لو لم تكن للآلام ضريبة وثمن فادح ، لرقدنا جميعا على أبواب العذاب نلتمس النور ..
هذا ما خلصت إليه وأنا أذوب وأمُر وأتداخل مع صفحات رواية «خالد عميرة» الجديدة «بورفيريا الروح» ، وبعيداً عن أى كلمات قد تحمل معها شبهة إطراء أو مجاملة مثل كون الرواية قد حظيت بدوى ليس بقليل في معرض الكتاب الأخير ، وأن حفل توقيع الكتاب تحول إلى ندوة كبيرة في فن الكتابة الحديثة التى مزجت بقوة بين الرومانسية والرعب والتشويق ، فالحقيقة أن الرواية رغم كونها العمل الثانى للمؤلف إلا أنها من الحبكة الدرامية ما يجعلها كبسولة سهلة في مبناها وقراءتها ، عميقة وقوية في معناها ومقصدها .
ولأن «تيمة» الألم والعذاب والشقاء الإنسانى تيمة ناجحة ، في الأعمال الأدبية والسينمائية فقد كان الاختيار ذكياً ومحسوباً من المؤلف لها ، ليطمئن لتعاطف القراء وتشبثهم ببطل الرواية حتى آخره فصولها ، فحين تقرأ وتتعرف على «شريف قدري» جيدا ، وتتتلبس روحه في كل كلمة وشهقة ألم ، ولمحة فرحة ، وبصيص أمل يبدو كسراب بعيد ، وتعلو معه وتهبط مع كل شخصية يتعامل معها من حوله ، سيَمثُل أمامك شاخصاً «إنسان» بمعنى الكلمة ، بنى آدم كما خلقه الله في صورته المثلى ، يملك من النقاء والفطر السوية ما يمنعه من مقايضة البشر من حوله ، وإخفاء الحقيقة بحثاً عن مكاسب حياتية.
هذا الشاب المصاب بمرض نادر يضيف كل يوم إلى وجهه رقعة جديدة مشوهة ، ويجبره على إخفاء مساحة إضافية منه عن عيون الناس ، فضلا عما يكابده من نوبات صرع بين حين وآخر ، يفهم ما بين السطور في سلوك كل من حوله ، يعرف ويعى جيدا لما يضمرونه من إيماءات الشفقة أو إشارات ضمنية في كلماتهم عن مرضه ، وحالته المستعصية. ومن ثم يكشف زيف إحدى شخصيات الرواية التي تحاول استغلاله كحالة طبية نادرة ، عابثة بأحلامه في الشفاء ، وغير مكترثة بما يتمسك به أهله وذووه من بصيص الأمل في عودة ابنهم لهم إلى الحياة من جديد.
عن أسلوب الحكى ولغة الرواية المرنة ، تستطيع أن تكتشف الرابط الحقيقي بين خيوط الأحداث ، والسر وراء ركوبك كقارىء حروف العمل من صفحته الأولى ثم لا تتركها إلا في صفحتها الأخيرة .
لذلك فلغة خالد عميرة ، وأسلوبه المتفرد في الوصف كان في هذا العمل هو الصانع الأول لنجاحها ، وكمثال على ذلك حينما كان مضطراً وهو بصدد الحكى عن مرض له حقائق علمية وأعراض ومضاعفات أن يهرب بعبقرية من السرد الممل لجملة من العبارات العلمية خلال توصيف الحالة المرضية للبطل ، فذكرها على لسانه مندهشاً من الأعراض بعد أن فاجأته الطبيبة باسم المرض النادر «بورفيريا» ، وهو يبحث عن الأعراض على الإنترنت ويقرأ العرض ويتحسس آثاره على وجهه وروحه ، فلا تجد غضاضة معه وأنت تتعرف على الحقيقة العلمية للمرض !!
ورغم أن هناك من يعتبر النهاية المفتوحة ذات الاحتمالات المتعددة للرواية ، إحدى نقيصاتها ، لكنها في الحقيقة نهاية حتمية منطقية تشير إلى المقصد الحقيقي وراء الرواية ، وهى كشف زيف وخداع البشر واستغلالهم لمعاناة غيرهم.
هرب «شريف قدري» بعذاباته إلى دفء مؤقت بين أحضان من يحبونه حقاً دون مقابل ، واختار أن يصاحب مرضه ، ويستعذب آلامه ، فيحيا حياة يألفها ويفهمها ، هو محورها وبطلها ، خير من أن يعيش حياة تجعل منه مجرد مرحلة في كشف طبى جديد ، يخدم البشرية على أنقاض روحه المنهكة وجسده المتداعي كل يوم.
نصيحة ..لا تقرأ هذه الرواية وأنت في العمل أو المواصلات فتضطر إلى تركها بين الحين والآخر مما يعذبك ، ولكن أغلق على نفسك باب غرفتك ، وحلِّق مع «عميرة» وبراعة وصفه عبر «بورفيريا الروح».