ظل مصنع «القرش» يمد ورش تصنيع الطرابيش بما تحتاجه حتى إغلاقه عام 1962 مع إلغاء ألقاب بك وباشا وأفندى مهنة الطرابيشى شبه انقرضت ومن يعملون بها الآن لسد حاجة صناعة السينما والسياحة
محل أحمد الطرابيشى بالغورية أقدم وأشهر صانع للطرابيش ومن رواده الملك فاروق والملك الحسن وشيوخ الأزهر
عندما كان الطربوش زيا رسميا للطلبة والموظفين والضباط كان يوجد فى كل شارع وحارة محل للطرابيش
عندما تسير فى شارع الغورية فى منطقة الحسين لابد أن يلفت نظرك محل الطرابيش الكائن هناك.. وتقف لتنظر إلى ديكورات المحل العتيقة وأشكال الطرابيش وصور أشهر من ارتدى هذا الطربوش من المشاهير والملوك المعلقة داخل المحل وعلى واجهته، حيث يوجد أقدم محل لصناعة وبيع الطرابيش، وقد يكون الوحيد الذى لا يزال يعمل فى تلك الصنعة، هو محل الحاج أحمد الطرابيشى الذى يعود إلى 126 سنة مضت، تحمل بين طياتها عبق الماضى والزمن الجميل. أوصى الحاج أحمد أبناءه وأحفاده من بعده قبل وفاته ألا يتركوا هذه المهنة وأن يحافظوا عليها، ورغم أنها مهنة أصبحت شبه منقرضة بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر “إلغاء ارتداء الطربوش “عام 1962 الأمر الذى جعل أغلب صانعى هذه المهنة يتركونها ويذهبون إلى البحث عن مهنة أخرى. الحاج أحمد الطرابيشى، كان أشهر من عمل فى ذلك المجال، ومن المحل ارتدى ملوك مصر الطرابيش، ومنهم «الملك فاروق» وملك المغرب «الملك الحسن» وشيوخ الأزهر الشريف، كما أن شيخ الأزهر الراحل «محمد سيد طنطاوي» لا يشترى العمة التى كان يرتديها إلا من ذلك المحل. واليوم أصبح أحفاد صاحب المحل يعانون قلة الطلب حتى من شيوخ الأزهر لم يصبحوا متمسكين بالعمة كما فى السابق، وأصبح صناع الطربوش يعملون بشكل موسمى للطرابيش المستخدمة فى المسلسلات والأفلام التاريخية أو لبعض السياح. وللطربوش تاريخ قديم جدا، فهو فى الأصل عادة عثمانية انتقلت للأتراك وأدخلها محمد على باشا إلى مصر عام 1805 وجعلها الزى الرسمى لطلبة المداس والجامعات والموظفين والظباط ورجال القصر، وأصل كلمة طربوش، فهو من كلمة “سربوش” الفارسية، ومعناها غطاء الرأس، وعربت فى بادئ الأمر، باسم: الشربوش، ومن ثم استبدلت بكلمة الطربوش، وأنشأ محمد على مصنعا خاصا لإنتاجه بمدينة “فوة” بمحافظة كفر الشيخ عام 1828، وبمرور الزمن تدهور إنتاج هذا المصنع ما أوجد أزمة كبيرة فى المجتمع المصرى، لدرجة دفعت بالسلطان حسين كامل عام 1917 إلى الإعلان عن «مشروع القرش»، أى تجميع قرش واحد من كل مصرى لعمل مصنع لخامات الطرابيش سمى مصنع القرش. ظل ذلك المصنع يمد ورش تصنيع الطرابيش فى عموم مصر بما تحتاج إليه من خامات حيث كان كل شارع لابد أن يكون فيه محل لصناعة الطرابيش خصوصا فى القاهرة والإسكندرية والمحافظات الكبرى، إلى أن أغلقته الدولة عام 1962 فى أعقاب القرار بمنع ارتداء الطربوش فى الدواوين والمصالح الحكومية والشرطة والمدارس تزامنا مع إلغاء الألقاب الرسمية (كالبيك والباشا والأفندى). وقد أدى هذا القرار إلى تدهور المهنة وأحوال العاملين بها، فأغلق الكثير من الورش واتجه غالبية الصناع المهرة إلى العمل فى مهن أخرى تضمن لهم دخلا يعينهم على الحياة. تغيير شكل الطربوش من عهد محمد على إلى الوالى سعيد ثم الخديو إسماعيل وصولا إلى الملك فاروق، وكانت نظافة الطربوش والاهتمام به دليلا على الأناقة والذوق العالى، كما أن لون زر الطربوش فيما مضى كان يدل على مكانة صاحبه، فاللون الكحلى يرمز لطبقة الباشاوات والأمراء، بينما الأسود يرمز للأساتذة والأفندية وأئمة المساجد. أما الزر اللبنى فكان يقتصر على من يقرأون القرآن فى المآتم ويسيرون فى مقدمة الجنازات. وكانت صناعة الطرابيش فى وقت من الأوقات مصدر دخل أساسى مربح جدا لأصحابها وكانت من المهن المحترمة فى الأربعينيات عندما كان الطربوش جزءا أساسيا من الزى، وكان أصحاب هذه المهنة من أعيان البلد ومن الرجال المحترمين الذين يتمتعون باحترام الجميع. من الأشياء الغريبة أن أصحاب هذه المهنة كانوا يتمتعون بالهدوء غير العادى والصبر وطول البال وسمو الأخلاق، إلا أنها الآن أصبحت فولكلورا وتراثا، خصوصا بعد أن حاول العديد من العمال التأقلم مع الصنعة لكنهم فشلوا. وكان الإقبال على شراء الطرابيش قديما، يكون فى قمته، خلال الفترة من أواخر شهر يونيو حتى سبتمبر فى كل عام. وهو وقت استعداد طلاب المعاهد الأزهرية وطلاب المدارس والجامعات للعام الدراسي. ومن العادات الغريبة فى ذلك الزمان أن الشخص إذا مات يحمل فى نعش على الأكتاف إلى مثواه الأخير، يوضع على خشبة مرتفعة نسبيا على جسم النعش الطربوش الذى كان يرتديه أو العمامة أو الطاقية التى كان يغطى بها رأسه، وظلت هذه العادة متبعة إلى وقت قريب، حيث يذهب مع صاحبه إلى مثواه الأخير ليعود الطربوش وحيدا مع ما كان فى النعش من مفروشات ليوضع فى مكان مميز داخل البيت لا يمسه أحد، حتى مضى الزمان ونسى الناس من مات ونسوا أيضا طربوشه الذى ما لبث أن ضاع أو أتلف. كما كان الطربوش ملازما لصاحبه فى المقابلات الرسمية والمناسبات المهمة وفى الأعياد والمواساة فى العزاء. والطربوش يتميز بثلاثة أشكال أساسية، مصرى وتركى ومغربي، فالطربوش المصرى هو الأكثر طولاً، إذ يبلغ طوله 17 سم. ويتميز بأنه دائرى الشكل. ويكون أسفله أعرض من قمته. وأما التركى فهو مطابق لشكل الطربوش المصري، ولكنه أقل طولاً (10 سم). وأما المغربى فيبلغ طوله تقريبا نصف طول نظيره المصري، ويماثله فى الشكل. وبالنسبة إلى مقاسات الطربوش، فهى (55 سم، 56 سم، 57 سم، 58 سم، 59 سم، 62 سم). أما مقاسات الأطفال، فتبدأ من (36 سم وحتى 48 سم). ويتراوح سعر الطربوش ما بين عشرة إلى 50 جنيها . ويختلف السعر حسب جودة الخامة. أما الخامات المستخدمة فى صناعة الطربوش هى خامات عديدة من القماش الذى يستعمل فى صناعة الطربوش. وهو عموما تتكون من قماش الجوخ والصوف، وتختلف الأنواع فى جودتها، فهناك أبو فلة الذى يعد من أجود أنواع أقمشة الطربوش، وهناك أيضا الزفير والنسر والتحرير، وكل هذه الأنواع اختفت فى فترة الستينيات، أما الأدوات الأخرى، التى تستعمل بجانب القماش فى صناعة الطربوش، فهى عبارة عن قطعة من الخوص وشريط من الجلد ومادة النشاء التى تستعمل للصق الخوص بالقماش، إضافة إلى الزر، وخاماته تكون من الحرير أو البلاستر. وصناعة الطربوش الواحد تستغرق ثلاث ساعات على الأكثر وهى صناعة دقيقة ويدوية تتميز بالحرفية الشديدة، لذلك فإن الصانع لا بد أن يتحلى بالصبر والمهارة اليدوية العالية، فأى خطأ يظهر بوضوح فى هيئة الطربوش مثل الاعوجاج يمينا أو يسارا أو وجود كسرات فى القماش، وأن كل طربوش يصنع وفقا لقالب خاص يناسب رأس الزبون، أما فى حال إنتاج كمية من دون قياس فإنه يتم تصنيعها على القالب المتوسط 25سم، وهو مقاس قطر رأس غالبية الناس، كما أن تجهيز قوالب القش والخوص تعد الخطوة الأولى فى تلك الصناعة، حيث يتم وضعها حول قالب نحاسى بدقة بالغة، ثم يوضع الصوف، ويتم تثبيتها تحت مكبس خاص لنحو ساعتين فى درجة حرارة دافئة كى لا يحترق القماش، وبعدها يتم تركيب الزر، وبعدها يصبح جاهزا للاستعمال. وفى السينما جسد شخصية صانع الطرابيش الفنان إسماعيل ياسين فى فيلم شهير وهو “منديل الحلو” مشاركا البطولة الفنانين عبد العزيز محمود وتحية كاريوكا، كما تناول الروائى الفرنسي، (روبير سولي)، فى روايته “الطربوش”، قضية مجتمعية منبتها وجذرها، واقع تاريخى ارتبط بمظهر الطربوش وما يرمز إليه من معان ودلالات سياسية. إذ يحكى عن المُذكرات الخاصة بعائلة البطركانى الشامية المسيحية والمقيمة فى مصر، عام 1916 م. أما أهم المشاهير الذين ارتدوا الطربوش على مستوى الملوك، فكان الملك المغربى الراحل الحسن الثانى والملك المصرى الراحل فاروق، وأمير الشعراء أحمد شوقى والأديب طه حسين وفكرى أباظة وسعد زغلول، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والمطرب المصرى الشعبى الراحل محمد طه ومشاهير القراء، كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ محمود خليل الحصرى والشيخ محمود محمد الطبلاوى والشيخ إسماعيل صادق العدوى.