقر المخابرات المصرية فى القاهرة، بعد سنوات عديدة وصعبة عاشها الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة. فى الواقع فإن هذه الخطوة التى بدت مفاجئة للبعض، قد تم توقعها من قبل المختصين فى العلاقات الفلسطينية منذ مدة طويلة، فى الفترة الأخيرة، ويعتقد بعض المحللين أنه بسبب التغيرات الإقليمية والدولية، أبدت حركة حماس استعدادها لتحمل مسئوليات الدخول لنادى المنظمات السياسة الممكن اعتبارها شريكاً فى عملية السلام، وقامت الحركة باتخاذ قرارات جريئة ومؤلمة لتحوز مثل هذا الاعتراف. والمصريون يعرفون ذلك، ولكن أولوية تسوية وضع حماس مع مصر هى التى جعلت موضوع المصالحة الفلسطينية ثانية فى الترتيب. أمّا عن محادثات حركة حماس بقدها وقديدها وجمع قياداتها السياسية والعسكرية مع المخابرات المصرية، فهو موضوع لا يتم النشر عنه ولا التحدث بتفصيلاته، ولم يتم إصدار أى بيان أو توضيح من قبل الجانب المصرى عما تم أو لم يتم الاتفاق عليه، واقتصر بيان المتحدث الرسمى المصرى على الترحيب بالتوصل لاتفاق الفلسطينيين على تحقيق المصالحة بينهم. من جهته حافظ السيد إسماعيل هنية، على هذا التقليد فى مؤتمر صحفى له بعد عودته للأراضى الفلسطينية أنه «ناقش» مع المصريين خمسة ملفات إستراتيجية، والنقاش لا يعنى الاتفاق، ولا بد فيما يبدو من استمرار الاتصالات فى هذا الموضوع بين الطرفين فى المستقبل. إن الشعب الفلسطينى يدين بهذه المبادرة الواعدة إلى الوساطة المصرية المغلّفة بالحزم والكتمان، وكذلك حركة حماس وديناميتها التى أصبحت أميل لواقعية الحقائق على الأرض فى هذا الزمن بعد سنوات من التمسّك بالمواقف المتحدّية. وأيضاً للرئيس محمود عباس وحركة فتح على تجاوبها المخلص والسريع.
دخلت حركة حماس اليوم، فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل، عالماً جديداً يلفّه الوضوح والدبلوماسية ومسئولية الإجابة، بما لا يقبل الشك، على أسئلة مؤلمة وأساسية. نفس هذا التغيير كان قد كابده الرئيس الراحل ياسر عرفات فى أوائل سنوات العقد التاسع من القرن الماضي. ولقد بدأ السيد أبو مرزوق هذا الأسلوب الجديد فى زيارته الأولى الأخيرة إلى روسيا، واستعمل نفس تعبيرات الرئيس عرفات من أن الحكومة الفلسطينية، التى ينص اتفاق حماس وفتح على الشراكة بتشكيلها، ليست بالضرورة ملزمة بالاعتراف بإسرائيل مادامت منظمة التحرير الفلسطينية قد اعترفت بإسرائيل، ثم أبدى رغبة حماس فى الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية وانتخابات مجلسها الوطني. تنفيذاً لهذا المنطق الذى يعفى حركة حماس من الاعتراف بإسرائيل ما دامت منظمة التحرير التى ستنضم حركة حماس لها قد اعترفت بها. لقد بدأ بشكل مبكر تغيّر لغة حماس السياسية حين أضاف أحد إخوانه من القيادات الفلسطينية فى وفد حركة حماس بأنه «يأمل» ألا تقوم إسرائيل بعرقلة إجراء الانتخابات الفلسطينية.
لم يعد كافياً اليوم أن تلغى حركة حماس مجلسها الإدارى فى غزة ، كما لن يعفى عودة وزراء حكومة التوافق إلى غزة حركة فتح والسلطة الوطنية من مساعدة الشعب الفلسطينى فى غزة للخروج من المأساة التى يعيشها. ذلك لأن المطلوب منهما أن يتنازلا عن سلطات لم ينلها أحدهما عن طريق شرعى قرره الشعب الفلسطيني، صاحب الشرعية الوحيد. هل المصالحة بين حركتى فتح وحماس هى ما يريده الشعب الفلسطيني، وتستوجبه الأوضاع والأزمات التى يواجهها هذا الشعب؟ أوليس هناك مصالحة الآن بين حركتى فتح وحماس؟ أولم تكن هناك مصالحة بينهما فى السنوات العشر التى أعقبت أحداث شهر يوليو (تموز) 2007 الدامية؟
فتح وحماس ليستا متخاصمتين ولا متصادمتين فى ساحات الوغى وأتون المعارك، كانتا مختلفتين حقيقة على مبادئ وسبل وأسلوب وأهداف إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وإنما كانتا فى صراع حول السلطة ومناطق النفوذ، وما يطلبه الشعب الفلسطينى اليوم ليس مصالحة بينهما، لأن هناك مصالحة واقعية وعمليّة بينهما تجلّت فى حكومتى وفاق وتوافق منذ عام 2007. إن أساس الصراع الدامى بينهما هو اختلاف برامجهما السياسية. لقد فشلت التجربتان السابقتان لحكومتى الوفاق والتوافق، لأن طرفيهما لا يريدان صيغة حقيقية وفاعلة لعمل فلسطينى وطنى مشترك، بل تمسكا بالخيار الأكيد لتفشيل أى حكومة مشتركة عن طريق تجاهل الشرط الأساسى لنجاحها، وهو التوصل إلى برنامج وطنى مشترك تعمل على أساسه الحكومة التوافقية؟
وعلى افتراض حسن النية من الطرفين، فلماذا لم تنجح أى محاولة خلال العقد الماضى فى إطار مفهوم المصالحة والتوافق والشراكة من تحقيق ما يريده الشعب الفلسطينى وتستوجبه ظروف الصمود والنجاح؟، إن نظرة واقعية للوضع الفلسطينى السياسى فى المرحلة الحالية تفسّر ذلك بوضوح، إن حركتى فتح وحماس يجب أن يرجعا عن التمسك كلٍ ببرنامجها السياسي، لهذين البرنامجين اللذين ليسا فقط مختلفين فى كل الأوجه ولكنهما أيضًا متعارضان ومتصادمان ومعاديان لبعضهما أيضًا.
إن الخطوة الشجاعة التى قام بها التنظيمان الأكبر والأكثر شعبية خلال الأسبوع الماضى جديرة بالترحيب بها والعمل لإنجاحها وإعادة اللحمة للأرض والشعب الفلسطيني. والبرنامج الوطنى المشترك بينهما وبتأييد من الشعب الفلسطينى هو الطريق الوحيد والأجدر بتحقيق هذه الأمنيات والمطالب. قد يترتب على حركتى فتح وحماس وكل التنظيمات السياسية والمجتمعية العمل على رفع سقف الإنجازات الأخيرة، والتخلى عن السلطة فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لحكومة مؤقتة مصغّرة برئاسة أعلى مستوى من رجال القضاء للتوصل بالحوار والتوافق إلى برنامج عمل وطنى مشترك، يتم على أساسه الدعوة لانتخابات رئاسية وتشريعية تقود العمل الفلسطينى وتكسب تأييد الشعب واحترام العالم، حكومة وقيادة منتخبة نحارب جميعاً تحت راياتها الموحّدة لو فرض علينا القتال، ونفاوض أيضاً حولها فيما لو نجح تفاوض أو أفاد.