الخوض فى سيرة رجل من طراز الزعيم التونسى الحبيب بورقيبة كالسير بحقل ألغام، فشخصيته سجالية بامتياز، هلك قوم بمحبته وآخرون بعداوته، فالرجل الذى عاش نحو قرن خاض خلاله معارك وتجارب، وعايش تحولات كبرى على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، ولعب أدوارًا ما زالت موضع خلافات عميقة تجاوزت مواطنيه لتصل للعرب والمسلمين، لكن هناك إجماعًا باعتباره استثنائيًا، وسط أقرانه من حُكّام شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وتفتح وعيه مُبكرًا على القضايا السياسية يتصدرها الاحتلال الفرنسي، بينما كابد حياة الفقر ومشاعر اليُتم بوفاة والدته بصباه الباكر، ومرضه بالسُلّ نتيجة سوء التغذية، وحينما احتجز بالمستشفى قرأ كتاب «تونس الشهيدة»، للشيخ عبدالعزيز الثعالبي، أحد مؤسسى الحزب الحر الدستوري، ليصبح أول شخصية تلعب دورًا بتكوينه الثقافى والوجداني، وواصل تعليمه بمدرسة «كارونو» الثانوية، وكان اختلاطه بالطلبة الفرنسيين دافعًا لتفوقه فحصل عام 1922، شهادة المدرسة العليا للغة والأدب العربي، وانضم للحزب الحر الدستوري. مرحلة التكوين
سحرته شخصية «أتاتورك» وتجربته الإصلاحية ليصبح الرجل الثانى بمرحلة تكوينه، واعتبره قدوته وراودته أحلام بأن تمضى بلاده على «درب الكمالية» فسافر باريس عام 1924 ليلتحق بكلية الحقوق، ويدرس علم النفس بجامعة السوربون، والمالية العامة بمعهد العلوم السياسية، وواظب على محاضرات المستشرق الفرنسى الشهير وليام مرسى (William Marçais) حول الثقافة العربية، ومحاضرات جورج دوماس (Georges Dumas) بعلم النفس وكان يُلقيها أسبوعيًا بمستشفى (Sainte Anne) وكانت فترة دراسته الباريسية حافلة بالأحداث والمعارف، وساهم بمقالات لصحيفتى (L'œuvre ) و(Le Populaire) وانبهر بالزعيم اليسارى إدوار هريو (Edouard Herriot)، رئيس الحكومة الفرنسية البارع بالآداب والخطابة، فنصحه بحضور جلسات البرلمان ليتعلم قواعد السياسة، والممارسة النيابية.
توفى والده عام 1926، قبل رؤية ابنه محاميًا وشخصية مرموقة، وبأغسطس 1927، خلال إقامته بباريس، تزوج السيدة ماتيلد لوران التى اتخذت اسم مفيدة بورقيبة، وهى أرملة ضابط فرنسي، بعدما أعجب بدماثة أخلاقها وأنجب منها الحبيب الابن، عام 1943 وارتبط عاطفيًا بوسيلة بن عمار وطلق الأولى يوم 21 يوليو 1961 ليتزوج الثانية، لكن حرب بنزرت وتوابعها الجسيمة جعلته يؤجله إلى 12 أبريل 1962، وانتهت بالطلاق فى 11 أغسطس 1986 بعدما تعاظم دورها السياسى لدرجة أحرجته.
تجاوز الشاب التونسى الطموح دراسة وممارسة السياسة والقانون والصحافة ليهتم بالمسرح، فانضم لاحقًا لإحدى الفرق التونسية، وشجعته الفنانة اليهودية حبيبة مسيكة، التى أحرقها أحد معجبيها الغيورين، وشاركها بمسرحيات «شهداء الحرية» و(Corneille) و(Ruy Blas) لفكتور هوجو، ويبدو أن قلبه الأخضر خفق للفنانة بارعة الجمال كثيرة العشاق، وعندما أيقن استحالة الوصول لقلبها، طلب منها بينما كانا يستعدان لصعود خشبة المسرح أن تُقبله «ليس كالأم لابنها، ولا الأخت لأخيها، وإنما قبلة الحبيبة لحبيبها» واستجابت، وبعد مرور عقود روى الواقعة بإحدى خطبه الرسمية أمام شعبه، وأدرك معاصروه أن السياسة علمته فنون المناورات، والقانون ساهم بهندسة تفكيره، لكن المسرح لقّنه «سحر الكلمة، وبلاغة الصمت حين يصبح ضرورة، ومهارات لغة الجسد، والتحكم بنبرة الصوت وتعبيرات الوجه» وباختصار تجاوز الدراسة الأكاديمية ليمتلك أدوات الزعامة، وترسخت ثقته بنفسه وتجلت خلال خطاب شهير ألقاه بجنيف (يونيو 1973) أمام المنظمة العالمية للعمل، قائلاً: «من حفنة غبار، وخليط قبائل وعروش، كانت مستسلمة للخنوع والذل، أيقظت شعبًا وأمة».
ويشير المؤرخ الفرنسى شارل جوليان، لمناخ جعل بورقيبة ثمرة حركة إصلاحية جوهرية عرفتها تونس عام 1857، عندما سُنَّ أول دستور تونسى باسم «عهد الأمان» بإيمان نخبة تونسية بالإصلاح والحداثة، وبإقراره شهدت البلاد إصلاحات هائلة أجراها الوزير خيرالدين باشا (18221890) مؤلف كتاب «أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك» مبلورًا فيه رؤيته الإصلاحية للعالم الإسلامي، وواصل إصلاحته بدعم الطباعة والنشر، وإنشاء «المدرسة الصادقية» وتخصصت بتعليم اللغات الأجنبية، والعلوم الحديثة، وأفرزت نخبة لعبت أدواراً مفصلية بالنضال الوطنى وكان بورقيبة أحدهم.
«المجاهد الأكبر»
طاف بورقيبة جولات داخل تونس وخارجها يخاطب الجماهير منددًا بالاستعمار، ومطالباً بالاستقلال، واستقبل بحفاوة بالغة فقرر المقيم العام الفرنسي، بيروتون (Biroton) ضبطه فى 3 سبتمبر 1934، وإبعاده لقرية قبلى الصحراوية فاتصل بالجنوب التونسى الخاضع للحكم العسكرى الفرنسي، فنقلته سلطات الاحتلال لأماكن متعددة، فاستجاب الشعب لدعوته بالإضراب العام، وخرجت مظاهرات الشعبية بأنحاء تونس، وسقط عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، واعتقل بالسجن العسكري، ونشبت الحرب العالمية الثانية، فنُقل بورقيبة لحصن «سان نيكولا» بمارسيليا، وعندما احتل الألمان المنطقة الحرة بفرنسا، نُقل لحصن «مونليك» بمدينة ليون، ثم قلعة «فانسيا»، وبعدها روما، وحاولت إيطاليا إغراءه بالتعاون لكنه رُفض، وفى 9 أبريل 1943، عاد لبلاده، وقابل «المقيم العام» الجديد، الجنرال «ماست»، وسلمه برنامجًا لتطوير نظام الحماية لكنه رفضه.
وبدأت جولاته الخارجية بالقاهرة يوم 26مارس 1945، وبعد نحو عامين سافر للولايات المتحدة لاستقطاب تأييدها، وزار معظم الدول العربية، وعاد لتونس يوم 8 سبتمبر 1949، بعد غياب دام قرابة خمس سنوات، وواصل الدعوة لقضية بلاده ففى 12 أبريل 1950، سافر لباريس، والتقى قادة الرأى العام وكسب تأييدهم، وبدأ جولة حول العالم، زار خلالها مصر، وباكستان، والهند، وإندونيسيا، وإيطاليا، وبريطانيا، ودول إسكندنافيا، وأمريكا وإسبانيا، واختتم حملته بتركيا ولبنان.
وبمجرد عودته لتونس، بدأ حملة مكثفة لتهيئة الشعب للكفاح المسلح، وقرر إحالة القضية للأمم المتحدة لتدويلها، واجتاحت مظاهرات دامية البلاد، وفى 18 يناير 1952، اعتقلته السلطات الفرنسية للمرة الثالثة، فاندلعت الثورة بأنحاء تونس احتجاجاً على اعتقال «المجاهد الأكبر» ففرض الاحتلال حظر التجول، وجرت أحداث كثيرة يضيق المجال بسردها.
بعدها أطلق بورقيبة مرحلة جديدة للنضال، تمثلت بمطالبة باريس بإعادة النظر باتفاقيات الحكم الذاتي، وتطويرها للاستقلال الكامل، وفى 20 مارس 1956، اعترفت فرنسا باستقلال تونس، ووقعت معاهدة تعتبرها دولة مستقلة ذات سيادة بممارسة مسئولياتها فى ميادين الشئون الخارجية والأمن والدفاع, وتأسيس جيش وطني، وشكّل بورقيبة فى 14 أبريل 1956 أول حكومة مستقلة، وطالب بجلاء القوات الفرنسية لتكتمل سيادتها.
وفى 12 نوفمبر 1956، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة قبول تونس بعضويتها، فسافر الحبيب لنيويورك، وألقى خطابًا ناريًا بالمنظمة الدولية، وطالب بحق الجزائر بالحرية، وأعلن انطلاق حرب العصابات وقبول المتطوعين من جميع شعوب العالم فأصدر مجلس الأمن قرارًا عاجلاً بوقف إطلاق النار فورًا، لكن فرنسا رفضته، فأعلن الحبيب استمرار معركة الجلاء، فاضطرت فرنسا للجلاء دون شروط.
بناء الدولة المدنية
عقب الجلاء، بدأ بورقيبة إرساء قواعد الدولة بتطهير البلاد من عناصر الفوضى والاضطراب، وتوفير الأمن والاستقرار، فأنشأ عام 1956 محكمة القضاء العليا وطوّر نظام الإدارة المحلية، وأسس نواة للجيش الوطنى والحرس الوطني، وطهّر القضاء وخاض حملات ضارية، جمع فيها بين أصالة الرأي، وجرأة التشريع، وبراعة التطبيق، فكان نموذجًا استثنائيًا للمصلح السياسى والاجتماعى بسعيه لتطوير التقاليد البالية، وعقب أربعة شهور على توليه السلطة، أصدر فى 13 أغسطس 1956 قانون الأحوال الشخصية، ليحظر تعدد الزوجات، ويقيد الطلاق، ويساوى المرأة بالرجل بشتى مناحى الحياة، ويؤسّس الاتحادَ القومى النسائي، لدعم المرأة بممارسة حقوقها، ومعالجة مشكلاتها، ودعا لانتخابات المجالس البلدية، ومارست التونسيات الاقتراع للمرة الأولى.
رحل بورقيبة، وبقيت إصلاحاته الحداثية بالتعليم والصحة والقضاء والبنية التحتيّة، لا تزال شاهدة على تحديه سطوة الرجعية، ورسّخ منظومة مدنية أصبحت حاليًا عنوان المعركة السياسية والفكرية والحضارية بين المتأسلمين والقوى التقدميّة القابضة على التراث الإصلاحى ل«المجاهد الأكبر» و«بانى الجمهورية»، و«محرّر المرأة» الذى سيتوقف التاريخ أمامه طويلاً.