تنتظر تونس الافراج عن الدفعة الثانية من القرض الجديد لصندوق النقد الدولي. وفيما ذهب وزير التنمية والتعاون الدولي «محمد عبد الفاضل عبد الكافي» الى الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك الدوليين بواشنطن للتفاوض حول استكمال تنفيذ الاتفاق الذي وقعته الحكومة السابقة برئاسة الحبيب الصيد ، تشهد البلاد جدلا حول مقترحات رئيس الحكومة الجديدة يوسف الشاهد تجميد زيادات الأجور لمدة عامين حتى 2019 وفرض المزيد من الضرائب على الشركات الخاصة . وهو الجدل الذي انهي شهر العسل بين حكومة «الوحدة الوطنية» وبين الاتحاد العام للشغل (العمال)، وحيث برز الاتحاد بوصفه المعارض الأهم والأقوى لمقترح تجميد الأجور . ومن المتوقع أن يدخل الصراع المجتمعي السياسي حول «روشتة اصلاحات» صندوق النقد مرحلة جديدة مع مناقشة ميزانية الدولة لعام 2017 ، والتي يتقدم بها الشاهد الى البرلمان منتصف الشهر الجاري .وهذا وسط مخاوف من اعتماد سياسة تقشف قاسية تقع اعباؤها على الطبقات الوسطي والفقيرة . اتفاق أبريل 2015 مع صندوق النقد يمنح تونس قرضا مقداره 2٫8 مليار دولار على أربع سنوات .سدد منه الصندوق شريحة أولى تقدر ب 319 مليون دولار .لكنه يربط المضي في السداد باجراءات وصفت بأنها «موجعة» تحت عنوان «اصلاح الاختلالات المالية» . وتاريخ الصندوق مع تونس يعود الى سنوات مابعد الاستقلال مباشرة . فقد انضمت تونس الى عضوية الصندوق عام 1958، أي بعد نحوعامين فقط من استقلالها عن فرنسا. وحصلت على أول قرض منه عام 1964. لكن الاتفاق الأكثر إثارة بين تونس والصندوق جرى في عام 1984 حيث أدي رفع سعر السلع الأساسية بما في ذلك الخبز الى انتفاضة أجبرت الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة للتراجع عن هذه الزيادات وألزمت الحكومات المتعاقبة الى الآن بالحفاظ على سعر الخبز مدعوما.ووفق ما قاله ل«الأهرام» الدكتور «حسين الديماسي» الخبير الاقتصادي ووزير المالية التونسي الأسبق في حكومات ما بعد الثورة فإن اتفاق إبريل 2015 غير عادي أو استثنائي لجهة أنه الثاني في غضون نحو ثلاثة أعوام فقط (اتفاق عام 2013 أقرض تونس 1٫78 مليار دولار). ولفت الى أن الفارق بين اتفاقي عامي 64 و1984 كان عشرين سنة .وهذا يعني في رأيه :«أن المالية العمومية التونسية تمر بصعوبات كبيرة منذ انتفاضة يناير 2011 وتضغط على التوازنات المالية للدولة بنفقات متصاعدة ». ولكن قبل أن نستكمل الرأي الفني في كيفية تعامل تونس مع صندوق النقد الدولي في سياق أزمتها الاقتصادية الراهنة توجهنا الى مقر اتحاد الشغل بوسط العاصمة بوصفه القوى المعارضة الأهم للتكلفة الاجتماعية للاتفاق الجديد مع الصندوق ولأنه الأكثر نفوذا وتأثيرا في التوازنات المجتمعية السياسية بالبلاد لاعتبارات تاريخية ومستجدة .فهو الذي يقود المفاوضات ويعقد الاتفاقات حول أجور وحقوق العاملين مع الجكومة واصحاب العمل كما انه ابرز منظمات المجتمع المدني التي حازت جائزة نوبل للسلام 2015 لدورها في انجاح الحوار الوطني بين الفرقاء السياسيين . والى جوارالمبني التاريخي لمقر الاتحاد يلفت النظر اعتصام محدود علق أصحابه من الشباب لافتات تقول :«لا لخيارات صندوق النقد الدولي .. لا لسياسة التجويع». وفي مكتبه بالطابق الثاني لهذا المبني التاريخي يبلغ حسين العباسي الأمين العام للإتحاد «الأهرام» بأنه غير راض بالأصل عن جملة الالتزامات التي القاها الاتفاق مع صندوق النقد على كاهل تونس والتونسيين . قال: «نحن ذاهبون الى سياسات تقشف تؤدي الى ضغوط اجتماعية وتعتدي على حقوق الأجراء». وينفي «العباسي» استشارة حكومة الصيد التي وقعت الاتفاق من خلال محافظ البنك المركزي ووزير المالية حينها الاتحاد في هذه الالتزامات .ويضيف قائلا :” التقيت شخصيا كريستين لاجارد مديرة الصندوق في واشنطن 5 نوفمبر الماضي ونبهتها الى ضرورة ان يغير الصندوق سياساته وأهمية ان يمزج الاعتبارات الاجتماعية بالجوانب الاقتصادية والمالية الفنية . وأجابتني بأنه اصبح لديهم في الصندوق مثل هذه الأفكار وقدمت تطمينات .إلا ان مانشاهده الآن في تونس شىء آخر . والحكومة السابقة عقدت الاتفاق والتزمت بأشياء لم تعلمنا بها ولم تستشرنا فيها . ونحن شركاء في الاستقرار . والاستقرار الاجتماعي بلاشك هو اساس الاستقرار الأمني “. ولكن ما الخطأ الذي يراه الأمين العام لاتحاد الشغل في طريقة تفاوض الحكومة على الاتفاق وتطبيقه .هنا يجيب قائلا :«الحكومة السابقة ركزت في التفاوض على المسائل التقنية الفنية أكثر من السياسية الاجتماعية . وكان من الواجب ان يذهب السياسيون أولا للتفاوض ثم يستكمل الفنيون الخبراء المفاوضات . لكن المشكلة أن ما جرى كان هو العكس . ذهب الفنيون أولا وقبلوا بالشروط . وبالطبع نحن لسنا راضين عن هذا الاتفاق لما يلحقه من اضرار بالعاملين . وعندما تأتي الحكومة الجديدة حكومة الوحدة الوطنية التي دعمناها لتقترح تأجيل الزيادات في الأجور فأنها تدفع البلاد الى احتقان اجتماعي . ولا يمكننا القبول بهذا المقترح . ليس مكتوبا على الأجراء ان يضحوا دائما .وهناك بدائل اخرى مثل اصلاح ضريبي شامل». وعلى أي حال فإن اتحاد رجال الأعمال بتونس المعروف باسم «اتحاد الأعراف» تحفظ بدوره على اقتراح حكومة الشاهد رفع الضرائب على ارباح الشركات الخاصة وإن ابقي الباب مفتوحا للتفاوض والقبول، فيما امتنعت معظم الأحزاب السياسية الرئيسية الى حينه عن اتخاذ موقفا من مقترحات الشاهد انتظارا لمناقشة ميزانية العام الجديد. ووفق ما أبلغ به «الأهرام» مصدر في البنك المركزي التونسي فان وفدا من الصندوق زار تونس مؤخرا وركز في مفاوضاته على تخفيض نسبة المرتبات والأجور بالدولة (14 في المائة من الناتج المحلي حاليا ). ومن جانبه يرى «الديماسي» أن اللجوء الى الاقتراض من صندوق النقد الدولي مرتين في ثلاث سنوات مع انه امر استثنائي ومؤشر سلبي لكنه كان حتميا ولا مفر منه لحاجة تونس الى قروض خارجية إضافية,هذا مع ان حجم هذه الديون قد تضاعف وبلغ نحو 70 مليار دينار تونسي (نحو 31 مليار دولار). ويضيف :لم يعدهناك حل بعد زيادة انفاق حكومات مابعد الثورة على الأجور والدعم إلا انعاش الاقتصاد وتحسين النمو . وكذا تقليص نفقات الميزانية من أجور ودعم الوقود . لكن «الديماسي» نفسه لايستبعد أن تؤدي مطالبات صندوق النقد الى احتجاجات اجتماعية في تونس .أما «العباسي» فهو لا يستطيع ان يتنبأ بحتمية اضطرابات كبيرة بتونس الشتاء المقبل .وقد أبلغنا وهو يزن كلماته بميزان ذهب بأن: «الوضع حساس ودقيق والمرحلة صعبة». وأضاف قائلا : «الذكي عليه ان يستشرف القادم قبل ان يقع المحظور».