لا أنكر احترامى العميق لجمال عبد الناصر، بالرغم من عدم اعترافى بالناصرية الحزبية، فلا حزب لعبد الناصر عندى سوى (تحالف قوى الشعب العربى العاملة المبدعة والمنتجة)، ويمكن صياغة هذا التحالف تحت أى مسمى لا يهمش الشعب وقواه الحية فى اسم شخص، حتى وإن كان عبد الناصر نفسه، فهو لم يكن إلا مترجما مخلصا لمشاعر الشعب العربى ومعبرا صادقا عن تطلعاته. لذلك كان عبد الناصر رمزا خالدا، وقدوة فى المهارة والمسلك، لا ينكر نقاءه وكفاءته حتى أشد أعدائه حقدا عليه.
لقد كان جمال عبد الناصر أنموذجا مبهرا للمواطن العربى المسلم الملتزم، والمبدع المجتهد.
من يزايد على عمق إيمان جمال عبد الناصر، ونصاعة إسلامه، لا يمكنه أن ينكر أن جمال عبد الناصر كان أول مسلم فى التاريخ يتم بأمره وفى فترة حكمه جمع القرآن الكريم فى شرائط مسموعة مرتلا ومجودا، طبع منها مئات الملايين التى انتشرت فى جميع أنحاء المعمورة، وأن عدد المساجد التى بنيت فى عصره زادت على عشرة آلاف مسجد، مساوية بهذا العدد ما تم بناؤه من مساجد منذ الفتح الإسلامى حتى قيام ثورة الضباط الوحدويين الأحرار المجيدة عام 1952 من ميلاد المسيح عليه السلام، وانتشرت المساجد التى بنيت فى ذلك العصر فى جميع القارات، فأول مسجد بنى فى أمريكا كان بأمر من عبد الناصر الذى لم يكن طائفيا، والدليل أن عبد الناصر رحمه الله مول بناء أول مسجد للشيعة فى أمريكا، وأن زوجته سيدة فاضلة من أصول إيرانية، وأنه مكن الإمام الخومينى من الإقامة فى النجف الأشرف أيام عبد الرحمن عارف، ناهيك عن تطوير الأزهر الذى تحول إلى منارة علمية تخرج العلماء من جميع المذاهب فى كل المجالات فقه وطب وهندسة، وكل صنوف الدراسات والعلوم التطبيقية والإنسانية، تشع بنورها على المسلمين فى العالم أجمع، وأكبر دليل على ذلك مدينة البعوث التى تمتد على مساحة ثلاثين فدانا يسكنها طلاب مسلمون من سبعين دولة من القارات الخمس، يدرسون ويقيمون إقامة كريمة كاملة مجانا، وفى عهد عبد الناصر تم وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامى والتى ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف فى عشرات المجلدات وتم توزيعها فى العالم كله.
فى كتاب (فلسفة الثورة) تناول عبد الناصر الدوائر التى ستتحرك فيها السياسة المصرية ومنها الدائرة الإسلامية التى تتداخل مع الدائرة العربية والدائرة الإفريقية، وتعد مصر جزءا فاعلا فيها. لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله وطيب ثراه، أحرص زعيم عربى ومسلم على الإسلام، ونشر تعاليمه الداعية إلى العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، لذلك سجلت بعثات نشر الإسلام فى إفريقيا وآسيا فترة حكمه أعلى نسب تحول نحو الإسلام فى التاريخ، حيث بلغ عدد الذين اختاروا الإسلام دينا بفضل بعثات الأزهر 7 أشخاص من كل 10 مستهدفين، وهى نسب غير مسبوقة حسب إحصائيات مجلس الكنائس العالمي. وفى عهده صدر قانون بتحريم القمار ومنعه، كما أصدر عبد الناصر قرارات بإغلاق كل المحافل الماسونية ونوادى الروتارى والمحافل البهائية، كما تم إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة التى كانت مقننة فى العهد الملكى، وتدفع العاهرات عنها ضرائب للحكومة مقابل الحصول على رخصة العمل والكشف الطبى.
فى عهد عبد الناصر تمكنت المرأة من التعليم الدينى، حيث تم افتتاح معاهد أزهرية خاصة بهن، وأقيمت مسابقات عديدة فى كل المدن لتحفيظ القرآن الكريم، وطبعت منه ملايين المصاحف، التى انتشرت فى كل البلاد الإسلامية، وأوفدت البعثات للتعريف بالإسلام فى كل إفريقيا وآسيا، كما تمت طباعة كل كتب التراث الإسلامى فى مطابع الدولة طبعات شعبية لتكون فى متناول الجميع، وكان جمال عبد الناصر رحمه الله دائم الحرص على أداء فريضة الصلاة يومياً، والالتزام بكل الشعائر، كما كان حريصاً أيضاً على أداء فريضة صلاة الجمعة مع المواطنين فى المساجد، وأكرمه الله بالوفاة يوم الاثنين الذى وافق 27 رجب، فى ذكرى يوم فضله الدينى عظيم ومعروف للكافة، إنه اليوم الذى أسرى فيه الله بعبده صلى الله عليه وسلم من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان الله العظيم الكريم.
ومع كل هذا الالتزام الدينى الجلى بالإسلام منهجا وسلوكا، كانت علاقة الرئيس جمال عبد الناصر ممتازة بالنصارى، وقد أمر بأن يكون عدد الكنائس المبنية سنويا خمس وعشرين كنيسة، بناء على تشاور مع البابا كيرلس السادس الذى ارتبط معه بصداقة مشهودة، وأن يكون التصريح بها بتوجيه من البابا نفسه إلى الجهات الرسمية. وساهمت الدولة مساهمة كبيرة فى بناء كاتدرائية تليق بمكانة مصر (كاتدرائية العباسية)، وحرصا على مصالح المصريين المسيحيين أمر الرئيس المرحوم بإذن الله جمال عبد الناصر بعقد اجتماع أسبوعى بين وزير رئاسة شئون الجمهورية، وسكرتير البابا لحل كل المشاكل التى قد تواجه الكنيسة وأتباعها. و بناء على أوامره كان يعقد اجتماع أسبوعى كل يوم اثنين بين وزير شئون رئاسة الجمهورية وأسقف الخدمات سكرتير البابا، لبحث وحل أية مشاكل طارئة. وقام عبد الناصر بدعم توحيد الكنيستين المصرية والإثيوبية تحت الرئاسة الروحية للبابا كيرلس السادس.
بفضل تلك القيادة الرشيدة المستمدة من أصالة الشعب المصرى العظيم، والمعبرة عن نسيجه الاجتماعى المبهر، لم تقع فى عصر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر حادثة طائفية واحدة بين المسلمين والمسيحيين، ولم تنتشر دعاوى تكفير الشريك فى الوطن ومعاداته، كان هناك عدو واحد معروف ومحدد هو الاستعمار الإفرنجى الغربى، ورأس حربته المغروس فى خاصرة المسلمين لكيان العنصرى الهمجى الصهيوني. ولأجل مقاومة ذلك العدو ومواجهته الواجبة، كان المشروع القومى لجمال عبد الناصر، من أجل مصر قائدة العروبة والإسلام،أولا، وبها ومنها تكون نهضة العرب وعزتهم، دون تجنى على إخوتهم وأبناء وطنهم العربى الكبير الأقباط والمسيحيين العرب الأقحاح، ذلك المشروع الذى تآمرت عليه الرجعية العربية المدعومة صهيونيا، نفس الرجعية التى نراها كشرت عن أنيابها هذه الأيام مستقوية بالغرب المتصهين، الذى لم يتوقف منذ زمن عن الكيد للإسلام وأهله، فهل تنتبه الأمة لمشروع عبد الناصر ودوائره السياسية، لتعزيز روح المقاومة، من أجل غد يشرق على وطن عربى متألق ومزدهر بأهله؟.