ما بين قضايا هامشية وثانوية واستعراض للقوة العسكرية والسياسية ولقطات سيلفي متنوعة، مرت زيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب للتجمع الصهيوني، في حالة من الاهتمام المبالغ فيه، بعد استقباله استقبال الملوك، ونيله " بركة الرب " قبيل مغادرته. أنهى الرئيس ترامب زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة عصر اليوم، بعد أن قضى ما يزيد عن 28 ساعة كاملة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، زار خلالها أكثر من مكان وموقع فلسطيني محتل، في واحدة من الزيارات التاريخية والمهمة للتجمع الصهيوني، فوسائل الإعلام الإسرائيلية، المنشورة باللغة العبرية، قد أولت الاهتمام الجارف بزيارة ترامب وزوجته ميلانيا وعائلته، خاصة وأنها الزيارة الأولى لترامب للأراضي المحتلة، حيث زار قبلها المملكة العربية السعودية، وهي الزيارة التي حاول البعض تمنى زيارة المسؤولين الصهاينة الرياض من تل أبيب مباشرة، إذ بعد طيران ترامب من الرياض إلى الأراضي المحتلة مباشرة، ثمة رغبة صهيونية قوية في تطبيع العلاقات مع الدول العربية، على رأسها المملكة. بداية، تجدر الإشارة إلى أن صحيفة " وول ستريت جورنال " الأمريكية قد نشرت تقريرًا أفادت من خلاله أن ثمة مبادرة خليجية للتطبيع مع التجمع الصهيوني تقضي بشرط تجميد بناء المستوطنات الصهيونية فحسب مقابل تقدم بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الصهيوني في مسار السلام مع الطرف الفلسطيني، وتقديم مجموعة من التسهيلات الاقتصادية لتل أبيب من بينها، إقامة خطوط اتصال مباشرة بينها ودول الخليج العربي، وتوقيع اتفاقات اقتصادية بينهما، والسماح بطيران الطائرات الإسرائيلية فوق الأجواء الجوية لدول الخليج العربي، وهي مجموعة من التسهيلات التي تقدم مقابل لا شيء، وهو التقرير الذي نقلته جُل وسائل الإعلام الصهيونية، المنشورة باللغة العبرية، بعيد الصحيفة الأمريكية مباشرة، في دلالة واضحة على مدى تلهف الصهاينة لمثل هذه المبادرات، رغم رفض آريئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق للمبادرة العربية للسلام، الصادرة في القمة العربية ببيروت، في العام 2002، حينما اجتاح مدينة جنين الفلسطينية فور الانتهاء من أعمال تلك القمة، ردًا أو رفضًا للمبادرة العربية نفسها. الغريب أن القمة العربية الأخيرة بالأردن حاولت تجديد مسار هذه المبادرة، وإن كانت بشروط أفضل مما نظيرتها المبادرة العربية للسلام، في العام 2002، ومع ذلك أعلن نتانياهو، على الفور، عن بناءه لمستوطنة صهيونية جديدة في الضفة الغربية، وكأنه يرد على القمة العربية بالرفض القاطع، رغم تقديمها لشروط أسهل من نظيرتها السعودية، في العام نفسه ( 2002 )، مما يؤكد أن الكيان الصهيوني يرفض جُل المبادرات العربية للتطبيع، ويرغب في تركيع العالمين، العربي والإسلامي. ومع استهلال زيارة ترامب للمملكة السعودية ومن بعدها زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن الرئيس الأمريكي يرغب في إقامة تطبيع اقتصادي بين دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، والتجمع الصهيوني، وما الإعلان عن المبادرة العربية الأخيرة للتطبيع قبيل زيارة ترامب بيومين فقط إلا تأكيدًا لمسار التطبيع المرسوم سلفاً، كما أن ثمة دليلاً آخر على ذلك، يتمثل في تصريح وزيرين من الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي عن التطبيع الاقتصادي، حيث رأى كل من نفتالي بينيت، رئيس حزب " يهوديت هتوراه " وزير التعليم، ومعه إيليت شاكيد وزيرة القضاء، من الحزب نفسه، أن السلام الاقتصادي بين الطرفين، الفلسطيني والصهيوني، هو الأنجع للعلاقات الثنائية بينهما، مقارنة بالسلام السياسي! وبالتالي، فإن زيارة ترامب عشية مرور الذكرى الخمسين للحرب الصهيونية المعروفة باسم " حرب الأيام الستة "، أو حرب يونيو 1967، يرسخ ل " توتيد " أركان الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن ترامب قد أنهى رحلته المهمة بمقولته الشهيرة " علاقة الشعب اليهودي بمدينة القدس " أبدية "، وهو ما يشجع الصهاينة على الاستمرار في سياسة التنكيل بالشعب الفلسطيني، ووصمة ب " الإرهاب "، فضلاً عن أن ترامب قد صرح خلال زيارته للرياض قبل يومين بأن المقاومة " إرهابًا " ومع محاولة تفنيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لهذا التصريح، فإن ترامب يقصد بالفعل إدانة المقاومة بكافة أشكالها وصورها، والتشديد على الحفاظ على قوة التجمع الصهيوني، والحفاظ على التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي مقارنة بالجيوش العربية. لذلك لم نندهش من تخوف صحيفة " يديعوت أحرونوت " العبرية من صفقات السلاح الأمريكية للسعودية، التي وقعها ترامب خلال زيارته الأخيرة قبل يومين للرياض، وتبلغ 110 مليار دولار _ رغم أنها دفاعية في أغلبها _ من بين 460 مليار دولار حجم الصفقات التجارية والعسكرية بين الطرفين، السعودي والأمريكي، وهو الأمر الذي يحمل في طياته الكثير، خاصة من ناحية قوة العلاقات الثنائية، أو اعتبار الإدارة الأمريكية وسيطًا بين الجانبين، السعودي والصهيوني، وربما يمهد الطريق للتطبيع الاقتصادي بينهما، على المدى القريب. استهل ترامب رحلاته الخارجية منذ توليه مهام منصبه، في العشرين من يناير الماضي، بزيارة مهمة للرياض ثم تلاها بزيارة الكيان الصهيوني، ليكتمل عقد التحالف الوثيق بدول صديقة للإدارة الأمريكية الجديدة، وللتأكيد على ذلك، فضلاً عن " تزييت " شركات السلاح الأمريكية، إذ من المعروف، وبقوة، أن ترامب يقوم مشروعه على الاقتصاد السياسي، وهو ما دفع بالناخبين الأمريكيين على انتخابه، رغم كونه معروف بتهوره الشديد، وعدم معرفته بأمور ودهاليز السياسة والبولوتيكا. عمد ترامب على محاولة استعادة الهيبة الأمريكية أمام المجتمع الدولي، حيث اجتمع بعشرات الرؤوساء والملوك العرب والمسلمين في قمة الرياض، ليؤكد أن الولاياتالمتحدة عائدة وبقوة، وهو ما يعني أن لدى ترامب وإدارته ثمة هواجس تشير إلى تراجع الهيبة الأمريكية والنفوذ الأمريكي حول العالم، خاصة مع اشتداد عود روسيا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ردده ترامب نفسه، غير مرة، في قمم الرياض الثلاث. فقد استقبل ترامب في الرياض استقبال الملوك والرؤساء، وتلقى الهدايا والهبات، وعقد صفقات تجارية وعسكرية، وهو الهدف من زيارته الخارجية الأولى للمنطقة، خاصة وأن فضائحه في الداخل الأمريكي بدأت رائحتها تفوح، فعمد على استغلال الشغف العربي والصهيوني بالولاياتالمتحدةالأمريكية، ليتوَّج زيارته للرياض وتل أبيب بحالة من الفرحة الشديدة، وبردود أفعال إيجابية من الطرفين، السعودي والإسرائيلي، معًا. في حالة نادرة وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وبشكل رسمي، تطير طائرة من الرياض إلى تل أبيب مباشرة، ليحط ترامب في الأراضي الفلسطينية المحتلة بطائرته الرئاسية، بعد استقبال أسطوري من نتانياهو وزوجته سارة، والرئيس الإسرائيلي رؤوبين ريفلين وزوجته، لتترقبه عدسات وكاميرات وسائل العالمية، خاصة المنشورة باللغة العبرية، وما بين إعطاء كلمات سريعة في أذنه والتقاط صور سيلفي ومراسم استقبال مختلفة عن نظراءه من الرؤوساء الأمريكيين، زار الرئيس الأمريكي الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتقي بشكل شخصي بريفلين ونتانياهو وأكد لهما قوة العلاقات الثنائية بينهما، وتشديده على استمرار الدعم الأمريكي، المادي والمعنوي، خاصة مناهضة التفوق النووي الإيراني، والعمل على كبح جماح الطموح الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، بل وإجهاض أية مقاومة مشروعة للاحتلال الإسرائيلي. زار ترامب حائط البراق فور وصوله للأراضي الفلسطينية المحتلة، للمرة الأولى في تاريخ روؤساء الولاياتالمتحدة، إذ يعد ترامب أول رئيس أمريكي يزور حائط البراق الفلسطيني، ثم متحف " ياد فاشيم "، متحف المحرقة، والمتحف الإسرائيلي، ثم زيارته مقر رئاسة الوزراء والمقر الرئيسي للرئيس الإسرائيلي، وهو برنامج ربما مضغوطًا لترامب، حيث قدرته صحيفة " معاريف " العبرية ب 28 ساعة فقط، حَّل فيها ترامب ضيفًا عزيزًا وأساسيًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، نال خلالها " بركة الرب " ، على حد زعم ميري ريجف وزيرة الثقافة والرياضة الصهيونية. الثابت أن التجمع الصهيوني أولى الاهتمام بقضايا ثانوية على هامش زيارة ترامب، سواء الملابس الشخصية لسارة نتانياهو أو ميلانيا ترامب، وسعره المبالغ فيه، ودور الأزياء المصممة لتلك الملابس، وكذلك صور السيلفي لترامب أو زوجته، سواء في مطار بن جوريون الدولي، أو مستشفى " هداسا " بمدينة عين كيرم بالقدسالمحتلة، وغيرها من القضايا الهامسية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في وقت أغفلت، وربما عمدًا، وسائل الإعلام الصهيونية عن القضايا الشائكة والرئيسة بين كل من نتانياهو وترامب.
بيد أنه مع نهاية اليوم الأول للزيارة، في ساعة متأخرة من يوم الأثنين، بدأت هذه الوسائل في نشر تقارير وأخبار مهمة تتعلق بمستقبل التجمع الصهيوني، حيث رأت أنه لا يلوح في الأفق سلام مع الشعب الفلسطيني مع وجود ترامب، فقد سمحت صحيفة " هاآرتس " العبرية بنشر أكثر من مقال يحوي هذا المضمون، مقارنة بصحيفة " يسرائيل هايوم " العبرية، التي رأت أن مستقبل التجمع الصهيوني سيكون في ظل ولاية ترامب نفسه، وهي رؤية متناقضة تعبر عن مدى التباين والهوة الواسعة داخل الكيان الصهيوني، فعلى الرغم من تأكيد الرئيس الأمريكي نفسه على بقاء إسرائيل والحفاظ على تفوقها النوعي، فإن هناك من يشكك في ولائه للتجمع الصهيوني.
نهاية، فإن زيارة ترامب التاريخية للأراضي الفلسطينية المحتلة ومن قبلها السعودية تعني منح المزيد من الوقت لإبقاء " إسرائيل " على الأراضي المحتلة، وتوتيد أركانها أكثر من ذي قبل، خاصة وأنه يشدد على تصديه للمشروع الإيراني في المنطقة، وعدم سماحه بتدمير إسرائيل في وجوده، ناهيك عن وصم المقاومة مستقبلا ب "الإرهاب"، وهو ما يعرقل جهود المنظمات الفلسطينية المقاومة في تصديها للعنترية الصهيونية والممارسات الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، مما يسمح بتوسع إسرائيلي أكثر في تقتيل الشعب الفلسطيني، وربما تمهيد الطريق لتلقين قطاع غزة دروسًا جديدة في حرب يسقط فيها آلاف الشهداء.