نكره النظر فى المرآة لأنها ترينا حجم ما أصابنا من تشوهات عبر سنوات طويلة من المرض، ونكره الطبيب الذى يبدأ طريق العلاج بكشف الحقيقة؛ ولا يلجأ للمسكنات التى أدمناها على مدى عشرين سنة لعلاج التقلصات والقيء والندوب والدمامل. تمرد الشاب المصرى شريف قدرى على قدره واستسلم لقسوة العلاج من مرض بورفيريا النادر فى لحظة خوف من أن يتحول إلى مصاص دماء، بدأ بالتشخيص الصحيح والمعرفة كأول طريق للمواجهة والالتزام بمواعيد العلاج الذى يستهدف تغيير العقل بإشراف الدكتورة نهى الراغب، لأن هذا المرض الناتج عن الخلل فى كرات الدم الحمراء، يحمل تاريخا طويلا من الظلم والتشويه الذى ربطه تعسفيا باسطورة مصاصى الدماء وارتبط ببعض الشخصيات التاريخية مثل الفنان العالمى فان جوخ والشاعرة التشيلية إزابيل ألندى حتى الملك العراقى التاريخى «نبوخذ نصر» المسئول عن السبى البابلى لليهود !! وحكاية شريف خريج كلية الفنون مع المرض حكاية طويلة تظهره مجرد نقطة سوداء فى صحراء قاحلة يترصدها قرص الشمس الحارقة المحظورة عليه بسبب المرض الجلدي، التوقف فيها يعنى الموت شيا أو عطشا، يرى العلاج فيقترب منه فيراوغه ويبتعد فيجف الحلق ويصاب باليأس ويحدودب الظهر ويحبو على ركبتيه ويزحف منهوكا فتحوله الشمس المصلوبة إلى شريحة مشوية سهلة المضغ تقذفه الريح نحو هوة موغلة السواد يصدر من محبسه صرخة مكتومة لا يسمعها أحد يحاول الاستغاثة يعجز عن إطلاق صيحته الأخيرة، يقول آآآه آآآه ، حتى يسمعه البشر الذين رآهم فى ميدان على البعد، لم يسمعه أحد، فيكتشف أنه فى حلم، فيفتح عينيه، ليجد زوجة الأب تمد له فى حنان بالغ كوبا من الماء المغبش، يناديها دائما ماما ليلي، فهى أمه التى لا يعرف أمًا غيرها رغم أنف الفتاة النحيلة الجميلة التى أطلعه والده مدرس التاريخ على صورتها شديدة الجمال والتى كانت أمه، وماتت فى طفولته فتفتح وعيه على ماما ليلى التى وهبت نفسها لخدمته ورضيت بالزواج من والده دون إنجاب، يستمتع بغنائها ودعائها المحبب: يارب حبب فيه خلقك واجعل فى عينى شريف جوهرة وعلى لسانه سكرة ! طوال مشوار شريف مع المرض اللعين جرب علاجات أفيونية مخدرة وظل ضحية للتشنجات العصبية والقيء والاضطرابات النفسية والمخاوف والتشوهات والدمامل، وعطل عليه الشعور بالحب والرجفة التى سرت بين ضلوعه نحو «صافى» وأصابه العطب ونال المرض من روحه فأنهكها فاستكانت وانزوت فابتعد ابتعاد العاجز الخائف من لحظة الانكسار! وعنه يقول: أستشعر دبيب الموت حولى طوال الليل ، أشعر به يتسلل عبر النوافذ والأبواب، أشاهده أمامى فى المرآة وأشعر به يختبئ خلف الستائر والمقاعد، يتربص بى لحظة النوم يكتم أنفاسي، يجثم على صدري، لماذا هو جبان ولا يهاجم ضحاياه إلا ليلا ؟.. يقع شريف فريسة لسلسلة من العقد فى وطن يتوارى فيه العقل خلف غلالات من الأوهام، التى ينقلها ببراعة وخبث الكاتب خالد عميرة فى روايته الجديدة (بورفيريا الروح) المتفردة من حيث الشكل والمضمون، وخلال رحلتنا عبر صفحات الرواية نكتشف مع أبطال العمل جميعا أن مصاصى الدماء يعيشون بيننا، يرتدون ملابسنا، ويحيون حياتنا، فى وجوههم ربما بعض الجمال، لكن خلف كل ذلك الجمال الخادع مصاص يمص دم ضحاياه، فالطبيبة المتعلمة فى أمريكا تجرب علاجات لم يتم اعتمادها لتقوم بمص دم المريض، وأستاذها فى الجامعة يمص دماءها على أمل تحقيق مجد علمي، وشقيقها المثقف الواعى منير يمص دم زوجته، حتى والد شريف نفسه مص دم ماما ليلى حين اشترط عليها عدم الإنجاب لتتفرغ لرعايته وولده شريف، عالم كامل من مصاصى الدماء يتواطأون جميعا بتشوهاتهم النفسية والخلقية فى العيش على مص الدم المتبادل. ويعتمد خالد عميرة فى بنائه الروائى على تعدد أصوات الرواة، حيث تتكون الرواية من سبعة فصول يقوم بالسرد خلالها سبعة أشخاص مختلفين، يتناول كل منهم الأحداث من وجهة نظره وبلغته الخاصة، كل ذلك فى إطار خيط درامى واحد يجمع الشخوص حول شريف ويشكل اللوحة الكاملة الممتعة الشجية النابضة بالحياة من هذا الموزاييك المتماسك. ورغم حالة الحزن والشجن المسيطرة على الرواية ، فإن الكاتب يقدم ذلك بلغة شفافة، شديدة الحساسية والرهافة، تحمل قدرا كبيرا من الشاعرية والتأثير والبساطة الخادعة، المحملة بعمق المعانى وطزاجة الأفكار. إن خالد عميرة فى روايته الأولى كاتب متمكن من أدواته ورغم معرفتى المسبقة به ككاتب رقيق متميز فى القصة القصيرة من خلال مجموعته (ربما) وقصصه المنشورة فى الدوريات، فإننا نكتشفه فى بورفيريا الروح روائيا أكثر روعة وبساطة وتمكنا. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف;