لا بد أن نستعيد الوطن وإلا سيتحول الكثير من شبابنا إلى أحزمة ناسفة عشت الحكايات الخرافية.. والزهد فى الحياة يجعلك تمتلكها
سيمثل جار النبى الحلو فى تاريخ الأدب نموذجًا فريدًا، لا من حيث جدة إبداعه وفائدته فحسب، بل من حيث طغيان روحه المحبة على ما يكتب، وتسربها إلى نفس قارئها، إن هذا الحزن الشفيف الذى يملأ نصوص جار ليس محض حنين إلى ماضٍ جميل غابرٍ، ما أشبهه بابتسامة مطمئنة لراهبٍ يرعى شياه الناس، ويعود موزعًا ألبانها على من يعرف ومن لا يعرف، إنه شجرة الكافور التى تطل على التوغل العمراني، إنه "ابن نوح" فى قصيدة أمل دنقل.. ذلك الذى رفض الفرار من المحن.. وقال لا لكل شيء إلا للوطن ومؤخراً فاز جار النبى الحلو بجائزة التفوق فى الآداب.
لن تقرأ سطرًا لجار إلا ووجه ماثلاً عليه، لا فرق بين قصة أطفال ورواية عن عجوزين يقصان على الحياة العجوز حكايات فتبسم حينا، وتدمع حينًا. سيلتفت النقاد ذات يوم لجار ونظرائه، أولئك الذين استقروا فى قراهم ومدنهم وأوطانهم، أولئك الذين جعلوا القلم فأسا ومغزلا ومصباحًا.
سيجمع إبداع جار المتباعد؛ فيقاوم دون صخب، ويزرع دونما شقاء، يقرأ عن محلته سكان الأقاصي، ويمسك ببهجته أطفال لمَّا يتهجون بعد.. مع الأشيب الطفل فى السبعين الأولى نقف ونتحاور.. ها نحن نقف فوق مآذن المدينة لنسأل: هل من مجيب؟
يتعلم الكاتب من رحلته فى الكتابة.. هل هذا صحيح؟ وماذا وجدت هناك؟ رحلة الكتابة شاقة ومجهدة وممتعة، وهى بالتأكيد المعلم الحقيقى للكاتب، فى التجربة الحياتية وحدها لا تكفى لصنع الكاتب، إنما كيف تطور فنك ورؤيتك وأدواتك؟ كيف تلتقط العين لحظة واحدة تفجر كل هذه المشاعر؟ وشخصيًا عندى تجارب مختلفة الأداء فى الكتابة، مثلًا "حكايات جار النبى الحلو" غير "طعم القرنفل" غير "قمع الهوى" غير الروايات. وقد علمتنى كل قصة كيف أخطو خطوة للأمام لتجاوزها، عانيت كثيرًا فى الكتابة، لم ينقذنى سوى أننى لم أهتم بنقد أو تلميع، بل مشيت وراء عشقى لكتابة ما أحبه، وتعلمت بالممارسة أن الحكاية غير القصة، وأن عين طفل ترى غير ما يراه رجل عاشق، وتعرف أننى أكتب للأطفال، كل مرة، والسيناريو. تجربة فى الكتابة ومهارة لا بد أن نتعامل معها، رحلة الكتابة جعلتنى الآن فى حالة شغف لما سأكتبه فى المستقبل، وكيف تحولنى اللغة والجملة لكاتب يحقق رؤاه بأدواته، وأكثر ما أسعدنى فى هذه الرحلة بساطة الحكى وعمقه.
القارئ لجار يجد أنه أمام كاتب محب للحياة وزاهدٍ فيها أيضًا.. كيف يمكنه تفسير ذلك؟
أنا كاتب محب للحياة، أفرح بالوردة والشارع والطفل والشمس، والدفء فى عز الشتاء، وأفرح حين أجد شابًا قرأ لي. أفرح جدًا بالشاى الساخن. هل تعرف لماذا؟ لأننى فى حالة رضا عن نفسى منذ كنت شابًا، فى شبابى قرأت جملة فى رواية "ابنة الضابط" لبوشكين يقول فيها "حافظ على شرفك منذ أيام صباك" وضعت هذه الجملة حلقة فى أذني.
ألم تحدثك نفسك ذات يوم لتلحق برفاقك الذين هجروا الإقليم إلى العاصمة أو الخليج؟ وكيف قلت لها حينئذ؟
لم تحدثنى نفسى قط بأن أفعل كما يفعل زميل، أمتلك قناعتى الخاصة، أنا أحب هذا الوطن ولن أغادره إلا ميتًا، ورفاقى الذين تحركوا من المحلة إلى العاصمة كانت الأسباب عديدة، منها التعليم والعمل، والتوق لحياة مختلفة عن المدينة الصغيرة أو ريفها، وكل هذه أحلام مشروعة، كل من نعرفهم بالقاهرة كان زائرًا، وبعضهم مقيمًا، ولكن مرحلة "السادات" حين ضاق الأمر على المثقفين رحلوا إلى الخليج، وكنا هنا ننشر ونكتب فى مجلات "الماستر" (كانت تكتب على الآلة الكاتبة وتطبع) بفلوسنا القليلة وبالغضب والإصرار استطاع من ظل بالسفينة أن يستمر ويقوم بدوره، لكن رحلتهم أيضًا كانت مشروعة، غير أن نفسى لم تأمرنى أن أترك وطني، وفى كل آن أقول لنفسى أشكرك لأنك فى حالة صمود دائمة.
ثمة رابط ما بين كتاباتك متنوعة الجنس الأدبي.. هل هذا صحيح.. ولماذا؟
نعم.. يوجد رابط بين كتاباتى متنوعة الجنس الأدبي، الرابط هو أنا، فأنا فى كل اللقطات أو المشاهد أو الكادرات، أطل بروحى وعينى وفكري، لم أكتب بشكل ثقافى، بمعنى لم أكتب نتاج القراءة والاطلاع والثقافة المتفق عليها، لكننى كتبت ما عشته وما أعرفه وما حلمت به، وبما كسر ظهر هذا الوطن فى أوقات مختلفة، كنت دائمًا فى قلب المشهد، ولكن أدوات التعبير، لعلك تجد جار النبى الحلو فى مواضع كثيرة، وتجده فى حكاياته وروايته، نعم عشت لأكتب حياتي، وأتأمل الشخوص التى منحتنى فرصة الحياة، والشخوص التى كسرها الفقر والتهميش، وحلمت كثيرًا بشخوص أعطت للكتابة وجهًا جديدًا، وملامح مختلفة، نعم أنا فى كل أعمالى برؤى مختلفة.
ربما لا يعرف الكاتب فى بداية رحلته أنه منذور لمهمة ما.. لكنه فى الطريق يعرف ذلك.. إلى أى حد ينطبق ذلك عليك؟
ولدت فى بيت على نهر، المحلة خلف بيتنا، وأمامنا نهر وخلفه أفق من الغيطان، تأملت طيورًا لم أعرفها، منذ طفولتى وصباى، وعندى كلب أرعاه ويحبنى وأربيه فى جنينة بيتنا الصغيرة، ركبت مركب الصياد صاحب أبي، وعشت أوقات الفزع والصراخ عندما يغرق أحدهم فى النهر، رأيت الغرقى، وتابعت البنت التى تنادى على أخيها الغريق لأيام عديدة، وعشت الحكايات الخرافية عن العفاريت، واستمعت لأبى وهو يحكى عنترة، وتفرجت على مكتبته "ألف ليلة وليلة" وأعمال جورجى زيدان وتفسير الأحلام لابن سيرين، ولبدت فى أمى وهى تهمس لى بحكايات العائلة من فرح وخوف وغدر وموت، أما جدتى – لأمي- القعيدة فقد حملت وأنا فى العاشرة من عمرى كراستى لأكتب حواديتها، وكانت تبهرني، وأحاول أن أعيد صياغة حواديتها مرة ثانية، أعطانى أخى بكر مفتاح مكتبته فى العام 1956 ولم أخرج منها بعد، عشت ما بين النهر وقطار الدلتا ودور السينما، وأخواتى البنات، سمعت حكايات البنات، ورأيت أحلامهن فى توهج عيونهن بالفرح، وعشت انكساراتهن، كان أخى الأكبر يحب شراء الخيول وركوبها، كنت منذ العاشرة من عمرى أدخل دار السينما وحدي، عشت مولعًا بالسينما حتى اللحظة، عشت بين دور عائلتنا التى كانت متمركزة فى الوراقة، لى خبرة برائحة الأشياء، بين عائلتنا رأيت عنف اللحظات، وصفوها، وضعفها وقوتها، لم تغادرنى أبدًا تلك المشاعر ولا تلك الحكايات، حفظتها، فأعطتنى سرها وكنوز حكاياتها، كل ما حاولته، أن أدون تلك الحواديت والكنوز فى شكل يعطينى المتعة للحياة هو القصة ثم الرواية والحكايات، عرفت ذلك مبكرًا حين قال أستاذى "عبدالفتاح الجمل" "إنك لا تكتب مثل أحد" فأدركت مهمتى فى الحياة والكتابة.
لماذا نأت كتابتك عن الاصطدام بالتابو (الدين والجنس والسياسة)؟
تنأى كتاباتى عن الاصطدام بالتابو (الدين – الجنس – السياسة) تنأى عن الاصطدام المباشر والرغبة فى الاستعراض، والزعيق بأننى أستطيع، وإثارة اللفظ، نأيت عن كل هذا، لأننى ببساطة فى أعمالى تناولت كل هذا فى شخوص تعانى من القهر والعنف، ولها أحلامها بمجرد يوم طيب للحياة، وكل ما يحدث لنا هو فى الحقيقة نتيجة مباشرة لهذا التابو، هو الذى يدفع إلى الدراما، وإلى الحلم، وإلى الثورة، أعمالى القصصية والروائية نتيجة التابو، أنا فقط لا أزعق وأذكرك بالزعيق، وأن الكاتب مضطهد وحريته غير مكفولة أقصر الطرق للشهرة.
يرى البعض أن كتابتك القصصية والروائية.. سيرة ذاتية لمدينة المحلة.. فما دافعهم لذلك؟
مدينة المحلة الكبرى.. جزء من مصر، ينعكس عليها ضغوط الحروب والاقتصاد والسياسة، مدينة المحلة.. مدينة العمال والفلاحين بامتياز، ففيها أكبر مصانع الغزل والنسيج وعدد هائل من المصانع الصغيرة جنبًا إلى جنب مع الصناعات الصغيرة، وكان يحوطها أكبر رقعة زراعية، وروح العمال جعلتها مدينة ذات طابع ثوري، قد ينتفض وينطفئ، ولكنه دائمًا ينذر بالخطر، وتناولت فى رواياتى الخمس حياة المدينة وشخوصها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، الروايات سيرة نعم للمدينة التى ازدهرت وخبت، تناولت – لاحظ بدون زعيق – شوارعها وناسها وأحلامها، مر عليها زمن عبدالناصر والسادات ومبارك و25 يناير وهى جزء لا يتجزأ من الوطن، وكثيرًا ما كانت تمثل عمود الخيمة للوطن، فى الروايات بترتيبها تاريخ للمدينة بالضبط تاريخ أصحابها.
فى كتابتك تظهر مسحة من حياتك.. سواء كتبت للأطفال "حكايات جدتي" أم روايات "حلم على نهر" أو قصص: " طعم القرنفل" فهل عنيت ذلك؟ ولماذا؟
نعم.. أنا فى حكايات جار النبى الحلو الصبى الذى يرى، ويكشف العالم ويتعرف عليه، فى الحكايات التى تجاوزت الستين حتى الآن لم تنشر كلها فى الكتاب الأول، ترى سيرة الصبي، والأب والأم والإخوة والأخوات والعالم، والبيت والنهر، ليست حكايات متناثرة أجمعها فى كتاب، إنما هى سيرة وحكايات تتألق بوعى الفرق الحقيقى بين القصة والحكاية، وستجدنى متناثرًا بين اعمالى لأننى العين التى رأت والروح التى تفجرت فى حجرة فوق سطح يزينها جيفارا وفيروز وبول إيلوار وناظم حكمت، فى الحقيقة أقول لك أنا لست مؤلفًا للقصص، وإنما أحكى ما عشته فى أرهف شكل للكتابة كما أتخيل، لعلنى فى "طعم القرنفل" أو "قمع الهوى" أو الروايات لكننى بالتأكيد أسكن أعمالى وفيها أتنفس وأحلم وإلا كنت من من زمان.
ثمة جنون فى هذا الكون.. رصدته كثيرًا فيما جرى للمحلة.. ما ملامحه؟ وما أسبابه وكيف نقاومه؟
سنوات التغيير والتبدل - للأسوأ- غيرت وجه المدينة الطيب، المدينة الصناعية الزراعية، وكان التبدل الأسود فى زمن الانفتاح الاقتصادى فى الثمانينيات، حيث افترشت الأرض الملابس المستعملة القادمة للموانئ المصرية من الخارج، تحول عدد كبير من الموظفين إلى أصحاب محلات ملابس مستوردة، وزحف الاستيلاء على الأراضى الزراعية، وتحولت الحقول إلى أبراج عالية للسكن، والغريب أن السيارات ملأت الشوارع والأزقة، واختفت المدينة وأغلق عدد كبير من المصانع الصغيرة التى كانت تنتج، وخرج معظم عمالها بلا عمل وتكدست المقاهي، ثم أتى التوك توك الذى اجتاح المدينة، وظاهرة البطالة تلمح على ناصية الشوارع، والسياسة ووجها الاقتصادى والانتهازى منذ عشرات السنين هو الذى شوه الملامح، تراكم العبث الاقتصادى أدى إلى فقر بعضه تحول إلى قفزات من البلطجة والإرهاب، والانتماء السطحى المضحك لأحزاب متطرفة، لا بد أن نستعيد الوطن بالوقوف بجانب الإنسان ودفعه للعمل والإنتاج، وإلا سيتحول الكثير من شبابنا إلى أحزمة ناسفة.
فى روايتك الأخيرة "العجوزان" ثمة حيل نصية أبرزها تقسيم النص إلى ما يشبه القصص القصيرة أو المشاهد السينمائية، وتصدير المشهد أو إنهاؤه بلفظ العجوز، وتعمية البطل المحكى عنه "فايز" بما أشعرنى أن هناك مقاومة لشيخوخة ما بتجزئتها وبالاعتراف بها.. كيف ترى هذا؟
فى رواية "العجوزان"ثمة حيل نصية، نعم، وباستثناء الفصل الأخير الذى يضع نقطة فى أخر سطر للرواية، فإن القارئ يستطيع أن يقرأ أى فصل قبل الآخر، ليست للرواية خط وسهم أو ترتيب أحداث، هى فصول متناثرة عن حياة العجوزين، الفصول مثل البقع اللونية، كل لون على حدة لكن فى النهاية تكون هذه الألوان لوحة واحدة تشى بكل ما تعنيه، ويوجد رواه متعددين مثل رفيق وفايز وياسمين والجار، كلهم أصوات مختلفة لكنها تصنع فى النهاية أيضًا نغمًا ساطعًا يحكي، و"العجوزان" يقاومان الشيخوخة، نعم، وكل منهما له طريقته فى فرحه بالحياة، العجوزان رؤيتان محايدتان فى متابعة تطور المدينة، يشاركان فى الحدث ويخرجان منه/ مازالت لهما أحلامهما.
فى يناير تصل شجرتك إلى الثمرة الواحدة والسبعين.. ماذا يحمل جار لنفسه بعد هذه الرحلة؟ وماذا يظن أنه قدم لقرائه ومحبيه؟ وماذا سيحمل فى الأيام المقبلة؟
فى يناير تصل شجرتى إلى الثمرة السبعين وما زلت مطمئنًا لنفسى لأننى ما زلت منحازًا للفقراء والمهمشين، ما زلت أحمل أحلامى للوطن التى لم تتحقق، إعض أصبعى وأسأل بعد كل هذا العمر لا نتقدم خطوة بل خطوات للوراء، لماذا يتبدل شكل الاستعمار والقهر والتخلف، أعض إصبعى وأسأل كيف يعيش أحفادى بشكل إنساني، أستغرب حين أتذكر تعليمى فى المدرسة الابتدائية والتعليم الآن، مازلت فى دهشة من أعمال أدبية وفنية وموسيقى ولوحات كونت وجداننا، لماذا صرنا مثل صحراء لو نبتت فيه شجرة طيبة أدار لها الكثير ظهورهم، قدمت روحى وحلمى ورغباتى الإنسانية منذ القبيح والوردة وطعم القرنفل حتى "العجوزان" كنت فيها جميعًا طفلًا يفرح ويتقافز ويبوح ويحلم، لست حزينًا للأحلام التى اندثرت، لأن أحفادى سيبدأون حلمًا جديدًا.
لا أملك فى الأيام والسنوات المقبلة إلا كتاباتى وعشقى لوطني، وإن لم ألحق بالسنوات المقبلة لا أملك سوى أن أهدى لكم جميعًا كتاباتى المتواضعة التى تحبكم.