عقب اجتماع ماراثونى للحكومة التونسية برئاسة يوسف الشاهد الاثنين الماضى، طمأن وزير الاستثمار والمالية بالنيابة محمد الفاضل عبد الكافى، العاملين بالدولة على توافر سيولة لصرف الرواتب حتى نهاية العام، بعد اللجوء للاقتراض من البنوك المحلية. وقال إن الميزانية العامة تواجه وضعا صعبا ودقيقا برغم المؤشرات الإيجابية لنمو الاقتصاد، لكن الدولة مستعدة للوفاء بالتزاماتها فى دفع الأجور. وجاء هذا التصريح بعد أن صرح الوزير نفسه أمام جلسة عاصفة بالبرلمان الخميس الماضى، بأن أجور العاملين بالدولة لشهرى أغسطس وسبتمبر غير مضمونة. وعلى مدى الأربعة أيام الفاصلة بين هذا وذاك، عاشت تونس جدلا تشوبه الصدمة والسخط وتبادل الاتهامات.. وأيضا محاولة فهم ما يجرى ومدى خطورته. فقد جاءت هذه التصريحات عقب تداول الجهات الرسمية مؤشرات إيجابية على تحسن الاقتصاد هذا العام، وبينها ارتفاع النمو إلى 2.1 فى المائة فى الربع الأول من العام الجارى، مسجلا النسبة القصوى منذ سبع سنوات.و دفع هذ التحسن إلى توقع الحكومة بأن تحقق تونس معدل نمو 2.5 فى المائة هذا العام بعدما ظل المتوسط على مدى السنوات التالية لثورة 2011 يدور حول 1.5 فى المائة .كما تعافى قطاع السياحة، وجرى الإعلان قبل أيام عن قدوم 3,5 مليون سائح أجنبى منذ بداية العام الجاري. ناهيك عن عودة إنتاج الفوسفات لمعدلاته واستعادة أسواقه الخارجية بعد سلسلة إضرابات على مدى السنوات الماضية. لكن أيضا ظهرت مؤشرات سلبية من بينها توقف وتعطل إنتاج النفط فى الجنوب جراء اعتصامات الشباب المطالب بفرص العمل والتنمية المحلية بخاصة فى ولايتى تطاوين وقبلى حيث تتركز حقول البترول والغاز.
أزمة تصريحات وزير المالية بالنيابة تزامنت مع زيارة بعثة من صندوق النقد الدولى إلى تونس وعلى رأس مطالبها خفض كتلة الأجور فى ميزانية الدولة من 15 فى المائة من الناتح المحلى الخام إلى ما دون 14 فى المائة، وهو أمر يتطلب تخفيض أعداد العاملين بجهاز الدولة، ووقف زيادات فى الأجور وقعت عليها حكومة الشاهد وسابقتها (الحبيب الصيد) مع الاتحاد العام التونسى للشغل كبرى الاتحادات النقابية وأكبرها تأثيرا فى المجال العام والسياسة. وفى 12 يونيو الماضى أعلن الصندوق عن الإفراج بعد تأجيل استمر أربعة اشهر عن القسط الثانى (314 مليون دولار) من قرض لتونس بإجمالى 2.9 مليار دولار على ثلاث سنوات. وهو ما اعتبرته الحكومة وخبراء اقتصاديون شهادة بتحسن الاقتصاد وأداء الحكومة المالى. لكن لم تمر أيام معدودة إلا وفوجئ التونسيون بزيادة فى أسعار الوقود والسجائر. ومع أن الزيادة على الوقود بدت طفيفة، إذ لم تتجاوز فى المتوسط السبعة فى المائة، إلا أنها أثارت سخط اتحاد الشغل الذى اتهم الحكومة التى يدعمها بالأصل بالخضوع لشروط وإملاءات الصندوق. كما جاء نشر موقع الصندوق لخطاب وقع عليه رئيس الحكومة ومحافظ البنك المركزى، يتضمن تعهدات بخفض كتلة الأجور والتسريح المبكر لقطاع من العاملين وخصخصة شركات عامة ليزيد من غضب الاتحاد ومعه أحزاب معارضة، وذلك فى ضوء الطلب المرتفع للشباب التونسى على العمل بجهاز الدولة، فيما قفزت نسبة البطالة من 14 فى المائة عام 2010 إلى 15,6 فى المائة بحلول 2016.
وعلى مدى الأيام القليلة الماضية، أصبح وزير المالية بالنيابة عبد الكافى هدفا لحملات تطالب بإقالته. وعلما بأنه تولى مسئولية هذه الوزارة إلى جانب وزارة الاستثمار بعدما ذهبت وزيرة المالية السابقة لمياء الزريبى ضحية لتصريح صادم آخر حين توقعت انخفاض العملة المحلية (الدينار) بنسبة 10 فى المائة أمام اليورو والدولار . وهو ما حدث بالفعل لاحقا. لكن فى رأى مراقبين بالعاصمة تونس، فإن أزمة تصريحات سداد الأجور تتعلق بما هو أبعد، نظرا لأن حكومة الشاهد تقوم ميزانية العام الجديد ( 2018) وفى الأفق معركة تلوح مع اتحاد الشغل والبرلمان بشأن زيادات أجور العاملين بالدولة (نحو 650 ألفا) التى تأجل تنفيذها إلى مطلع أكتوبر المقبل. وفى هذا السياق جاء تصريح المتحدث باسم اتحاد الشغل سامى الطاهرى، بأن وزراء المالية تعودوا فى هذا التوقيت منذ ست سنوات الحديث عن صعوبة دفع أجور العاملين بالدولة للتنصل من الاتفاقات الموقعة، مشيرا إلى أن الاتحاد لا يتحمل سياسات فاشلة تسمح بالتهرب الضريبى. ويرى مراقبون أن تمرير ميزانية العام الجديد لن يكون أسهل ممن سبقتها، حيث عرفت تونس صراعا وصل إلى حافة المواجهة بين حكومة الشاهد وبين اتحاد الشغل والبرلمان نهاية العام الماضى. وهو ما يرجح أن تصريحات الوزير عبد الكافى تمهيد لجولة صراع مقبلة.