(1) الطريق إلى الكوفة “ إنه جاسوسٌ أمريكيٌّ ! “ هكذا هتفَ أحد أفراد جيش المهديّ، وهو ينحنى فى نافذة سيّارتي، ويخطف كوفيّتى الحمراء/ البيضاء التى كنتُ أعتمرُها، متَخَفِّياً . كان ذلك فى التاسع عشر من نيسان ( أبريل ) 2004، وكنت أحاولُ بلوغَ المدينة المقدّسة، النجف، حيث مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعيّ الغامض، الذى قد كان سيطرَ على مُعْظم العراق الجنوبيّ فى أوائل الشهر، مُحاصَرٌ، الآن، بقوّاتٍ أمريكية وإسبانيّة . و قد كان جنرالٌ أمريكى قال إن مقتدى الصدر سوفَ يُقتَل أو يؤسَر . كنت أعتمرُ الكوفيّةَ لأن طريق ال 63 ميلا، من بغداد إلى النجف، يمرّ عبرَ سلسلةٍ من بلداتٍ سُنّيّةٍ متعصِّبة، بالغةِ الخطر، حيث تعرّضَ أجانبُ للهجوم أنا أبيضُ البَشرة، وشَعرى لونُه بُنّيٌّ خفيفٌ، لكنى ظننتُ أن الكوفيّة قد تُقْنِعُ أى امرئٍ ينظرُ إلى السيّارة بأنى عراقيٌّ. الكوفيّةُ ليست للتفتيش الدقيق . كان علَيّ أن أكون أكثرَ تحَوُّطاً . كنتُ أسافرُ فى سيّارة مرسيدس من الطراز غير المستعمَل كثيراً فى العراق، وهو طرازٌ يسترعى الانتباه بيُسْرٍ. كنت أجلسُ فى الحوض الخلفيّ لأكون أقلَّ انكشافاً . فى المقعد الأمامي، كان حيدر الصافى، وهو شخصٌ بالغُ الذكاء، وهادئ المزاج، فى الثلاثين من عمره وهو مترجِمى ودليلى . كان مهندساً كهربائيّاً، وفى أيام صدّام حسين كان يديرُ شركةً صغيرةً لتصليح آلات الاستنساخ. حيدر الصافى يسكن فى حيّ الكاظمية الشيعيّ ببغداد، حيث أحد أهم المزارات الخمسة للشيعة فى العراق . لم يكن يحتسى الخمر، ولا كان يدخِّنُ، لكنه كان علمانيّاً فى نظرته العامّة . أمّا سائقى فهو باسِم عبد الرحمن، الأكبر سنّاً قليلاً من حيدر الصافي، و ذو الشَعر القصير جداً . إنه سُنّيٌّ من غربيّ بغداد، وقد أثبتَ هدوءَ أعصابه قبل عشرة أيّام، عندما وقعْنا فى كمينٍ منصوبٍ لقافلة من سيّارات الوقود الأمريكية، قرب أبو غرَيب، على طريق الفلّوجة . خرجنا، نحن الثلاثة، من السيّارة، وانبطحْنا على الأرض، إلى أن توقّفَ إطلاقُ النار فترةً، فقاد باسمُ السيّارةَ، ببُطْءٍ، وعَمْدٍ، عبر مجموعاتٍ من القرويّين المسلّحين الذين كانوا يندفعون للمشاركة فى القتال. تمدّدت فى الحوض الخلفيّ للسيّارة، آمِلاً فى أنهم لن يكشفوا أننى أجنبيٌّ . جئنا عبرَ أفراد ميليشيا جيش المهدي، ذوى القمصان والسراويل السود، ونحن على مشارف مدينة الكوفة الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات، على مبعدة أميالٍ قليلة من النجف . كانوا واقفين أو متربِّعين على التراب، على جانب الطريق قبل أن ينعطف إلى الكوفة، حيث الجسرُ يصِلُ ضفتَى النهر . كانوا شبّاناً مسلّحين جيّداً ببنادق الكلاشنكوف، بينما تتدلّى قاذفاتُ الآر. بى . جى على ظهورهم، وتنحشرُ المسدّساتُ فى أحزمتهم . كثيرٌ منهم كانت أحزمة الرصاص متصالبةً على صدورهم . كانوا كثيرين جداً على نقطة تفتيش عاديّة . كانوا مستنفَرين، عصبيّين، لأنهم توقّعوا أن الجنود الأمريكيّين قد يهاجِمونهم فى أى لحظةٍ . فى البعيد، كنت أسمع قعقعة النيران، شمالاً، على امتداد الفرات . لم تكنْ لنقاط التفتيش فى العراق، آنذاك، السمعة التى اكتسبتْها لاحقاً، فى كونها أماكنَ تعذيبٍ، تديرُها فِرَقُ موتٍ ببزّاتٍ عسكريّة أو بدونِها، متلهِّفةٌ إلى قتل أو تعذيب شخصٍ ما . ربّما خلدْنا إلى الطمأنينة لأننا خلّفْنا وراءَنا، البلداتِ المتجهمة : المحموديّة والإسكندريّة واللطيفيّة، حيث الاختناقات المروريّة الدائمة، تسمحُ بأن يكون التدقيق أقلَّ . كما أن هناك هدنةً . فاليوم هو مولدُ النبيّ . وقد أعلنَ الناطق باسم مقتدى، فى النجف، الشيخ قيس الخزعليّ، توقُّفَ القتال مع الأمريكيّن لمدة يومين، احتراماً لهذه المناسَبة، وحمايةً للزوّار المتدفقين على المدينة لإحياء الذكرى .